محمد عبده ومحمد اقبال رؤيتان في تحديث التفكير الديني |
. المقاله تحت باب في السياسة بدأت محاولات الاصلاح الديني والمدني والاجتماعي بأفق جديد في العصر الحديث في مصر مع جهود رفاعة رافع الطهطاوي (1801ــ 1873) الذي درس على الشيخ حسن العطار في الأزهر، ثم ابتعث الى باريس وتعرف على الغرب مباشرة، وبعد عودته عمل مترجما ورئيسا لمدرسة اللغات الجديدة ورئيسا لتحرير الجريدة الرسمية((الوقائع المصرية)). غير ان عمله الأهم كان في حقل الترجمة، فضلا عن مؤلفاته العديدة. وفي مرحلة لاحقة وفد جمال الدين الأفغاني (1839ــ 1897) الى مصر سنة 1871، وأمضى فيها ثماني سنوات توصف بأنها من أخصب سنوات حياته، احتضن فيها مجموعة من الشباب الذين تعلموا على يديه مبادئ علم الكلام والفلسفة والتصوف والفقه، وكان من أبرزهم السياسي المعروف سعد زغلول، ومحمد عبده(1849ــ 1905) الذي اقترن به، واشتركا معا في عدة أعمال, من اهمها نشر مجلة في باريس صدر منها ثمانية عشر عددا باسم((العروة الوثقى)) وكان بيان هذه المجلة بصياغة محمد عبده ، اما أفكارها فكانت أفكار الافغاني. ويوصف الافغاني بأنه ((عنيف يستحيل ترويضه, أو على حد تعبير بلنط (عبقري بري) وانه كان خطيبا يثير الجماهير، غير انه لم يكن يحب الكتابة، ولم يكتب بالفعل الا القليل)). وقد تأثر محمد عبده بأستاذه الافغاني، وتفاعل معه، وحاول ان يترسم خطاه، ويتمثل تعاليمه، ويقتبس أفكاره، حتى ان جمال الدين عندما ودع اصدقاءه وتلاميذه في السويس حين مغادرته لمصر سنة 1879 قال لهم:((لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما)). لكن محمد عبده لم يصاحب الأفغاني حتى النهاية، بعد ان تردد في اعتبار الاصلاح السياسي بوابة لكل عملية اصلاح، كما يرى استاذه، وأدرك ان الاصلاح ينبغي ان يبدأ بالاصلاح التربوي والثقافي حسبما يقول محمد رشيد رضا, بأن محمد عبده ضعف أمله في الاصلاح السياسي ووجه التفاته الى الاصلاح القومي في التربية والتعليم، فصارح جمال الدين في اوروبا، بأنه يرى ان الوسائل السياسية لن يرجى منها خير, لأن تأسيس حكومة اسلامية عادلة مصلحة, لايتوقف على ازالة الموانع الأجنبية فقط، وانه خير لهما لو عكفا على تربية أفراد على مايحبون، في مكان هادئ بعيد، لاسلطان للسياسة فيه، ثم يذهب هؤلاء الرجال بدورهم الى الاقطار المختلفة لتربية مثلهم على ماربوا عليه. ولانريد ان نؤرخ لحياة محمد عبده, ونلاحق سيرته الفكرية والسياسية، والمنعطفات التي مرت بها، لان ذلك خارج عن غرض هذه المقالة، وانما اردنا الاشارة الى انه سعى للاستقلال عن مشاغل الافغاني السياسية في المرحلة اللاحقة من حياته، وكثف جهوده في الحقل العلمي والتربوي والثقافي. غير انه لم يستطع الانسلاخ من تبعات الشعارات والمفاهيم التي تلقاها من استاذه . واستأثرت الجهود الاصلاحية للشيخ محمد عبده وآثاره بالكثير من الدراسات وطغى على معظمها الطابع التبجيلي، بالشكل الذي ((اصبح محمد عبده بالنسبة لمصر والاسلام، نبي عهد جديد)) واعتبره بعض الدارسين(( أحد مؤسسي الاسلام الحديث)). ومن اجل التعرف على المكاسب الحقيقية لجهود محمد عبده، ومكانتها المعرفية والثقافية في تحديث التفكير الديني، نحسب ان مقارنتها بآثار محمد اقبال, أحد أهم الوسائل لاكتشاف حجم مساهمات محمد عبده والقيمة المعرفية لآثاره. لانهما عاشا في فترتين لعصر واحد , واهتم كلاهما بمشاغل اصلاحية متقاربة في منطلقاتها, وان تنوعت مطامحها ومدياتها وآثارها ومصيرها. مضافا الى ان محمد عبدة ينتمي الى مصر والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي , بينما ينتمى محمد اقبال الى شبه القارة الهندية وفضائها الثقافي المختلف. فقد تقدم على اقبال في الهند السير سيد احمد خان بهادر(1817ــ 1898) والذي كان واحدا من أبرز رواد الاصلاح هناك، فهو مؤسس جامعة عليكره سنة 1875، التي أراد