القافية بين التراث والمعاصرة |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات لمدة قد تجاوزت ألفا وخمسمائة عام كانت القافية تمثل الصوت الأبرز في النظم العربي. وكانت تحمل من الأهمية والجاذبية والسحر ما حمل الأقدمين على التدقيق في دراستها حتى وضعوا علما أطلق عليه اسم (علم القوافي وألّفوا فيه المصنفات والفصول والرسائل (مثل كتاب القوافي للقاضي أبي يعلى التنوخي، والكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي). في القصيدة التقليدية تبدو القافية ركنا من أركان النظم، لا يمكن التخلّي عنه إطلاقا، فالبناء التناظري لتلك القصيدة يوجب إيجاد رابط مادي يشد الأبيات إلى بعضها، فكانت القافية، بوصفها النهاية الفيزياوية للبيت هي ذلك الرابط الذي ارتضته الذائقة العربية. إنّ الكلمة الأخيرة في البيت الشعري التقليدي- التي تتضمن القافية وصوت الروي- تمثل نهاية للبيت على مستويات ثلاثة؛ دلاليّ، ونحوي، وصوتي. فلو نظرنا في هذا البيت مثلا: لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليدِ سنلاحظ أن كلمة (اليد) هي التتمة النحوية لجملة التشبيه، والتتمة الدلالية التي لم يكتمل معنى مفيد الا بعد ورودها، فضلا عن كونها النهاية الصوتية المادية للبيت. وقد كان الشعراء بحسهم المتقدم باللغة يفيدون من الإمكانات اللغوية التي توفرها القوافي في توليد الإدهاش لدى المتلقي لانتزاع إعجابه، وإحساسهم باللغة كان أكثر تقدما من إحساس الشراح والنحاة، فكانوا يكسبون استحسان المتلقي تاركين النحاة في حيرتهم. لم ينل بيت من الشعر العربي التقليدي من العناية والتحقيق ما ناله مطلع معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ بسقط اللّوى بين الدخول فحومل ولكني ذهلت عندما وجدت الشراح والنحاة غير قادرين على تعليل استخدام الشاعر (الفاء) بدلا من (الواو العاطفة) في كلمة القافية (فحومل)، فالقاعدة تقضي بذلك إذ كما يقول النحاة لا يجوز القول (جلست بين زيد فعمرو)، بل إن الشراح لم يلتقتوا إلى هذه العبارة، فالمرزوقي في شرحه لم يلتفت إلى البيت إطلاقا، وكأن معناه مفروغ منه، أما الزوزني فشرحه شرحا مفصلا، ولكنه تغافل عن قول الشاعر (فحومل)، فقال:((وذلك المنزل، أو ذلك الحبيب، أو ذلك البكاء بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين)). وقال الأصمعي وهو أحد رواة القصيدة:(( إن الصواب روايته بالواو لأنه لا يجوز جلست بين زيد فعمرو...))، فخطّأ الشاعر أو راويه. وأما النحاة فمنهم ابن هشام في مغني اللبيب قال معرض حديثه عن معاني (الفاء العاطفة):(( وتارة بمعنى الواو كقوله" بين الدخول فحومل ... "))، فلم يجد تعليلا سوى إلغاء أثر هذا الحرف جملة. وإذا أمعنّا النظر في البيت سنجد أن الشاعر استغلّ كلمة القافية لتوليد معنى شعري لا يستطيع النحو الكشف عنه، فقد أعطى (الفاء) كثافة لافتة للكلمة، لا يمكن أن تفهم إلا في سياق البيت، فالفعل (قفا) يعني أن المخاطبين كانا يسيران والشاعر يستوقفهما، ولكنه لم يقل ما إذا كانا قد أجابا طلبه أم لا، ولذلك ذكر المكانين بالترتيب (الدّخول فحومل)، ليعطي الانطباع بالسير واتجاهه، فهم يسيرون من (الدّخول) باتجاه (حومل) وهم الآن في مكان بين الموضعين.إن كلمة (بين) تختلف عنها تلك التي جاءت في بناء قافية شاعر آخر: فوالله لولا الله والناس والحيا لقبلتها بين الحطيم وزمزمِ فامرئ القيس كان بحاجة لتكثيف معناه لتوليد شيء من الإدهاش، أما هنا فالشاعر يولد الإدهاش اعتمادا على قدسية المكانين اللذين وقف بينهما. لقد أدى تراكم خبرة الشاعر العربي عبر مئات السنين إلى أن يقوم بتطوير تكنيكات خاصة بالقافية تجعلها العنصر الرئيسي لتوليد الإدهاش، تكنيكات تعطي إشارات للمتلقي تجعله يخمّن القافية قبل الوصول إليها مما يجعله شريكا في عملية إنتاج النص، ومن تلك التكنيكات التصريع الذي يغلب أن يأتي في مطالع