-
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
02/08/2013 06:00 AM GMT
السنة الأخيرة
دخل سعدون المقهى ، عيناه جاحظتان نديتان ، وقال: عليّ مراجعتهم في الاسبوع القادم لأن الحاكم العسكري لم يوافق على سفري حتى الان . كنا نجلس مجموعة من المرفأيين وحسين مردان والكردي وربما خليل عند الجدار الزجاجي في مقهى البرازيلية في شارع الرشيد . داخل المقهى شبه عتمة وللهواء فيها رائحة السجائر والبن المطحون ورطوبة منعشة. في الشارع بدا ضوء الشمس حادا ، وساعات ما بعد الظهر لا تزال مشبعة بسخونة الهواء. لقد استقر الصيف في المدينة في ذاك النصف الثاني من شهر نيسان في تلك السنة الاخيرة. عندما جلس أخذ ينزع غطاء السليفون عن علبة سجائره وكأنه يقوم بمهمة جدية. يداه صغيرتان، بيضاوان مغطاة بجلد يبدو شمعيا لامعا. له حاجبان اسودان يعلوهما جبين ذو بشرة شاحبة تخالطها الصفرة، وما فوق خط الجبين يبدأ شعر أسود قصير. حين يضحك تطفح عيناه بالدمع وفي نظراته فضول وشكوكية. هو مثل حسين مردان ، يحرص على ارتداء بدلة، صيفا وشتاء . كان يدخن عندما نقل نظراته من رصيف الشارع الى داخل المقهى وخاطب حسين قائلا : بعد ان أعد فنجان قهوتي في صباح كل يوم وأشم بخاره الرطب العبق الصاعد من زبد القهوة الطافح البني اللون وأعد سيجارتي ، في هذا الوقت منذ أن اغلقت الصحفٌ(1) اسأل ، الى اين يقودنا جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم؟ الحرب بينهما يا أبو علي سوف تبدد كل شيء حتى البخار الصاعد من فنجان قهوتي. لم يعكس وجه حسين اي تعبير وحدّق فيه سعدون مفكرا وقال باصرار: تعرف جيدا أن الصديقة هنا، في مثل هذه المدينة الاعتيادية هي اشبه بالعيب. واذا كانت بينكما علاقات جنسية فتلك فضيحة تبدو فيها المسكينة، المرأة، مثل سارقة يصيح الناس وراءها، الزموها، وضربات قلبها فوق المعدل بضعفين ليلا ونهارا. اما انت فيلازمك شعور السارق، والسرقة في عنقه او جيبه. قاطعه رشدي وكان اول من فهمه، وعقّب مرحا متجاوزا لثغته على حرف الراء وجعلها غينا وقال:لا تعمم مخاوفك على الآخغين ؟ وتصنع سعدون اللثغ على الراء وأجاب :من هم الاخغون غشدي ؟ وضحك له رشدي وقال لسعدون: تتملق بكلامك ابو علي وكأنه لم يحصل في حياته على خليلة ولا صديقة . ولاحظت وجه رشدي متطلعا باتجاه سعدون. وفي نظرات عينيه الصغيرتين طاقة من الود والسخرية لا تنضب. وقال : افهم من كلامك كأن النساء لدى حسين مختلقات ! - لا ! وقال حسين منفعلا : لم يلازمني شعور العيب ولا السرقة . انا أعرف اذا دخلت مجتمعا نسويا فإنهن ينظرن الي نظرة تختلف عن نظراتهن الى رجال آخرين ، وحصلت على أكثر من صديقة! ومطّ رشدي عنقه قائلا : وخليلات أيضا؟ - طبعا. ودمدم سعدون وسأل قائلا: ودون أن يخامرك الخوف؟ وقال حسين دون تأثر : لماذا الخوف وهي راضية وانا راض! وضحكنا. وقدم سعدون تبريره قائلا : لم أكن اريد استنطاق او إحراج ابو علي. والتقت نظراته بعيني رشدي برهة وابتسما لبعضهما بخبث. وأضاف سعدون يقول : الساعة الخامسة والربع وتصور نفسك في مقهى مكسيم في فينا ومعك فتاتك تفكران في فرصة سهرة مسائية. يا ابو علي لنساء الدانوب أثداء بيض، وردية، تفاحية وعنقودية الاشكال دافئة مثل حرارة بطون الطيور. واسترسل يقول : ثدياك كخشفي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن . وفتيات فينا يا أبو علي يملكن خشفي ظبية توأمين. ودوائر افخاذهن كحلي صاغتها يد صائغ حاذق وبطونهن صبرة حنطة . وصاح خليل منتشيا : أكمل! - نسيت. قال سعدون ذلك وأضاف: أتمنى لو تكون هذه المدينة اعتيادية