تناقضات الغذامي

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
23/12/2007 06:00 AM
GMT



لما تزل قضية الاطمئنان إلى صحة الشعر الجاهلي قضية شائكة تحير المعاصرين كما حيرت القدماء، وتشهد هذه الأيام مطارحات يومية بين عدد من الزملاء المتخصصين في الجامعة التي أعمل بها حول هذا الموضوع، مما حملنا على مراجعة ما كتب فيه من دراسات، وقد كان من بين ما قرأت كتاب الأستاذ عبد الله الغذامي (القصيدة والنص المضاد) الصادر بطبعته الأولى عام 1994، وقد وجدته كتابا قيما يكشف عن عقلية نقدية بارعة كما هو شأن الغذامي دائما، فأنا من المعجبين بطريقته في الاستنتاج، وأسلوبه المتحرر في الطرح، غير أن هذا لا يمنعني من الاختلاف معه هنا أو هناك.

وقد وجدت أن الناقد – في كتابه هذا – لم يكن، كما عهدته، متحررا متجردا، بل لقد كان منذ بداية البحث واضح الانحياز إلى النتيجة قبل أن يصل إليها.

يقوم الكتاب على فكرة بارعة، هي قراءة الشعر الجاهلي من داخل النص، في محاولة للتوصل إلى القوانين التي تحكم تراتب (جمله الشعرية)، فإذا توصلنا إلى مثل تلك القوانين فإننا سنتمكن من تشخيص أوهام الرواة، وتحديد النصوص المنحولة.

يبدأ الكتاب بتقرير أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا شعر مروي شفاها، كما هو مفروغ منه، غير أن الغذامي يضيف أن هذه شفاهية الرواة وليست شفاهية الشعراء، فهو يرى أن مجتمع الجزيرة كان مجتمعا كاتبا، فقد كانت الكتابة عند الجاهليين، كما يرى الغذامي، عادة يومية يمارسها الرجال كما يمارسها الأطفال والنساء، وكان الناس يكتبون نصوصهم الدينية وأشعارهم ويعلقونها في المعابد(انظر ص11). وهو يعتمد في هذه الفرضية – فيما بعد- على رواية يتيمة تفيد أن ذا الرمة طلب أن يدون شعره (انظر ص20) على أنه يغفل عن أن ذا الرمة شاعر أموي وليس جاهليا.

لكن الغذامي لم يبين لنا أسباب انتقال الشعر بالرواية وضياع تلك المخطوطات المزعومة، فإذا كان ثمة شعر مكتوب، فلماذا لم ينقله العرب واعتمدوا على الرواة في النقل؟

هذا الاعتقاد عند الغذامي يدفعه إلى أن يعد الشعر الجاهلي متمتعا بكل صفات الأدب المكتوب ((بمعنى أنه يتسق مع شروط الكتابية أكثر من اتساقه مع شروط الشفاهية – فهو فردي يقوم على نص أصيل فرد، ويقوم على آليات الإنشاء الشعري الغنائي التي لا يفترق فيها امرئ القيس عن بدر شاكر السياب – ص10 )).

يحاول الناقد البرهنة على صحة هذا الافتراض من خلال نفي صفات الأدب الشفاهي عن الشعر الجاهلي، فيعتمد على دراسة (باري ولورد) للأدب الشفاهي اليوغسلافي، فالدراسة تنص على أن أهم صفات القصيدة الشفاهية النمطية وعدم الثبات، أما النص الجاهلي، حسب الغذامي، فإن تحليله من داخل النص يثبت اتصافه بالفردانية والابتكار.