القصائد. والتوشيح الذي يعني أن يكون صدر البيت منبئا بآخره مثل قول البحتري: فليس الذي حللته بمحلّلٍ وليس الذي حرّمتهُ بمحرّمِ ورد الأعجاز على الصدور الذي يعني إيراد كلمة القافية في صدر البيت قبل أن تأتي في آخره مثل قول عروة بن أذينة: حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ما كان أكثرها لنا وأقـــــــلها فدنا فقــال لـــعلها مـــــعذورة في بعض رِقْبتها فقلت لعلها لقد تعلم الشاعر العربي التقليدي إدهاش متلقي شعره ببراعة قوافيه، والمتلقي هو الآخر تعلم الاستجابة للقافية والإعراب عن إعجابه بالقافية البارعة بكلمات شاع سماعها (أحسنت – أعد). يستجيب القارئ للقافية التقليدية بمحاولة حدسها قبل الوصول إليها، اعتمادا على ثلاثة محددات؛ معرفة صوت الروي (حسب ما ورد في الأبيات السابقة)، والوزن، والبنية الدلالية، ففي بيت مثل هذا: إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسمُ ليس على المتلقي أن يبذل جهدا كبيرا ليحزر القافية فهو يعرف الروي (ميم مضمومة)، ويعرف الوزن، وتدله فكرة الأنياب البارزة على معنى الضحك. هذه الخبرة المشتركة بين المنتج والمتلقي أدت إلى أن يبدو البيت التقليدي مبنيا من أجل قافيته، فهو يتسارع باتجاهها ليصل غايته ومنتهاه. والقافية بهذا الفهم مثلت المظهر الأبرز من مظاهر الإبداع الشعري، ذلك لأن على الشاعر، على الرغم من الانضباط الصارم للقصيدة التقليدية، أن يأتي بقافية لا يبدو عليها التكلف، بحيث تبدو جزءا أصيلا من جسد البيت، فضلا عن ضرورتها للمعنى، إذ أنهم اشترطوا في القافية أن تضيف معنى لا غنى عنه لاستكمال الدلالة الشعرية. ونرى أن الثورة على هذا المفهوم للقافية يمكن أن تعد أبرز إنجازات قصيدة التفعيلة في أربعينات القرن الماضي.فقد أدّى ذلك إلى تغير جوهري في مفهوم الشعر ذاته، فقد فقدت القصيدة إيقاعها العالي الذي كان يعلو على كلّ صوت فيها، وكان على الشاعر أن يجد عنصرا فنيا جديدا لإدهاش المتلقي، فكانت الصورة الشعرية هي ذلك العنصر المنشود. ولننظر مثلا في هذا المقطع الاستهلالي لقصيدة (غريب على الخليج) للشاعر بدر شاكر السياب: الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل وعلى القلوع تظل تطوى أو تُنشّر للرحيل زحم الخليج بهن مكتدحون جوّابو بحارِ من كل حافٍ نصف عاري وعلى الرمال على الخليج جلس الغريب يسرح البصر المحيّر في الخليج ويهد أعمدة الضياء بما يصعّدُ من نشيج لم يعد بإمكان المتلقي حدس القافية، فالشاعر حرّ في اختيار قوافيه تماما، ولهذا لم يعد السطر الشعري متجها إلى نهايته الفيزياوية، بل، عوضا عن ذلك، صار اتجاه حركة الجمل عموديّا نازلا إلى الأسطر التالية، فكلّ سطر ينتظر إتمام دلالته في السطر التالي حتى نصل إلى نهاية دلالية لا صوتية. وفي المثال السابق يلاحظ أن كل الجمل ترسم صورة خلفية للسطر الأخير الذي يضع (الغريب) بطل القصيدة على هذه الخلفية. إنّ فك الارتباط بين اتجاه التلقي والقافية أدى إلى تغيير جوهري في وظيفتها، فعند تخلص السطر الشعري من حتمية القافية الواحدة، لم تعد القافية مركزا يستقطب انتباه المتلقي، ولم تعد إقفالا حتميا على أي من المستويات الثلاثة (الصوت-النحو-الدلالة). أصبحت القافية في قصيدة التفعيلة تشكّلا اختيارياً خاضعا للضرورات الفنية والجمالية كما يريدها الشاعر، ولذلك صار بإمكانه توجيه قدراته الإبداعية باتجاه الصورة الشعرية والنظر إلى أنظمة التقفية بوصفها أدوات لخدمة تلك الصورة ودلالتها الشعرية. في النص السابق كان السياب يريد رسم صورة بطله على خلفية ساكنة توحي بالحزن، ويمكننا ملاحظة استخدام قافية مقيدة مسبوقة بـ(توجيه)، وهو حرف المد الساكن الذي يسبق الروي (الأصيل-الرحيل-الخليج-النشيج)، والحركة الوحيدة في المشهد صورة البحارة البعيدة وهم يحاولون كسب رزقهم من بطن البحر، فأظهر الشاعر حركتهم بالقافية المطلقة (بحارِ-عاري). |