فانت وانا والآخرون ممنوعون من القراءة كما نحب وممنوعون من الحب ومن السفر. وقد قرأت مرة بان العالم السفلي- ما بعد الموت - تحت سطح هذه المدينة الاعتيادية لنا يسمى شيئول بالعبرية تقابلها كلمة الهاوية. وفي الكتاب القديم صورة عن القوى العمياء المسيطرة على عالم ما بعد الموت، والايحاء أو تحفيز الانسان كي يتزود بكل ما يقدر عليه ويعجبه ويتلذذ به ويأنس اليه وينمي إنسانيته، فما بعد الحياة يأتي الموت ثم النسيان. والتفت الى رشدي وقال: كل ما تجده يدك تفعله ..لأنه ليس من عمل ولا إختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب اليها... وسأل فجأة : من القائل؟ أجاب خليل : فتاة الحانة تخاطب جلجامش. وقال سعدون : اعتاد المصريون القدماء اشباع شهواتهم في احضان "موزعات الفرح" الراقصات، الجدات الأوائل لتحية كاريوكا او سامية جمال. هؤلاء الفتيات او الراقصات يتمنطقن بزنانير ضيقة يشدّدن بها على اوراكهن، وكن مبجلات. عندما توقف عن الكلام بدا لبرهة جادا، لا تزال نظراته معلقة عند ذقن حسين وقد ضحك هذا في صوت أخن عميق، متقطع، وقال : لك انت بلاء . ذكرتني بملاهي القاهرة العظيمة. استنشق سعدون بعمق وانتظر أن يقول الآخر شيئا ولم يبد أن المديح قد فاجأه . كانت صوره الشفاهية كما سميتها مرة وأعجب بالتسمية وظل يضحك لها وأقسم لي في حينها بأنه الآن ، يود لو يستطيع ان يضع أول كتاب له في حياته يحمل اسمه وصوره الشفاهية. واظن انه كان صادقا في فرحه. كانت صوره محسوسة ، وهو لم يكن بحاجة الى إستئذان في تقديمها. ومثل آخرين في المرفأ كان صديقا لنا وكنت أغبط قدرته القصصية المنفلتة بلا ضوابط. فيه تلك الثقة حيث يتوقع ، بإلفة تامة، أن تجد كلماته تأثيرها القاطع لدى الآخر. كان يمد يديه أمام عينيه قائلا : - كانت فينا في لمتيّ اصابعي. ويضم اصابع كفيه الى بعضهما. وفي حياته، الآن، يكفيه القاء نظرة حواليه ليعرف أن ارادة الحاكم العسكري مثلا باركت أو أغفلت عن افتتاحيات الصحف فخرجت الى النور، ولم تبارك هذه الارادة جواز سفره حتى الان ليرى النور، وهو يسعى لامتلاك واحدا. قال لي: يا جيان الجواز وجود عيني للانسان في شكل أوراق رسمية ودونه الجحيم . وسأله الكردي :لماذا تريد الجواز!؟ وانتبه سعدون الى أن الآخرين سيسمعون جوابه . فهمهم وقال:لأني مثل كل واحد هنا نظمت حياتي بجهودي الخاصة في ظروف ينعدم فيها الخيار لي ولك. وانتظر أن يعقب رشدي بشيء عندما التفت اليه ولم يفعل فسأله سعدون: هل يحيرك هذا الوضع؟ وصاح رشدي بتلك النبرة الصخابة الضاحكة قائلا : أنت المنفي الابدي روحيا داخل هذه الجمهورية ياطيرا مهاجرا(2) يا أبأس الطيور، ياعكروت. وضحكنا. وأدار تعبير المنفى الروحي رأس سعدون وصفق له بيديه قائلا انها بادرة ذكاء من هذا الالثغ وأشار الى رشدي وعاد ونظر اليه وقال: انا مثلك. كان العمل في اتحاد الطلاب، يوم كنا شبابا، سمواً روحياً، مغامرة الى حد ما، وباختصار كان مدرسة ما. وقد وجدت مدارس جديدة بعده . قال رشدي مقاطعا :تقول يوم كنا شباباً. ماذا سيقول عمنا العجوز؟ والتفت نحوي وهو يضحك. وكان أن اطلق عليّ لقب العجوز في اولى جلسات المرفأ وقال لسعدون :كل هذا لا يغير واقع أنك المنفي الروحي الوحيد الغني في مداخيلك الشهرية بين منفيين روحيين فقراء مثلنا! وضحكنا حقا. وتابع رشدي يقول : أنت ابن مدلل يا صعلوك ولم تخل يوماً من النقود برغم أزمات الجمهورية. ولهذا فان تأميم مصادرك المالية، وهي هنا وضع اليد على دخلك الشهري هي قضية وطنية. كانت عيناه مغرورقتان بالدمع وخاطب رشدي قائلا: جميل يا رشدي. كلامك جميل ومطمئن لي، روحيا. بودي لو تتذكر ما كتبته صوت الاحرار قبل عامين ( كل ما نطلبه السلام والاستقرار والنوم دون منغصات .. )(3) . كنا نضحك متابعين حوارهما، وخفت الضحك ثم توقف عندما سأل سعدون مخاطبا رشدي: قل لي هل يمكن تجنب كارثة الحرب الفوارة في القاع كما يقولون بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم؟ عندما توقف عن الكلام بدت عيناه بلا أثر للدموع. كان يدخن وكشف سؤاله عن احترازه وريبته. كان سعدون يتأجج حيوية عندما يروي ( قصصه الشفاهية ) فيبدو في غاية الالفة والود، متبجحا بلؤم مهذب بأن قصصه تسمّر المستمعين اليه وتعطيه ما يشبه القدرة على ادهاش الآخرين بمعنى انها تعطيه شخصيته. وهو يقدم قصصه بلا كلفة في نوادي كليته والصحفيين والخريجين ويقدمها للمرفأيين. وقدم لهم مرة صورة ، وصفها مجيد في ما بعد بأنها بارعة. وقبل ذلك قال سعدون ضاحكا: يهمني اذا كان فيها عبق من الواقعية . ورد مجيد: بمعنى أنها ملفقة؟! - لا أبدا . - طيب هات أكثر. قال سعدون كانت امرأة ذات وجه مدبب الذقن مثل وجه الفأر، لكن عينيها تشي بتلك الوقاحة العاهرة فقد كانت تنظر اليه دون أن تسمح له بالظن بشيء سوى بالشيء الذي يحدث بين رجل وامرأة شبقين. وقالت خالته الساكنة، بأن النمامة بدرية، وكان هذا هو اسم المرأة، تردد على مسمع نساء المحلة، دون خجل، بأن الحياة لا يمكن ان تعاش دون رجل وتضحك مجلجلة بصوتها، والنسوة يضحكن مهمهمات يتلفتن وكأن احدا يتنصت عليهن. وكان يلاحظ في بيت خالته عندما تدخل بدرية باحة الحوش، صخابة تطالبه دون كلمات باغتصابها اذا التقت نظراتهما غالبا، تاركا لنفسه أن تتأملها بسرية. ولفتت انتباهه تلك السمرة المحمصة وشذى الفتوة في الذراعين والساقين لما تحت الركبتين ، وتنزلق عيناه عند فتحة الزيق عند الثديين . كان ذلك في آخر سنة الثانوية له هنا ، قبل سفره الى اوربا، قادما من مدينته بعقوبة ولم يكن قد سمح لنفسه بالسطو عليها. وفي واحدة من المصادفات التي يعتبرها منحة من منح الرب، نزلت درج السطح في بيت خالته، ويبدأ الدرج من باحة الحوش المفتوحة الى السماء وينتهي بالسطح. في تلك الظهيرة المتوهجة بالشمس كانت كأنها لاتريد ان تهرب من عينيه المتطلعتين الى جسدها بشراهة. والتفتت اليه بكامل قميصها الداخلي وأنبته ضاحكة الا ينظر اليها وهي تغطي صدرها بقطعة مبللة من ملابس مغسولة تمسكها بيدها. ضاحكة مع خالته ومنحنية على طست لملابس مغسولة حملته معها معرضة أجزاء من فخذيها السمراوين امامه. ولاحظ ثدييها المخروطين ينتصبان باستقامة الارض ، يترجرجان تحت قميصها الداخلي. وطلبت من خالته نشر غسيلها على حبال سطحهم وطلبت منه تثبيت حبال غسيلها بعد أن انخلعت مساميرها. وقد حملته في لحظات تلك الظهيرة الوهاجة بالحرارة، دور عدم مقاومة اغوائها الذي كان سحره أقوى من تردده . ومضى يقول ان مشاعر ذكورية مضخمة خامرته. وتعلم إتقان لعبة اقتناص المتع والتخفي. غير ان سرقته للزمن والعلاقة معها لم تشبع حاجته . وفي ساعات قيلولة شهور الصيف اللاهبة، كانت الرعشة ومشاعر القلق وربما الخوف تحبس أنفاسهما ، ويحس خلالها دوما رائحة اللحم الطري والشهي لجسدها وفتنة محاضنتها وهي على سجيتها. كانت تحرص كما قال الا تخرج منها نأمة صوت أو آه توحي بما تفكر به وهو يمتلكها، وما أن ينفصلان جسديا إلا وتعود، مهتاجة، صخابة، سليطة اللسان، لها خطوات طويلة مثل خطوات رجل. كانت خالته قد أخبرته عنها انها مطلقة لمرتين وهي في الثلاثين من عمرها. غير أنه عرف تفاصيل البيت الذي تعيش فيه. حجرتان شبه مظلمتين ورواق مسقف