لها ان تحتضن الاتجاهات الحديثة في الاسلام، وتهتم باعداد نخبة تكتسب مهارات وخبرات في العلوم الانسانية الجديدة، وتعمل على توظيف معطياتها في الدراسات الاسلامية. لكن الدارس لحركة الاصلاح الاسلامي في الهند لايمكنه تجاهل أفكار ومواقف محمد اقبال (1873ــ 1938) الذي ولد لأب ينزع الى التصوف وأم لفرط ورعها وتدينها كانت تحجم عن ان تأكل مما يكتسبه زوجها، لأنها كانت تشك في ان رئيسه في العمل يتعاطى الرشوة. اما ((أجداد اقبال فكانوا من البراهمة، وأسلم أحدهم عند اتصاله بصوفي مسلم صادق)). كما وردت الاشارة الى ذلك في أحد دواوينه . ودخل اقبال في مكتب لتعليم القرآن في طفولته، وأكمل تعليمه بمدرسة البعثة الاسكتلندية في سيالكوت برعاية استاذ بارع بالأدب الفارسي وملم بالعربية هو مير حسين الذي تنبأ لتلميذه بمستقبل باهر، وطفر التلميذ بجوائز عديدة. وفي عام 1895 دخل كلية الحقوق في لاهور، ودرس على استاذ الفلسفة الاسلامية هناك المستشرق السير توماس آرنلد، الذي كان له تأثير عميق على حياته الفكرية. وواصل اقبال تعليمه في هذه الكلية حتى نال درجة M0A في الفلسفة. وبعد تخرجه اختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور، ثم تدريس اللغة الانجليزية في الكلية التي تخرج فيها. وفي سنة 1905 سافر اقبال الى اوروبا وأكمل تعليمه الفلسفي بجامعة كمبردج, وانهى دراسة الدكتوراه في الفلسفة بجامعة ميونيخ. واختاره استاذه توماس آرنلد ليحل محله في تدريس اللغة العربية في جامعة لندن بعد توقفه عن التدريس. وفي عام 1908 عاد الى موطنه وعمل في المحاماة, ودرس في جامعة لاهور, وصار رئيساً لقسم الفلسفة, وعميداً لكلية الدراسات الشرقية فترة طويلة. ولعل أهم أثر يلخص الرؤية التحديثية لمحمد اقبال هو كتابه((تجديد التفكير الديني في الاسلام )) الذي هو حصيلة ست محاضرات ألقاها في مدراس وحيدر آباد وعليكره سنة 1928ــ 1929, وهي تعبر عن ((اسهامه الكبير في مهمة ايقاظ أبناء دينه في الهند, واعادة النظر في الاسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة مستمدة بالدرجة الاولى من حصيلة الفكر الاوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين)). واستهلها اقبال بقوله:(( أحاول بناء الفلسفة الدينية الاسلامية بناء جديدا, آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الاسلام الى جانب ماجرى على المعرفة الانسانية من تطور في نواحيها المختلفة)). وتتميز هذه المحاولة بكفاءتها النظرية, وهندستها التركيبية, وغناها بحشد وفير من معطيات العلوم الانسانية الحديثة, وبراعتها في توظيف تراث المتصوفة والعرفاء والفلاسفة والمتكلمين والاصوليين والفقهاء. حتى عدها أحد الدارسين بأنها:(( أول محاولة تامة لاعادة بناء اللاهوت الاسلامي على قاعدة استدنائية)). وسنعود الى هذا الكتاب للتعرف على منطلقات محمد اقبال في تحديث التفكير الديني لنقارنها بجهود محمد عبده, خاصةكتابه((رسالة التوحيد)) الموازي لكتاب اقبال هذا. التفكير الديني الحديث في الهند ومصر يتفق الدارسون على التأثيرات العميقة لمقولات الاسلام السياسي في شبه القارة الهندية على الاسلام السياسي في مصر والبلاد العربية. خاصة مقولات ((الحاكمية, والجاهلية,...)) التي استقاها سيد قطب من أبي الأعلى المودودي, وصاغ على ضوئها الكثير من مفاهيمه في الدولة, وحدد في اطارها طائفة من احكامه ومواقفه حيال المجتمع. لكن لم يتجل لنا بوضوح تاريخ التواصل بين الاتجاهات الحديثة في الاسلام الهندي والاسلام في مصر, وربما كان جمال الدين الافغاني أول حلقة وصل بين هذين الفضائين الثقافيين, باعتباره من أوائل الذين تعرفوا على الاتجاهات الجديدة في الهند, بعد ان أخرج من مصر سنة 1879, ففارق مصر الى الهند وأقام في حيدر آباد الدكن, وهناك صنف رسالته الأثيرة في ((الرد على الدهريين)), وهي تتضمن مناقشات