الصائغ وميخائيل والربيعي يتأبطون- في المنفى- جنائز الحرب |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات لعل الأسئلة العديدة التي يحملها موضوعي هذا ناتجة عن زحمة الأفكار وثقل الإحباط والشتات الذي تعاني منه الأجيال الشعرية الحديثة في العراق وتوزع النقد حولها بين التقويم المستند آلي إحالات أيدلوجية أحيانا كثيرة، وأخرى موضوعية في أحيان قليلة,ويبدو آن الشعر آو النتاج الإبداعي هو أخر ما يفكر به الناقد الايديولوجي بتعبير اكثر دقة إذ تسبقه جملة من الشروط منها موقف هذا الشاعر من سين وصاد وإلى آخر الحروف أو الحروب وصولاً ألي اختراع مصطلحات جديدة تقسم المشهد إلى (داخل) و(خارج) والداخل من وجهة نظرهم هو نتاج سلطة!! أما الخارج فهو مقسم أيضا إلى مراحل زمنية ( اقدمهم في الخروج أكثرهم أيمانا) مستندين إلى الفكرة الدينية رغم ادعاءاتهم اليسارية البحتة! وتبدو خارطة المشهد النقدي اليوم قد رسمت بطريقة الأهواء لا بطريقة المعارف العلمية, فأما آن نكون موضوعيين ونعطي الناس حقوقهم آو لا فنزيد الطين بله فيزداد عدد المتزحلقين دون ذنب اقترفوه سوى عشقهم للكلمة وصناعتهم لأحلام وردية هاربين فيها من الواقع المرير الذي يعيشه العراقي اليوم شاعرا كان آم غيره,وحتى لا انظم آنا إلى قوافل رسامي الخرائط آو مقسمي الأغلال فأتناول الشعر من موازين البقالين سأدخل في طرح بعض أسئلتي التي بدأت بها ولعل أهمها هو لماذا لم ينتج لدينا أدب (رواية،قصة، مسرح، شعر،..الخ) بمستوى الأحداث التي مر بها العراق وما زال يمر ؟ ومن المسؤول عن ذلك ؟ السلطة في الداخل آم الأدباء الذين غادروا الوطن مبكرين آو متأخرين وابتلعتهم المنافي واطفئ حرارة كلماتهم صقيع الشتات ولياليه الطويلة؟ وهل صحيح آن لا أدب يمكن تاشيره في الداخل آم ذلك محض افتراءات يمكن إزاحة غبارها بنفخة هواء ساخنة تطلقها رئات لم تسودها الشعارات بعد, ففي دراسة حديثة للكاتبة هيفاء زنكنة* استعرضت فيها بنظرات شاملة واقع الثقافة العراقية في القرن الماضي تلخص في نهايتها إلى تأشير ثلاثة تجارب شعرية تميزت عن غيرها، هي"غيمة الصمغ" لعدنان الصائغ و"حدادا على ما تبقى" لعبد الرزاق الربيعي و"مزامير الغياب" لدنيا ميخائيل , وتذكر في مقطع اخر وصفا للناقد مصطفى الكيلاني يؤشر فيه تجاربهم بالقول (انهم يحولون فوضى الحرب الى لغة وبناء وخبرة جمالية تكتب وتقرأ) ولو استعرضنا حجم الكتابات التي تناولت تجارب الشعراء الثلاثة والنقود المتواصلة التي تناولت نتاجاتهم الشعرية لتيقنا من دحض الافتراضات القائلة بعدم وجود أدب بحجم الكارثة التي نعيشها اليوم إلا آن الذي يميز الأسماء الثلاثة عن غيرها هو كونهم أدباء (داخل) عاشوا آتون الحرب الأولى واكتووا بنارها ثم واصلو حراثة الشعر في التجربة الأكثر قسوة من الحرب الأولى آلا وهي كارثة الخليج الثانية التي لا يمكن وصفها بالقساوة والبشاعة فقط,وتم إصدار دواوينهم التي اشارت أليها الكاتبة وهم داخل الوطن كما أثارت التجارب الثلاث تساؤلات كبيرة تثير الدهشة لدى المبكرين في الخروج كونها كتبت داخل الوطن. لما تحمله من جرأة ووضوح يصل أحيانا آلي حد المواجهة المباشرة مع السلطة (تحاول آن ننتقي وطنا للجنون.. فيفاجئك الحرس الصلفون..ينامون بين قميصك والنبض)*وهذا المقطع لعدنان الصائغ يذكرني بما كتبه عنه الصحفي العراقي داوود الفرحان في جريدة الجمهورية ، إذ يقول(ديوانه الأخير سماء في خوذة ولد في عملية قيصرية صعبة وكاد ألا يرى النور بسبب الصدق النازف دما في بعض قصائده)* آو قصيدة دنيا ميخائيل (اقول للموتى تصبحون على سماء أخري.. تصلح قبعة للطيور تخرج المساءات من البحر مثل أجنحة مبللة بالبنادق)* أو قصيدة فراغات للربيعي إذ يقول (أملا خبالي....