بجذوع النخل يمتد أمامهما وفي تقاطع الرواق، مطبخ مغطى سقفه بهباب دخان أسود كثيف ومرحاض فائض المياه . في ركن في المطبخ تنور وأكوام من السعف والاغصان الجافة وأوراق الجرائد. عند قاعدة التنور موقدان من الطابوق والرماد . وفي باحة الحوش المغطاة بالطابوق الفرشي ، قريبا من حوض حنفية الماء ، ينتصب جذع شجرة للدفلى ذات أزهار حمراء وردية تتفتح في مطلع الربيع. وقال مبتسما، لم تكن علاقته السرية معها يمكن أن تستمر دون أن تعرف. وعندما صدته النميمة بعد أن عرفت خالته بعلاقتهما ، تعلم درسا هو ان يكون صاحب قرار الانفصال الأخير بين الرجل والمرأة وإلا فان الأمر كما بدا له يومذاك يشبه صفعة على الوجه في مقهى المحلة . توقف عن سرد قصته، وأنبأ صمته انه سوف يتابع سردها. وسأل بلهجة لا تخلو من اللؤم:هل يوجد عبق من الواقعية في هذه الصورة ؟ هل يوجد فيها واقع او إبداع للواقع ؟ ونظر الى مجيد ثم ضحك بعد برهة . - واقعية ملفقة يا كواد. صاح رشدي يكتم ضحكته الهازئة في ملامحه شبه المغولية، ملتمع العينين، وضحك مجيد .ضحكنا جميعا. وقال سعدون : تمنيت لو أملك صنعة الكتابة لوضعت كتبا. والتفت صوبي وقال : تبقى الحياة جدية يا جيان ويبقى الفن لعبة فكرية وإبداعا للدماغ الجليل الشأن . وضحك لنفسه . * * عندما كان سعدون في اوربا فرضت الوحدة عليه في البداية. وساعده ذلك على العيش والدراسة دون أن يسحق، مكتشفا حدود الفاقة والكفاف، مقترا ولم يكن مسكينا، وتعلم في تيسير وترقيع اقتصاده. كان أخوه، مموله المالي، يكتب اليه ويسأل بلا إنقطاع عما يدرسه في فينا . فيرد عليه بلا انقطاع انه يدرس علم الاجتماع. كان يتسلم من اخيه حوالات بريدية، واذا زادت مبالغها غير المألوفة ، يكتب له أخوه بأنها مبيعات جزء من فواكه بستانهم على ضفة نهر ديالى في طرف مدينة بعقوبة . وتقبل دون إنفعال انباءً من أخيه تقول بأنه اعاد بناء ثلاثة دكاكين لهم وكان ان افتتح واحدا له لبيع التوابل قال عنها (انها أتربة مقدسة تبيع روائحها وطعمها للناس وتحصل على الذهب.) وبقي أخوه وامه يزودانه بالنقود بعد عودته من فينا، وقد رفض التعليم الثانوي وتابع دراسته الجامعية الثانية. وعندما فاتح امه وأخاه برغبته في دراسة الدكتوراه في فينا ، أخبره اخوه أثناء زيارة له الى بغداد بان امه تسأل (اذا كانت سفرتك فيها الخير فسافر وهي تصلي من أجل سلامتك وتدعو لك بالنجاح ). كان سعدون قد زار بيت خالته بعد الثورة ، فضحكت له وقالت بان بدرية النمامة تزوجت وتسكن البصرة مع زوجها. ونظرت اليه مبتسمة بخبث، وأضافت : - لا أحد يعرف عنوانها. وضحكت من جديد . عندما قال مرة أنه ذاهب الى البيت وقد يزوره اخوه ، عرفت انه يسكن قريبا من مقهى البرازيلية وقال بأسى : لم أخبرك ولم اخبر أحدا اني أسكن قريبا من هنا . ونفث زفرة ضاحكاً بعدها وقال عن بيته ، أن طابوق الحوش فيه نظيف ومغسول ورطب دائما في الصيف،والمطبخ والمرحاض فيه نظيفان، وسياج الطابق الاول مطلي بالدهان مطل على الحوش، وابواب الحجرات وخشب النوافذ مطلية هي الاخرى بدهان أبيض نظيف. كان البيت لامرأة مسيحية ودودة ورائعة، وعندما تحدث اليها مرة عن مطابخ العالم الشهيرة في التاريخ ، المطبخ الصيني، الفرنسي، والتركي، اكتشفت بخبث امرأة في الخمسينات من عمرها انه لا يتقن سوى طريقتين في إعداد البيض، السلق والقلي، وضحكت لاكتشافها. ضحكت بإشراق ، متلعة الرقبة الى الخلف فبان سقف لهاتها الأحمر الرطب ، بسبب فقدانها السن الثاني والثالث والرابع من يسار فكها الاعلى. ووصف الطريق الى بيته عبر أزقة تبدو باقية على ما كانت عليه