لما عرف بـ ((النيتشريين)) اوالطبيعيين في الهند, وهم أتباع السير سيد احمد خان. ونقلها الى العربية محمد عبده بمساعدة عارف أفندي الأفغاني المعروف بأبي تراب, الذي كان ملازما لجمال الدين. والنيتشرية حركة عصرية أطلقها سيد احمد خان بعد زيارة قام بها الى انجلترا في السبعينات من القرن التاسع عشر. وهي تدعو الى فهم جديد للاسلام اطلق عليه الناس اسم ((النيتشرية)) وهو مأخوذ من كلمة نيتشر الانجليزية nature ومعناها الطبيعة. وفحوى هذه الدعوة: ان القرآن, لاالشريعة, هو جوهر الاسلام, وان تأويل القرآن يجب ان يتم وفقا لمبادئ العقل والطبيعة, وان النظام الخلقي والحقوقي يجب ان يكون قائما على الطبيعة. ولاريب في ان السياقات التاريخية والمحيط الثقافي والفضاء الديني في الهند لايتطابق مع مصر, ذلك ان مكونات الفضاء الروحي والمعرفي الهندي زاخرة بالتركيب والتنوع, تبعا لتعدد الأديان واللغات والتقاليد والعادات والثقافات, بينما يفتقر الاجتماع المصري لمثل هذا الفضاء الروحي والمعرفي. وان الخليط الذي تتألف منه ديانات الهند((ساعد على ايجاد عدة مبادلات بين هذه الديانات وبين الاسلام... وان دخول الجماعات الهندية أفواجا في الاسلام قد جرّ في بعض البقاع الى انتقال الكثير من آرائهم الاجتماعية الى حياتهم الاسلامية الجديدة)). واثر ذلك اتسم المسلم في الهند بالتسامح مع اتباع الديانات في موطنه, وكان اكثر استعداداً لقبول الآخر والتعايش معه في ذلك العالم الذي يضج بالاختلاف والتنوع. من هنا لم يجد محمد اقبال مايحول بينه وبين الافادة من المعارف الانسانية بغض النظرعن مصدرها, سواء كانت غربية ام شرقية, ولم يصدر في مواقفه الفكرية من معايير عقائدية او ايديولوجيا اصطفائيةتنفي الآخر. وهذه ميزة لاتنفرد فيها آثار محمد اقبال وانما طبعت الانتاج الفكري للاسلام الهندي في القرن التاسع عشرومطلع القرن العشرين , بيد ان تأثيرات التيار السلفي الوافد الى الهند في مرحلة لاحقة جنح بالتفكير الاسلامي هناك لاتخاذ مواقف احادية اقصائية مغلقة, توطنت في ((ندوة العلماء)) في لكهنو, وبدأت بانشقاق شبلي النعماني عن السير سيد احمد خان, وبلغت ذروتها في آثار ابي الحسن الندوي وابي الأعلى المودودي, والأخير يعتقد بتحيز العلوم التجريبية, ويعتبر العلوم التي بدأت في الغرب موجهة لخدمة المفهوم الغربي والفوضى والالحاد. رؤيتان في تحديث التفكير الديني من اين يبدأ تحديث التفكير الديني؟ وهل هناك أولويات في سلم المعارف التي ينبغي البدء بها؟ ولماذا أخطأت الكثير من محاولات التحديث الدرب؟ من اين نبدأ؟ واين ننتهي؟ ليس بوسعنا تقديم اجابات صارمة ونهائية على مثل تلك الاستفهامات, لكننا نحسب ان اخفاق الكثير من محاولات التحديث يعود الى عدم القدرة على ادراك الأولويات, والانخراط في مشاغل فكرية واجتماعية تبتعد عن مرمى التحديث, ولاتلامس مرتكزاته الأساسية, ولم تظفر بصياغة ادواته المنهاجية, ذلك ان بعض رجال الدين يتقنون فن الاثارة, واستفزاز الجمهور, من خلال اطلاق مايشبه المفرقعات التي تصدم وجدان المسلم, وتفزع التدين التقليدي, وعادة ما تقتصر محاولات هؤلاء على اذاعة مجموعة فتاوى فقهية بديلة, في قضايا حياتية حساسة يبتلي بها عامة الناس, وتخالف اجماع أومشهور الفقهاء. فيختزل تحديث التفكير الديني في ذلك, ويخلع الناس ابتداء على مثل هذه المحاولات ودعاتها عناوين(الانحراف, والتجديف, والتبديع) وفيما بعد يصفونها بـ (الاصلاح, والتحديث, والتجديد), بالرغم من ان التحديث لايمكن اختزاله في مجموعة فتاوى, بل ان عملية التحديث تنطلق من موقع آخر, يطاول البنى التحتية والهياكل الأساسية, والجذور والمنابع, ومصادر الالهام التي ترفد الرؤية الكونية, وتتغذى منها المفاهيم الاعتقادية, والافكار الكلامية, وكافة الآراء الاصولية, والاحكام الفقهية. بمعنى ان الفقيه مثلا لايستطيع ان يستنبط احكاما