بالمناسب من دموع الأمهات...فأن عبيت....فلا تحك جبينك المضنى ..وفكر في تتمة)* وإذا كانت تلك التجارب قد صدرت في بداية التسعينات فان الجد المتواصل وليس الصدفة العجيبة قد حتمت آن تصدر ثلاثة تجارب جديدة أخرى للمجموعة نفسها في بداية الألفين، بعد آن غادر الشعراء الثلاثة ارض الوطن (الداخل) وتناثروا كالشظايا في المنافي البعيدة ,فقد صدر لعدنان الصائغ المقيم في السويد (تأبط منفى) و(الحرب تعمل بجد) لدنيا ميخائيل وهى مقيمة في الولايات المتحدة و(جنائز معلقة) لعبد الرزاق الربيعي وهو مقيم في سلطنة عمان , وبالتالي فقد اصبح الثلاثة وفقا للنقد الأيدلوجي أدباء (خارج) ووفقا للنقد الموضوعي أدباء مبدعون يواصلون السعي الجاد وهم يحملون وطنهم بين قلوبهم مرسخين أصول تجربتهم الشعرية بزخم لا يقل جرأة عن تجربتهم داخل الوطن: "لي بظل النخيل بلاد مسورة بالبنادق كيف الوصول أليها ..وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب وكيف أرى الصحب.. من غيبوا في الزنازين... أو كرشوا في الموازين.. أو سلموا للتراب"* فالحرب لم تفارق الصائغ لحظة واحدة وحتى إن اختفت كمفردة في القصيدة فاننا نجدها خلفية لها,وهو أمر يشاركه فيه الربيعي ودنيا . ففي قصيدة(بين حربين) تقول دنيا: "هذا هو كل ما تبقى حفنة أوراق محترقة... صورة هنا وهناك نتوءات على ظهورهم والخرائط.. أحدنا مات..." وفي مكان آخر من نفس القصيدة تقول: "أحدنا جن تماما..... وفي مكان آخر أيضا ... أحدنا هرب من البق والضباط ..وتختتم القصيدة...حتى أننا في تلك الوقفة القصيرة بين حربين نسينا بانا كبرنا"* وهي بهذا الختام تصور الجماعة بكل ما تحمله هذه الكلمة من مدلولات على شكل ثلاثة مصائر لا يقل أحدها بشاعة عن الآخر,آما الربيعي ففي مكانه البعيد عن الوطن أيضا يقول: "العراقي الذي تخذله الأعصاب في الباص يفور الجسد المثخن بالأوجاع يستهدي بالرحمن يمضي لاعنا ساعته السوداء والحرب ودهرا اجرد"* والربيعي بهذه القصيدة ما زال يركب الحافلة داخل بغداد ويتجول في شوارعها ومحلاتها,متفحصا الوجوه التي غادرها ولم تغادره, داحضا هو الأخر الافتراض القائل بنسيان أدباء الخارج أوضاع الداخل بعد إن ضاقوا حلاوة الحرية واستنشقوا هواء لم تلوثه رائحة البارود! وهو أمر يشاركه فيه الصائغ على طريقته الدافقة إذ يقول في قصيدته ثلاثة مقاطع للحيرة: "قال آبي لا تقصص رؤياك على أحد فالشارع ملغوما بالآذان, كل أذن يربطها سلك سري بالأخرى حتى تصل السلطان" وإذا تفحصنا هذا المقطع نجد آن الصائغ يحول كلمات البسطاء المبحوحة إلى قصيدة عالية الصوت والنقاوة,في حين تنتقى دنيا ميخائيل مفردة تميز العراقيين في كل إقصاء الأرض عن غيرهم من البشر وتضعها عنوانا لقصيدتها (شكو ماكو) وهي كلمة السر التي تتعرف بها على أي عراقي تراه وفي أي مكان ,ويبدو من خلال القراءة المتانيه للدواوين الثلاثة انك تجد صعوبة بالغة في تمييز طبعتها .. داخل آو خارج الوطن .. ولولا الأغلفة الأنيقة وأسماء دور الطبع المعروفة التي صدرت عنها لما ميزت حقا طباعتها في الخارج,ولهذا الموضوع اكثر من دلالة أولها..آن الوطن وأبناءه ظل ديدن أفكار هذه المجموعة كما أن الحرب قد حفرت طويلا في ذاكرتهم حتى بات من الصعب أن نتذكر أدب الحرب دون أن تبرز لنا هذه الأسماء ,وإذا كنا اليوم ونحن نعيش السنة الأولى من القرن الجديد يذكرنا الثلاثة بعنف بحربنا الفاجعة ..في الوقت الذي بهرت أضواء المنافي عيون البعض وأطفأت بصقيعها جذوة نار البعض الأخر,فأنهم بذلك يعيدونا إلى الوطن ا لذى تركناه مؤقتا ناسيين أحيانا هذه الكلمة الأخيرة (مؤقتا)حتى ولو بالحلم كما يفعل الربيعي في قصيدة (كابوس) إذ يقول.. "صافحت النخلة في الباب وأعذاق التمر تصفحت أغاني المهد سعال طفولتي الديكي عباءة جدي ما زالت مكتبتي في الركن سريري يتأبط غصن شجيرة رمان" وما زالت أعناق الورد المتسلق تعلو أكتاف الحيطان ...