ربما أكثر من مائة عام . وعندما واجهته أنا بانه صورة شفهية اخرى عن بيته السري ضغط على أسنانه وهمهم قائلا : هذا أفضل مكان أعتني فيه بنفسي قبل أن يبطش بي . كنت على يقين أنه احتفظ بمكان بيته لنفسه. كان سعدون يشير أحيانا الى سنوات غربته عندما كان يتلقى منشورات الاعلام السري. وفي الوطن بعد الثورة، أصبحت مواد الاعلام السري علنية بفترة وجيزة، وعادت تصبح ممنوعة وسرية من جديد. ينتابه شعور غير مريح منذ سنتين، وتعلو المتاريس داخل الروح - بلا توقف. وبقيت صورة بيت النمامة بدرية وصورة بيته والزقاق تذكرني بزقاق آخر، تمثلت شناشيل غرف بيوته المتقابلة تكاد تتلامس، ورائحة الجص الندية ، الحامضة جدرانه اذا أمطرت. كان في ذاك الزقاق بيت جدي لامي واعمامها وعماتها وزوجاتهم واطفالهم وحيواناتهم وعفشهم . والنساء اللواتي يخرجن من بيوتهن ليجلسن أمام عتباتها. في ذاك الزقاق بيت بنية بائعة الباقلاء . بيت عمشة . بيت اسماعيل ودكانه شبه المدفون بالارض لبيع المخللات. وفي ركن من الزقاق دكان ياسين الحلاق ، تنبعث منه روائح العطور ويشغل العمل فيه اخوه عزت. كلما تعن على ذهني صورة الزقاق يلازمني شعور بالغصة وان زيارته قد تؤدي بي الى خسارة بعض أسناني في أفضل الحالات. ونحن نعيش منذ عامين في منطقة اخرى من بغداد . قالت امي: يا ابني وضعنا أمرّ من وضع المهاجرين . وها قد مضت سنتان ، ويتحقق ما قاله ابي في فطرة انسانية مشيرا باصبعه، امامي، الى اعمدة اخبار معارك الجيش ضد الكرد ، والى تلك الفقرات التي تهتك وتشتم اعراض الناس في مقالات صحيفة الثورة، ممسكا بها بيد ، وممسكا باليد الاخرى نظارتيه. عيناه زرقاوان، واسعتان، مرددا بصوت مبحوح : هذه جرائم يا ابني وما دامت الحكومة قد بدأتها يعلم الله وحده أين ستنتهي فهذه الدولة لم تعد دولة . وأشار غاضبا وقال: تذكر، كل الذين استخدموا النار ضد الكرد احترقوا بنارهم وبقي الكرد. وقال، هكذا هو الامر وأعرب عن الاسف في أن كثيرا من الناس لا يصدقون ذلك ويموت كثيرون بلا حول ولا قوة . كانت نبرة صوته تشي بالقلق والكراهية والغضب . والواقع كانت مظاهر العنف تشل حياة المدينة والوطن وغدت الايام مرهقة . وشرع المعارضون للجمهورية يعتبرون العمل الصحفي غير الموالي لهم زندقة ، وكنت مختنقا مرارة . * * * كنا نجلس في دائرة واسعة في جانب من حديقة اتحاد الادباء في مساء اليوم التالي لمظاهرة اول آيار من تلك السنة الاخيرة، وكان الوجوم والقلق واضحين. وبدا له بعض الجالسين محتارين، وبدا البعض الآخر له ، كما قال في ما بعد، مستعدين لخوض المعركة القادمة. كان الجو مشبعا بصدامات مظاهرة أمس. وتختلط الاخبار والشائعات والهمسات مع بعضها البعض لانعدام مصادر معلومات واضحة. ويتم تداول خليط المعلومات في مقرات الصحف وفي المقاهي والبيوت. قال سعدون بأن الحياة السياسية بدت له ، خلال المظاهرة ، أنها أكثر من ميدان حرب بين التعصب وبين إرادة تغيير العالم بالقوة . وقال أنه لن يتخلص من صورة احتدام الضرب بالايدي والرفس بالارجل. صورة وكأنه رآها على شاشة سينما. وعندما يستعيد في ذهنه تلك المواجهة المفجعة ، تبدو بعض تفاصيلها مضحكة. كنا نسير تحت شعار إتحاد الادباء في مظاهرة أمس ، وسمعت خلال سير المظاهرة صرخات هتافين بحياة عبد الناصر وبالوحدة لا شرقية ولا غربية ، وسرعان ما كانت هذه الهتافات تغرق بهتافات مضادة لها هادرة وكاسحة . تحدث سعدون يصف الطابوق والحجارة وأسرة الحديد تسقط من شرفات العمارات وسطوحها على الرؤوس عندما وصلت المظاهرة منعطف بناية حافظ القاضي باتجاه باب المعظم . ورافق