مواكبة لعصره الا اذا تغلب على أساليب الاستنباط الفقهي الموروثة واستبدلها بأساليب اخرى, اذ ان المعرفة الفقهية محصلة لمنطق خاص يتمثل باصول الفقه, وما لم يتمكن الفقيه من تجديد اصول الفقه والافلات من منطق الفقه القديم فليس بوسعه تجديد الفقه. واصول الفقه معرفة تشتق من مرجعيات فلسفية ومنطقية وكلامية ولغوية, وعملية تحديث هذه المعرفة ترتبط بنمط المعطيات المولدة لها. ان تشكيل معرفة دينية مواءمة للعصر يتوقف على اعادة بناء لاهوت جديد أوفلسفة دينية تحدد لنا مكانة الانسان في العالم, ونمط العلاقة بينه وبين الله, وحقيقة الدين, وحدوده, ومجالات التدين, وطبيعة الظاهرة الدينية ...الخ. وهذا النوع من الابحاث يتطلب التحرر من الابستمولوجيا الكلاسيكية, وتوظيف معطيات الابتسمولوجيا والعلوم الانسانية الحديثة في الدراسات اللاهوتية. ولعل أهم مايلفت نظر دارسي تراث محمد عبده والمهتمين بتقويم جهوده الاصلاحية هو مجموعة فتاوى جريئة أصدرها في مسائل اجتماعية, أباحت ايداع الاموال في صناديق التوفير وأخذ الفائدة عليها, وحلية ذبائح أهل الكتاب, وجواز ارتداء ملابسهم ... مضافا الى انتهاج محمد عبده نهجا يعتمد على العلوم الطبيعية الحديثة في التفسير, اذ يؤول الجن في القرآن مثلا بالميكروبات, ويحاول تأويل ماورد في القرآن عن أصل الانسان تأويلا يتوافق مع نظرية داروين, ويرى ان في القرآن محلا لنظريتي ((تنازع البقاء, والبقاء للأصلح))...وغير ذلك. واقتفى أثره طنطاوي جوهري الذي كتب تفسيرا موسعا في ستة وعشرين جزءا (بدأ بالظهور منذ 1923) (( فسر فيه القرآن تفسيرا علميا عصريا استوعب مختلف المعارف المعاصرة, من علمية وانسانية وسياسية ـــ بل وصحافية ـــ بشكل موسوعي تراكمي, وبأسلوب المصنفات العربية القديمة في السرد والاستطراد ...)). كما يجد الدارس مساهمة محمد عبده في اللاهوت متمثلة في كتابه المعروف((رسالة التوحيد)) التي أستأثرت باهتمام واسع من دارسي فكره, واعتبرها بعضهم مسعى ((في سبك علم التوحيد في قالب أكثر تمشيا مع طرائق التفكير الحديث)). واعتقد الدكتور حسن حنفي بأنها محاولة رائدة في تأسيس علم كلام جديد. لكن قراءة متأنية لهذه الرسالة ترينا انها تعبر عن موقف من علم الكلام أكثر مما تعبر عن موقف في علم الكلام, وقد وردت المسائل الكلامية فيها بشكل مدرسي تقليدي مبسط, لايتجاوز صياغة القديم ببيان جديد فهي تفتقر الى التجديد في لغة ومصطلحات علم الكلام، كما لا تترسم ابتكار منهج آخر في البحث الكلامي، أو بلورة ادوات اجرائية مختلفة، أو بناء هندسة معرفية بديلة للمباحث الكلامية. وقد امتنع فيها عبده عن الدخول في مسائل سيطرت على علم الكلام , كالسؤال عن الصفات وعلاقتها بالذات, وهو موقف مشابه لما فعله الغزالي في ((تهافت الفلاسفة)). كما نص فيها على عدم التعارض بين الوحي والعقل, تبعا لما قاله ابن رشد وغيره من الفلاسفة, واهتم بطرح بعض الآراء المعتزلية في خلق القرآن والحرية والارادة الانسانية, وان كان أسقط ((هو أوتلميذه رشيد رضا 1865ـــ 1935)) مسألة خلق القرآن في طبعة تالية, خشية الاحتجاج الذي يمكن ان تثيره هذه المسألة. ويبدو ان تحديث محمد عبده توقف عند المسائل الفقهية والتفسيرية, من دون المساس بالقضايا الايمانية النظرية الداخلة في نطاق ((علم العقائد)) أو ((علم الكلام)). اما محمد اقبال فسعى لزحزحة علم الكلام القديم, وتمحورت جهوده على بناء فلسفة بديلة للدين, ليست مكتفية بذاتها وانما اغتنت بما استوعبته وتمثلته من معارف الآخر. وخلافا لمحمد عبده الذي نهى عن الخوض في الذات والصفات والقدر, فقال بصراحة(( انني لاأحب ان أتكلم في هذا الأمر أكثر من هذا, والا لم أكن من الصابرين, ولخضت في أعمال القدر مع الذين خاضوا فيه)). نجد محمد اقبال يستهل كتابه بقوله(( ان التفكير الفلسفي ليس له حد يقف عنده, فكلما تقدمت المعرفة, وفتحت