وفي لغة وديعة وانسيابية يأخذك بلطف إلى حيث دموع آلام ومشاكسات بنت الجيران..لكن الفرحة لا تدوم إذ يقول.. "أبصرت الحجاج بأوسمة الفتح وبدلته الزيتونية يمشي كالطاووس يصيح لقد أينعت الأجساد ببغداد وحان قطاف رؤوس صرخت فتحت العينين تعوذت بقلبي من حلم اصبح كابوس" وهنا سأعيد طرح اسألتي من جديد,ما هو أدب الخارج وأدب الداخل؟ فإذا كنا ألان نرى المفردات التي استخدمتها التجارب الثلاثة تكاد تتطابق في المرحلتين كما آن العناوين جاءت مكملة لمشروع كل منهما,فإذا كنت قد استعرت عنوان المقال من الدواوين الجديدة(تأبط جنائز الحرب) فهو يمكن آن يصلح (غيمة مزامير الحداد) لو انه كتب عن الدواوين الأولى, كما آن الجرأة هنا تتصاعد دون اعتبار للخوف من طائلة العقاب..داخليا آو خارجيا..آلا يحق لي ألان آن ادير ظهري للنقد الأيدلوجي واتجه إلى رأي الصائغ: (لا فاصل بين أدب الداخل والخارج آلا بمقدار الحرية في التعبير التي يمتلكها أدب المنفى ومساحة النزف التي يضج بها أدب الداخل)وإذا كانت الحرية هنا تقابل النزف هناك فهذا يعني تعادل منطقي يحمل خطورة واضحة هناك وتحدي مستمر هنا ,تلك الخطورة التي تلخصها دنيا في جريدة العرب اللندنية بالقول (كتاباتي عن الحرب لم تكن صراخا ولا لطما على الخدود إنما دهشة طفلة أمام العاب الكبار الخطيرة وتساؤل برئ قد لا يملك له السياسيون أجوبة مقنعة... وتضيف في مقطع آخر ,آن أكون هادئة ليس معناه آن لا تكون لدي اعتراضات بل أنني في الداخل دائمة الاحتجاج ويمكنك آن تراني على الغالب أسير وحدي في مظاهرة صامتة)* وهذا التنظير له إسناد إبداعي جميل في ديوانها (مزامير الغياب) إذ تقول في قصيدة ضمائر منفصلة: هو يلعب جنرالا هي تلعب شعبا هم يعلنون الحرب" والغريب آن هذا المفهوم (الحرب لعبة) لا يقتصر على دنيا فقط وإنما يتوزع على المجموعة بطرق متنوعة فالربيعي مثلا يصف الحرب في ديوانه (حدادا على ما تبقى) بالقول: "الحرب لعبه والمرآة تجيد طهيها الحرب نمرة والمرأة ابنتها" ولكن الصائغ تتحول لديه اللعبة إلى خراب شامل إذ يصفها في غيمة الصمغ "أنت بادلتني الحلم - بالوهم ثم انحنيت ترتق ظلك بالطرقات أنت أوصلتني للخراب وسميته (.................) ثم بيتا.. فنافذة نصف مفتوحة أنت ضيعتني......... ثم ضعت" ولا اعتقد آن هناك أحد سوف يخطئ في ملئ الفراغات التي يتركها عدنان له,وهكذا فان الشعراء الثلاثة كانوا يسيرون وسط حقول من الألغام والحرس والأسلاك والممنوعات كما عبر عنها الصائغ في مقابلة معه في صحيفة الوفاق ، إذ يقول:" الكتابة الابداعية في الداخل مشيٌ بين حقول الألغام" وبهذا المفهوم استطاعوا أن يصدروا دواوينهم تلك داخل الوطن ولا اظن أن الكثير من تلك الممنوعات والأسلاك قد أزالتها المنافي بل اجزم آن الكثير من الصناع المهرة لهذه المعرقلات قد انتشروا هنا واضعين المعايير والتقسيمات نفسها التي تصلح لاماكن الأسعار وليس الأشعار ولكني أقول لأصدقائي الثلاثة إذا كان بابلو نيرودا قد قال لناظم حكمت: انك بهذا قد أجبت عنا جميعا,وإذا كان الربيعي قال ذلك للصائغ ذات يوم ,فأنا أقول لهم : لقد أجبتم عنا جميعا0 هوامش: *هيفاء زنكنة، الأدب العراقي بين الداخل والخارج،مجلة تموز،العدد15، خريف 2000، ص 40 0 * عدنان الصائغ، سماء في خوذة *داوود الفرحان، جريدة الجمهورية 1988 زاوية "بين الناس". *دنيا ميخائيل، مزامير الغياب،ص 55 0 *عبد الرزاق الربيعي، حدادا على ما تبقى، ص 010 *عدنان الصائغ، تأبط منفى، ص10 0 *دنيا ميخائيل، الحرب تعمل بجد،ص 37 0 *عبد الرزاق الربيعي، جنائز معلقه، ص13 0 مالمو / السويد |