ذلك هجوم من مجموعة أفراد يحملون العصي وقضبان الحديد. ومرقت أحجار خاطفة عبر عينيه ، ورأى الصف الاول من المهاجمين يخترقون تجمع اتحاد الادباء وتعرشت أيديهم عصي الشعار. وقال أنه رأى مجيد الراضي ورآني يمسك كل منا بطرف شعار الاتحاد ونقاوم المهاجمين بيدينا الطليقتين. ولاحظ سعدون مجيد الونداوي يرفع من حزام بنطاله العريض دائما ، واقفا بهدوء وحواليه معركة بالايدي والارجل، وفي فمه عقب سيجارة انطفأ منذ وقت وبدا كأنه ينظر من شباك بيته الى الشارع. وقال عن شاعر، قصير ذي شاربين أسودين كثين، بأنه كان يقاتل المهاجمين منغلقا دون أن يناله أحد، يضرب ويقفز فوق الساقطين على الارض مثل غجري سارق للخيول يطارده الاخرون. ورأى تشابكا في الايدي والهراوات وقضبان حديد ترتفع وتهوي وصاحب ذلك صراخات وهتافات مهووسة ، ثم جاءت تلك السورة المتوقعة من الحركة المتلاحمة العنيفة ، من المد والجزر المرافقة لهبوب الاعصار. كان يميل بجسده بحيوية وبحركات يديه معبرا عن فوضى حركة الجموع ، مبهور العينين. وفي تلك الحركة كما قال، سقط كثيرون على الارض، تدوسهم أقدام الحشود المهاجمة والمدافعة والهاربة، ويسقط آخرون من جراء ذلك. كان هجومهم كاسحا ومبيتا وكانت حرارة الشمس حارقة والاجساد خانقة . وتوقف برهة وقال: في تلك اللحظة شعرت وكأني سوف أبول على نفسي دون إرادتي .. وضحك الجالسون بصخب. وصاح به نزار قال : لا يا أبو بوله ! ورد سعدون : لست بطلا ! وصاح سعدي بنشوة مصفقا براحتيه :لك هو..هو.. يلعنك الله يا سعدون على هذه الصورة الشفهية . وكانت الصورة محسوسة . ورد سعدون بلهجة لا تخلو من الاعتداد قائلا لسعدي: سعودي تعرف انه ليست لديّ غير شفاهيتي وهي حبل نجاتي. ووجودي ووجودنا كما يبدو محكوم بالحظ وما أحتاج اليه ضبط للنفس وقليل من الشجاعة . وعندما عاد يخاطب سعدي قال : تذكرني صوري الشفاهية يا سعودي وكأني أشبه بشاعر قبلي ما قبل فترة الكتابة ، أصنع رواياتي وصوري الشفهية أحملها معي من واحة الى واحة في قفر الصحارى في حياتنا، ما بين نوادي كلية الاداب، وإتحاد الادباء، والصحفيين والخريجين ومقهى البرازيلية . وعندما عاد يتكلم نفث دخان سيجارته. شكر سعدي على مديحه لصوره الشفاهية لمظاهرة أمس وقال : كل صوري يا سعودي زاوية، صغيرة، صغيرة . مشيرا الى فسحة فراغ ما بين سبابته وإبهام كفه ، وأضاف يقول : في حقول أعمدة المرفأ الذي شيدتموه في صحف صوت الاحرار و 14 تموز والبلاد تكتبون مهاجمين القبح في زمن كدت أبول فيه على نفسي في مظاهرة أمس بسبب الخوف . وغص بالضحك قائلا انه مع الجمهورية، والذين هدَوا الأسرة على رؤوس الناس وضربوها بالطابوق لن يقدموا شيئا اذا ما إنتصروا، لأن لديهم التعصب وليس الفكر وبعد إنتصارهم يواصلون ضرب الناس بحجة تعليمهم وحمايتهم . كان يتحدث بوقار ممزوج بالسخرية ، معتدل الظهر في جلسته. وبعد برهة قال لسعدي:شكرا على مديحك . واستدار برأسه نحو رشدي وقال : أنتم المرفأيون أنتمي اليكم . أنتم مثلي تسعون لأن يسمعكم الاخرون، ويعترضكم التناقض الدائم ما بين الفكر والمشاعر . وقال بلهجة هادئة :يعترضني اخي الاكبر، وهو ممولي المالي ، مطالبا أن تساعده الثورة وتجعل من دكانه مخزنا كبيرا ، مرددا بأن الثورة بالنسبة اليه هي اعطاء الفرصة لأن ينتعش ماليا. ويخاطبني ساخرا :يا ابن الحرام انت سياسي انساني تريد تهديم دكاني وتوزيع بستاني بحجة بناء بيوت النازحين من الارياف ! وبدا سعدون جادا تمسح عيناه وجوه الآخرين واضاف بلهجة مشاكسة ومبتسما :شكرا أيها المرفأيون ، شكرا أيها الحفل الكريم . وتناول كأس بيرته