مسالك للفكر جديدة, أمكن الوصول الى آراء اخرى)). ويبدأ اقبال بحثه في بيان امكانية استخدام المنهج العقلي الفلسفي في مباحث الدين, وتحليل جوهر الدين, والجذور العميقة للايمان وماينطوي عليه. وهذا يقوده الى الاستعانة بآراء جماعة من الفلاسفة والمفكرين الغربيين في تفسير الدين كظاهرة وجدانية وايمانية واجتماعية, وبموازاة ذلك يحرص على استنطاق الموروث الاسلامي, خاصة آراء المتصوفة والعرفاء والفلاسفة. لقد توفر هذا الكتاب على بناء اطار منهاجي للدراسات اللاهوتية في الاسلام, تتحدد فيه أولويات البحث, ونقطة البداية, والمنطلقات الاساسية, وأدوات التعاطي مع الابستمولوجيا والعلوم الانسانية الحديثة, ووسائل اكتشاف البؤر المضيئة في التراث, ومدى الافادة من عناصره الحية, ودمجها بمكاسب المعارف الجديدة, وتوليفها في هندسة معرفية متناسقة الاجزاء. ففي استقراء سريع لـ ((تجديد التفكير الديني في الاسلام)) يطالع القارئ آراء فلاسفة ومفكرين وعلماء غربيين, مثل((لوك, هيوم, هوكنج, برغسون, فرويد, ديكارت, بركلي, نيوتن, رسل, زينون, دريش, ولدن كار, ماكتاجارت, برود, اوغسطين, منك, ماكدونالد, نومان, برونج, شوبنهور, برادلي, بلانك, هيغل, لوردهالدين, رونجير, الكزاندر, رويس, جون ستيورات مل, روجربيكون, شبنجلر, هورتن, هيزنبرج, جورج فوكس, اينشتين, وليم هاملتون, لايبنتز, يونج, داروين...)). وربما لانجد مفكرا اسلاميا يتسع أحد مؤلفاته لاستيعاب آراء هذا العدد الوفير من المفكرين في تلك الفترة. وهذا الحشد للمعارف الغربية يشي بموقف موضوعي من العلوم الحديثة, ويستند اليها كمرجعية هامة في تفكيك التراث وغربلته, وتأويل النص ومعرفة مجالاته التداولية, والتوغل في الظاهرة الدينية واستجلاء مدياتها في النفس, وحقلها وحدودها في الاجتماع البشري. ويحكي لنا هذا الطيف من الاسماء عن تنوع مرجعيات تحديث التفكير الديني عند اقبال, فهو تارة يستلهم مقولات الفلاسفة, واخرى يتعاطى مع خبرة اللاهوت المسيحي الجديد, وثالثة يستعين بعلماء النفس, أوالاجتماع, و...غيرهم .وهو بذلك يتخلص من حالة الوجل والالتباس حيال معطيات اللاهوت والعلوم الانسانية الحديثة التي طبعت تفكير الكثير من الاسلاميين اليوم. تديين الدنيوي ساد الحياة الاسلامية عبر التاريخ نمط شعبي طقوسي للتدين, يسمح للانسان بممارسة كل فعالياته ونشاطاته الاجتماعية من دون رقابة ووصاية, ويعبر عن مشاعره وعواطفه بعفوية, ويشبع تطلعاته واشواقه ورغباته بتلقائية, من غير ان يعيش تناقضا وجدانيا بين ايمانه وطقوسه واحلامه واشواقه. الاّ ان الكثير من المفكرين المسلمين في العصر الحديث اتخذ من الاسلام الفقهي مرجعية وحيدة له, واختزل الدين في أبعاده الدنيوية, وأمسى مفهوم التدين بمثابة مجموعة توصيفات وتعليمات ترتبط بالشأن الدنيوي لحياة الانسان, وتركزت الجهود على التنقيب عن المضمون العملي الاجتماعي للدين, والمعتقدات, وتأويل النصوص تأويلا دنيويا, بنحو نادى بعض الباحثين بضرورة الانتقال (( من السماء الى الأرض, ومن الله الى الانسان, ومن الآخرة الى الدنيا)). ونجم عن هذا المفهوم تمديد مفهوم الدين وجعله مفهوما شموليا يستوعب كافة مجالات الحياة, ويدمغ عوالم الذهن والتفكير والواقع والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات السياسية والدولية بصبغة دينية. وتزامن مع ذلك تقويض المعاني الرمزية للدين, وتقليص أبعاده الميتافيزيقية, وسلخ التدين من الاحلام واشواق الروح والتطلع الى الغيب, وبالتالي خلع السحر عن العالم, وتفكيك الاسرار. وتحويل الدين الى ايديولوجيا, تختزله في تفسير رسمي سطحي مبسط وضيق, مع ( ان الدين ظاهرة مضببة ومحيرة, وهذه صفة مضادة للتسطيح والوضوح والحسم الذي تطالب به الايديولوجيات, فالدين أعمق وأرحب وأوسع من هذه الأوصاف . وهذا من حسنات الدين. ان الايديولوجيا دعوة الى السطحية, دعوة الى التهرب من الاسرار والغوامض, واكتفاء بالقشور والظواهر, انها جملة مواقف سطحية واضحة حول الله, والانسان, والتاريخ, والمعاد, و...