والمشكلة في هذا التشخيص توقعنا في فخ يسميه المناطقة (المصادرة على المطلوب)، فقد أصبحت لدينا قاعدة سابقة على التحليل تقول إن كل نمطية وتغير إنما هي من صنع الرواة، وكل فردانية وثبات هو دليل على صحة نسبة النص إلى الجاهلية في أقل تقدير

ولا ندري ماذا سيفعل الغذامي بما ردده القدماء في آلاف المواضع من مؤلفاتهم حول نمطية القصيدة الجاهلية، حتى أنهم عدوا تلك النمطية - التي تضع قوالب صارمة لقصائد المديح والفخر والهجاء و..... – وعدوا الخارج عليها خارجا من ملة الشعراء، وهذا ما دفع شاعرا مثل أبي نؤاس إلى استنكار تلك النمطية والسخرية منها:

قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضرّ لو كان جلس

تذكر الربع ومن كان بـــــــه مثل ليلى وسليمى وخنـس

وهذه النمطية هي التي شجعت الرواة على صناعة نصوص ونسبتها إلى شعراء جاهليين، هذا الأمر الذي لا ينكره الغذامي في كتابه بل يعترف به (انظر ص 21)، وليس بخاف أن هذا الاعتراف ينسف فرضية الكتاب من الأساس.

يحاول الباحث أن يثبت صحة نسبة الشعر الجاهلي إلى العصر الجاهلي في الأقل، ليقول إن الخلط الذي يقع في الروايات إنما هو غلط الرواة وليس من وضعهم، ولذلك فإنه عندما يأتي إلى عبارة ابن سلام الشهيرة التي يتهم فيها الرواة بصناعة الشعر يعتمد على ملاحظة (محمود شاكر) محقق كتاب الطبقات الذي يرى أن كلمة مصنوع تعني الخطأ في النسبة ولا تعني الوضع، مستدلا بقول سيبويه عن أحد شواهده بأنه ((مصنوع على طرفة وهو لبعض العباديين)) (انظر ص20)، ولكن لماذا نفترض أن بعض العباديين هذا جاهلي؟ ولماذا لا يمكن أن يكون عباديا معاصرا لسيبويه؟

وفي أثناء رده على (مونرو) - الذي يرى أن من سمات الأدب الشفوي الشيوع والنمطية وهما صفتان في الأدب الجاهلي – يستشهد ببيت لطرفة بن العبد يدل على التفرد والأصالة (انظر ص24):

ولا أغير على الأشعار أسرقها عنها غنيت، وشر الناس من سرقا

والخطأ المنهجي في هذا الدليل أنه يقيمه على بيت لشاعر هو من أكثر الشعراء الذين كانوا عرضة لوضع الشعر على ألسنتهم حسب ما يقرر ابن سلام في طبقاته. والبيت يحمل في ثناياه دليلا قويا على أنه عباسي الأصل فبساطة لغته ليست الدليل الوحيد على ذلك، فمن أين لطرفة أن يعرف مصطلحات الإغارة والسرقة؟ وهي مصطلحات بلاغية وضعها البلاغيون في عصر متأخر.

ويعقد الغذامي مبحثا طويلا يقدم في ثناياه نموذجا تطبيقيا لنظريته (انظر ص ص26- 51) حيث يحاول اثبات أن البيت:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وهو بيت مشترك بين طرفة وامرئ القيس، يحاول أن يثبته لامرئ القيس ويبرئ منه طرفة على أساس أن هذا من خلط الرواة. اعتمادا على محاولة إيجاد خيط تنتظم فيه الجمل الشعرية في أبيات القصيدة لتخلق جوا شعوريا واحدا. وهذا ما يجده في قصيدة امرئ القيس ولا يجده عند طرفة.

والغذامي هنا يتغافل عن حقيقتين مهمتين: أما الأولى فهي أن الشعر العربي التقليدي قائم على وحدة البيت لا وحدة القصيدة، وأن القدماء عدوا تعلق الأبيات ببعضها عيبا من عيوب الشعر.

وأما الأخرى فهي أن هذا البيت تحديدا لا يصلح نموذجا لإثبات فرضيته لأنه يتعلق بالوقوف على الأطلال الذي يمثل قالبا قارّا لا يمكن للشاعر الجاهلي إغفال القيام به.

وليس لي في النهاية إلا أن أعبر مرة أخرى عن إعجابي بالطريقة الرائعة التي تعامل بها الأستاذ الغذامي مع النصوص، والتي تكشف عن طول تأمل وبراعة استنتاج.