بحركة سريعة وشرب جرعة كبيرة منها ، ولاحظ وهو يمسح شفتيه بعقب إبهامه أن بعض الجلاس ابتسموا وضحك آخرون . كان رشدي يلاحق سعدون في إستطراداته . رآه وهو يدخن سيجارة حاملا كأس بيرته بيد وبيده الاخرى علبة سجائره دون أن يضعها على الطاولة كما يقتضي العرف او العادة كما فكر. ثم دس سعدون العلبة في جيبه وعاد ينظر الى الآخرين وهنا التقت نظراتهما برهة خاطفة . * * * كانت الاسئلة المقلقة تسمع بين المرفأيين وفي الاتحاد . وكان بعض الاتحاديين ذوي معلومات متنوعة عن الوضع الراهن. كان الراضي بالنسبة الينا مصدر معلومات آنية وقريبة من الدقة. وكان هناك عمر ولم يكن سعدون يشعر بالود تجاهه ، وهناك آخرون أيضا . وتنبىء معلومات المصادر الحزبية والشخصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية سوية مع الهمسات والشائعات وأخبار الصحف والاذاعات منذ مطلع مايس الماضي عن مخاطر العنف المرتقب الذي ينز في قاع الحياة اليومية في المدينة. كان آخرون في الاتحاد على دراية بمعلومات اخرى عن أوضاع البلاد كما قال سعدون مرة . وفي تلك المرة أنصت رشدي ومجيد الى أسئلته وانتابه الشك في الحصول على إجابة شافية منهما فضغط على فكيه وهمهم قائلا: لي حق طبيعي في الحصول على المعلومات . وقال رشدي دون تأثر وبلهجة ساخرة :إحنا بلا معلومات. وضحك برهة ، سعل بعدها بين شهقات تنفسه المتقطع وكأنه يعاني من الربو . سأله مجيد : ماذا تريد أن تعرف؟ - كل شيىء . وتفحص سعدون وجه مجيد وشكل جمجمته وفكر برهة بأن له ملامح زنجية. كان يشعر بالهمود والحقد عندما يسمع تفاصيل المعلومات عن العنف ، متأكدا بانه صورة دموية للجحود البشري. وانتبه الى أن مجيد يتطلع اليه وقال يسأل: ماذا تريد أن تعرف مثلا؟ أجابه سعدون: لا أدري. قال رشدي لمجيد : اتركه حتى يعرف ما يريد. وسأل سعدون متطلعا في عيني مجيد وقال: هل سيطاح بالجمهورية مثلا ؟! كان مجيد قد فهمه بشكل جيد وقال له :معلوماتي كالآتي . تصبح الدولة أكثر بوليسية ، وأهم المعلومات أن قيادة البعث لقطر العراق تقود الجبهة القومية ، وتتسع قاعدة هذه الجبهة وتعد نفسها للانقلاب ، واحترز على نفسك وأنت في نادي الكلية . وعقب رشدي قائلا : لا تتأخر في عودتك الى بيتك ليلا وأن تتبول قبل أن تنام . وضحك مجيد وهو يهز يديه وقال : انه يمزح كعادته. وفكر سعدون في أن مدينته تصبح منفاه الحقيقي وداهمه شعور بالانقباض. التفت الى مجيد قائلا أن ايضاحه عن موقفه السياسي وعما يقلق فكره ليس صورا شفاهية بل حاجة الى المعلومات وقال انها قرار وعيه، وانخفض صوته قليلا وقال : مع هذا أنا لا اطيق المكوث في ساحة السياسة طويلا. وأضاف بصوت متقن بالسخرية ومفاجىء: كثيرون قادرون على الوقوف طويلا دون أن يصيبهم الملل أو الوجوم . وانتظر من مجيد ان يعقب على قوله ولم يسمع شيئا . * * * كنا نعرف في المرفأ أن كثيرين غادروا الى اوربا. وفي الانتظار آخرون عازمون على المغادرة. وإذا كان سعدون نموذجا فثمة دلائل تشير الى أن شخصا مثله سوف يعود الى اوربا عاجلا أم آجلا، حاملا شهادته الجامعية الثانية من هنا. ويومها اعلن قائلا ، انه يفضل ان يكون طالبا طيلة عمره. وبرغم ما يقال عن الثورة كما فكر فيها ، كانت طريقا فرضتها الظروف وتاق اليها مثل الآخرين ، وربما عمل من أجلها وقد لايدري بذلك، ومع هذا عاد الى مدينته ، وها هو فيها منذ اربع سنوات، وينتابه في الآونة الأخيرة شعور وكأن ضمور آماله تصبح واقعا. لاحظ بقلق انحسار الحماس الذي رافق بداية الثورة. وكانت الثورة قد ألهبت حماسه مع كثيرين من أصدقائه ومعارفه ولا زالوا راغبين