الخ. اما الدين فإنه مفعم بالمحكم والمتشابه... وعلى حد تعبير جلال الدين الرومي: ليس الدين سوى الحيرة)). ان أدلجة الدين والتشديد على دنيويته يفضي الى تفريغه من مضمونه الروحي, ويستغرقه في مجالات بعيدة عن العوالم الجوانية الباطنية للانسان, وبدلا من ان يعمل على تطهير الباطن, وترسيخ النزعة الانسانية والمعنوية, وتربية الذوق الفني, ومنح العواطف رقة وشفافية, بدلا من ذلك يتحول الدين الى وسيلة للكراهية, وأداة للاحتراب والصراع. يكتب محمد اقبال موجزا غاية الدين بقوله:(( فالدين ليس علم الطبيعة أوعلم الكيمياء الذي يبحث عن الطبيعة في قوانين السببية, ولكن غايته الحقيقية هي تفسير ميدان من ميادين التجارب الانسانية, هو ميدان الرياضة الدينية الذي يختلف عن ميادين العلوم السابقة كل الاختلاف, والذي لايمكن رد أسسه الى اسس أي علم آخر)). ويسهب في بحث طبيعة الرياضة الدينية في موارد متعددة من كتابه, ويتحدث عن رديفتيها التجربة الصوفية والتجربة الدينية. ويقيم البرهان الفلسفي على ظهور التجربة الدينية, ويخلص الى ان الفرق بين الدين والفلسفة, يكمن في (( ان الدين يهدف الى اتصال بالحقيقة أقرب وأوثق, فالفلسفة نظريات, اما الدين فتجربة حية, ومشاركة واتصال وثيق ...ان الدين في جوهره تجربة, وانه لابد ان تكون التجربة اساسه وقاعدته...)). ويُشرٍٍٍٍٍِِِِِِِّح التجربة الصوفية الفريدة للحلاج ولغيره من اعلام التصوف الاسلامي. ويمكن القول اننا امام محاولة علمية رائدة لاسترداد المدلول الروحي للدين, واعادة المضمون التطهري الباطني للتدين, وتحريره من المسخ والتشويه الذي تعرض له منذ القرن التاسع عشر على يد البرتستانتية الاسلامية. ومن نتائج مفهوم محمد اقبال للدين, واستيعابه لتراث الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء, وتمثله للتجربة الصوفية, واطلاعه الجيد على الفلسفة والعلوم الانسانية الحديثة, انه تحلى ببراعة في تأويل القرآن, وتعاطى مع لغته باعتبارها لغة رمزية خاطب الله بها الانسان للإشارة الى معاني لاتتسع لها قوالب الألفاظ. وأتاح له هذا الاسلوب ان يغور في مداليل النص الخفية, ويتوغل في مضمونه الباطني, باعتباره رموز واشارات وشفرات لحقائق تضيق عنها العبارات. فمثلا يرى ((ان قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن, لاصلة لها بظهور الانسان الأول على هذا الكوكب, وانما اريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الانسان من بداية الشهوة الغريزية الى الشعور بأن له نفساً حرة قادرة على الشك والعصيان)). وفي السياق ذاته يقدم تأويلا للجنة والنار لايتفق مع ماهو معروف في تراث المتكلمين. ولاريب ان اية محاولة لتحديث التفكير الديني لاتنفتح على رؤية مختلفة في تحديد مدلول لغة الدين, لاتستطيع ان تخطو اية خطوة جريئة الى الامام, تبلور اجتهادا بديلا, يسهم في بناء تصور يواكب العصر للدين والتدين. فان الجمود عند فهم حرفي قشري سطحي للنص, لايمكن ان يقدم لنا فهما جديدا, بل يكرر دائما ماقاله القدماء, وينتهي الى مواقف سكونية قارة. مصير الرؤيتين ماهو مصير رؤية كل من محمد اقبال ومحمد عبده في تحديث التفكير الديني, واين التقى المساران؟واين افترقا؟ امتدت رؤية اقبال في الفكر الاسلامي المعاصر عبر آراء الدكتورفضل الرحمن, وهو مفكر باكستاني عمل في الحقل التربوي في باكستان, الا انه اضطر للهجرة من بلاده بعد تعرضه لهجمة شرسة من الجماعات السلفية, فأمضى ماتبقى من حياته استاذ للفكر الاسلامي في قسم لغات الشرق الادنى في جامعة شيكاغو, حتى توفي عام 1988. واثر هيمنة الجماعات السلفية على الحياة الثقافية في الهند وباكستان اضمحل الخط الفكري لمحمد اقبال. وان كان التفكير الديني في ايران في النصف الثاني من القرن العشرين اعاد انتاج المقولات المركزية في فكر اقبال, وعمل على تنميتها وتطويرها, لاسيما رأيه في ختم النبوة الذي يتلخص في ((ان النبوة لتبلغ كمالها الأخير في ادراك الحاجة الى إلغاء النبوة نفسها. وهو امر ينطوي على ادراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا على مقود يقاد منه, وان الانسان لكي يحصل على كمال معرفته لنفسه ينبغي ان يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو)). فقد التقط الدكتور علي شريعتي وغيره هذا الرأي, وصاغ على ضوئه عدة مفاهيم مركزية في فكره. وهكذا استعار الشيخ مرتضى المطهري رأي اقبال في كون الاجتهاد هو((اس الحركة في الاسلام)) وقدم على ضوئه تفسيرا موسعا للثابت والمتغير ودور الاجتهاد في الفكر الاسلامي. وكان الدكتور عبد الكريم سروش من ابرز المفكرين الايرانيين الذين وظفوا آراء محمد اقبال, وساهموا بتطويرها في دراسات متعددة, تعالج((القبض والبسط في الشريعة)) والتمييز بين الدين والمعرفة الدينية, و((القبض والبسط في التجربة النبوية))...وغير ذلك. اما محمد عبده فامتد من خلال تلميذه رشيد رضا الذي عمل على احياء النزعةالسلفيةوبعثهامنالتراث, وحرص على تكريسهاعبر مجلته((المنار))وكتاباته المتنوعة. وقد كانت آثار الغزالي من اهم مصادر الهام جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا((فقد تأثر الثلاثة بمصنفات الغزالي تأثرا بعيد الغور . اما جمال الدين فبالرغم من قلة ماوصل الينا من مؤلفاته, نجد في ذلك القليل الدليل على ماكان لكتب الغزالي من القيمة عنده. ولسنا نخطئ أثر الغزالي في كتابات الشيخ محمد عبده. اما محمد رشيد رضا, فيقرر ان الغزالي كان معلمه الاول العظيم الذي اهتدى بهداه في باكورة ايامه)) . واختزلت هذه الحركة الغزالي في مناهضته للمنحى العقلاني الحر في التفكير الديني، واحكامه الجائرة بالتكفير والتبديع والتفسيق على جماعة من الحكماء والعرفاء والعقلانيين المسلمين، في ((تهافت الفلاسفة)) وغيره من آثاره. فأمسى الاسلام الفقهي والاسلام الكلامي الأشعري المستلهم من الغزالي وغيره هما المرجعية لديهم، دون السعي لإحياء اسلام العرفاء والمتصوفة والفلاسفة, او توظيف الميراث الصوفي للغزالي في بناء رؤية دينية معنوية حديثة. بالرغم من ان نشأة عبده الاولى كانت تنزع للتصوف، و((كان اللاهوت الصوفي أشد استهواء له، فغدا التصوف لمدة طويلة درسه المفضل، كما كان موضوع أول كتاب نشر له. وعاش لفترة عيشة تقشف، قاطعا العلائق مع الناس)). بل ان بداية حياة عبده الموغلة في التصوف السلوكي الطرقي، وتشبعه بالزهد باكرا، أخذت تضمحل بالتدريج لديه، وابتعد في خاتمة المطاف عن هذا الحقل الروحي الخصب. والمؤسف ان محمد عبده لم يسمح بنشر ((الفتوحات المكية)) لابن عربي، عندما رأس، في الفترة الاخيرة من حياته، لجنة تشرف على نشر الروائع الكلاسيكية. اما مصدر الالهام الثاني لهذه الحركة فهو ابن تيمية وابن قيم الجوزية، فقد أخذ الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا طريقتهما في الافتاء من(أعلام الموقعين) لابن قيم الجوزية. وكان رشيد رضا يعتمد على ابن تيمية. وقد نشر في المنار طائفة من مصنفات هذين العالمين, واعيد طبع بعضهما بواسطة المنار أوبرعايته. ويمكن ان نلاحظ بوضوح التشابه القوي بين الآراء التي كان يقول بها دعاة الاصلاح في مصر وبين آراء ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية. لقد كان استبعاد (رشيد رضا ـــ حسن البناـــ سيد قطب) لتراث الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة، ونعته بأنه تراث باطني ضال ومنحرف، ونفي الرعشة الروحية عن الاسلام، أحد أهم العوامل لتنامي التيار السلفي النصوصي الحرفي، وهيمنته على الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في دنيا الاسلام اليوم. وعجز التفكير الديني لدى الاسلام الاصولي وقصوره في الانفتاح على مايعانده من الافكار. وبعد ان امتد رشيد رضا في حسن البنا ثم سيد قطب التقى قطب في تفكيره بأبي الاعلى المودودي, والاخير ابرز داعية للاسلام السياسي في الهند وباكستان, وافكاره تمثل في حقل واسع منها النفي الكامل لرؤية اقبال في تحديث التفكير الديني.اذ تبلورت في كتابات المودودي مجموعة رؤى حول الحاكمية الالهية، والجاهلية... وغيرها، استوحاها من البيئة الهندية وما تحفل به من احتراب وصراعات بين المسلمين والهندوس قبل استقلال المسلمين في باكستان، وما اكتوى به المجتمع الاسلامي هناك من جراحات وآلام. فاكتست هذه الرؤى على يديه صياغة مفاهيمية، بتوظيف النصوص من آيات وروايات، كمستند لتعميم مفهوم الجاهلية، وشرعنة غيره من المفاهيم. ثم تسللت هذه المفاهيم الى ادبيات الاسلاميين خارج الهند، وتغلغلت في آثار سيد قطب، خاصة كتابه معالم في الطريق، وتفسيره في ظلال القرآن. وأمست من المفاهيم الملتبسة في ادبيات الاسلاميين، واستبدت ببعض المراهقين رغبة في الخروج على المجتمع وتكفيره، اثر القراءة القطبية لمفهوم الجاهلية. ان المودودي لم يكن باحثاً معمقاً كمحمد اقبال، غير انه كان ذا تأثير بالغ في اتباعه عبر كتاباته ومحاضراته، فقد لعب خطابه التعبوي دوراً حاسماً في مسار الحركة الاسلامية في شبه القارة الهندية ومصيرها. لكن خطاب المودودي بالرغم من نفاذه الى وجدان الجماهير، وتجنيدها في اللحظات الحرجة، لم يعمل على اعداد مثقفين جادين في اطار جماعته، ذلك ان المودودي لم يتمكن من التعبير عن اية رؤية فسيحة أو عميقة للدور الذي ينبغي على الاسلام ان يلعبه في العالم، باعتباره كان صحافياً أكثر منه مفكراً جاداً، كان يكتب بسرعة، ويصل الى نتائج سطحية، وكان يكتب باستمرار، لذلك لم يصبح أياً من اتباعه دارساً جاداً للاسلام،لانهم كانوا يحسبون ان ما يقوله المودودي هو كلمة الاسلام الاخيرة، حسب توصيف فضل الرحمن. وختاما اتمنى على الباحثين والدارسين المهتمين بالشيخ محمد عبده العودة الى تراثه وغربلته وتقويمه ونقده، والخلاص من الاحكام التبجيلية ومنطق الثناء والمديح الزائف، الذي يشي بتضخم الذات اكثر مما يشي بالاستناد الى معايير علمية موضوعية، ولايميز بين المعرفة البسيطة في آثار محمد عبده، والمعرفة المركبة في آثار محمد اقبال، التي تتنوع مرجعياتها، وتعبر عن نسيج من الروافد المنحدرة من منابع ثقافية وحضارية متنوعة. ان الاحكام العاجلة والمواقف التبجيلية لاتكف عن الارتقاء بطائفة من الكتاب و الصحفيين الاحيائيين، والمبشرين بالنهضة، ودعاة الاصلاح، فتجعلهم فلاسفة كباراً ومفكرين عمالقة. وهي عاهة ثقافية شائعة في آرائنا وكتاباتنا المتأخرة، كتعويض عن مأزقنا الحضاري، وتخلفنا وعجزنا عن المساهمة في اعياد التاريخ، وانجاز المعطيات العلمية والمعرفية والمدنية للعصر. هذه هي قراءتي لرؤية محمد عبده في تحديث التفكير الديني (أو ما أراد لها رشيد رضا ان تجري وتتجسد) ورؤية محمد اقبال. وكل قراءة اجتهاد ينبثق من خلفيات القارئ ومسبقاته ومفاهيمه وثقافته وتطلعاته وآماله. ولاأنفي تحيزاتي الطبيعية البشرية، وقبلياتي الحتمية، ورغباتي في هذه القراءة. وربما ليس هذا هو محمد عبده ولامحمد اقبال، لكن الأكيد ان هذا هو فهمي لهما. ولاأستطيع ان أكون الا أنا. وقد يشفع لي اني استندت في استخلاص هذه القراءة على مراجعة تراثنا القريب، لاسيما آثار عبده واقبال، التي طالعت بعضها مرات عديدة. د.عبدالجبار الرفاعي مدير مركز دراسات فلسفة الدين بغداد ،ورئيس تحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة بغداد / بيروت ورقة مقدمة في ندوة((حداثات اسلامية)) بعد قرن على رحيل محمد عبده ــ المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (حلب :9ـــ 10/11/2005) Email: qahtanee54@yahoo.com |