وعازمين على جعلها ما يشبه سفينة انقاذ لانتشال الناس من الغرق في اوقيانوس الحرمان والعذابات بلا نهاية. وهو مثل الاخرين ، يشعر أنه جدير بالسعادة وبالطريقة التي يختارها لنفسه. *** كان لقاءً إعتياديا للمرفأيين في حديقة الاتحاد تفوح من عشبها المرشوش بالماء رائحة رطوبة ممزوجة ببقايا حرارة ما بعد الظهر، وسكنت أغصان اشجار الصفصاف والراتنج ، وانعكس ضوء خافت لما قبل الغروب في حركة وريقات مدورة صغيرة ، في أغصان شجرتين باسقتين من أشجار الحور. عندما جلست كنت اسمع زقزقة عصافير مهومة وصوت طائر الفخاتي بين حين وآخر. وعندما حضرالآخرون، في ما بعد، لم أعد اسمع زقزقة العصافير كما اختفى الضوء الخافت المتألق بين وريقات شجرتي الحور. لقد مضى وقت طويل منذ معركة اول مايس . وحضر سعدون وقال : لم أحصل على الجواز حتى الان .وقال رشدي : ومع هذا لم تتعلم حتى الآن . - ماذا أتعلم ؟ - درس أن تموت وتدفن في هذه الارض. وسوف ينبت الجواز مزروعا على تراب قبرك ويبقى مزروعا ربما لمائة عام . وصاح به قائلا : يا عكروت يتفجر العالم من حولك وأنت مشغول في الحصول على الجواز! وانصت اليه سعدون ساكنا، وقد شعر بطول لحظات انصاته، ومسح منخريه وهمهم يقول: أنت مستلب مثلي. وسوف تنمو الجوازات على قبورنا المندثرة مثل أعشاب برية ، مألوفة . وانا مثلك، الآن، مضطر الى ربط وجودي بوجود قاسم وأدخل التاريخ معه بحكم قوة القدر. شرب سعدون قنينة بيرة مثلجة . وطلب حسين مردان من مجيد الونداوي قنينتي بيرة لهما مع صحنين من الزلاطة فرد مجيد وقال :اطلب أنت . - حسين تعبان، وهو يتعب حتى من توجيه الطلب. أطلب بدلا عنه . سأل مجيد مكبوح الصوت يهتز صدره بضحك خافت قائلا :ومن يدفع قائمة الحساب ؟ - أنت ! والتقت نظراتنا وضحكنا بصخب . التهم سعدون صحنا من المزة، من قطع طماطم وخيار وجبن مالح مع وريقات خس مقطعة بعناية وزيتون مغربي اسود كالاجاصة. كانت الزلاطة مخللة بعصير من الليمون مخلوطا بالزيت. بدا مسرورا عندما قال : أتمنى لو ان السياسة عندنا تدخل المسرة الى النفس مثلما تعطي هذه الزلاطة متعة محسوسة للمعدة والعين . وقال رشدي :هذا واحد من تصريحاتك اللامعة ! وتفحص سعدون مزاج الجلسة كما قال، فلم يجد في كلمات رشدي شيئا يدعوه الى الانفعال. وشعر أنه مستعد للمجادلة بزهو لا يقاوم وقال :يريد رشدي في ان أكف عن رؤية الحاضر بعين المقارنة. والمقارنة بالنسبة لي هي مفتاح الشكوكية او يمكن تسميتها طريق المعرفة ويعتبرها البعض كفرا . تأملته طويلا وسألني سعدون قائلا :تنظر اليّّكيف أشرب بيرتي ؟ - لا فكرت فيما ذكرته عن الشكوكية. قال احد الجلاس معقبا:تذكرني الشكوكية بما قاله ابو نؤاس مرة( يفضلني على الفتيان ان - أبيت فلا ألام ، ولا أليم ) يا للصيحة الحقة من أجل الحرية الفردية . وتنحنح نزار، متهدل الشفة السفلى الغليظة وخاطب سعدي وقال : تذكرت يا سعودي طيرك المهاجر وخوفي عليك أن تكون خوارجيا تعيش حالة الانذار للذود عما تؤمن به والا تسيطر عليك الرغبة في الاستشهاد . ورد عليه سعدي بحزم قائلا : اسكت أنت يا وغد . وقال سعدون : رددت قصيدة سعدي في وحدتي ومع نفسي.(ها أنت وحدك مرة وكأنك لم تسافر) ماذا كان اسمها.. الفأر! سمع ذلك سعدون وضحك لسعدي مبتسما. كنا نتحدث ونناقش ولا زلنا وكأننا في سوق شرقي ويا لحيوية تزاحم الافكار! وسمعت احداً يسأل ياسين: ماذا تسمي الزمن ؟ أو تعرفه ؟ وضحك ياسين في تلك الهزة المرحة ، الخفيفة من كتفيه ، متلعا رقبته الى الخلف ، ومتطلعا الى الآخرين وقال: ماذا أسمي الزمن؟ ! أو اعرفه؟! يعطي العامة له كنية القدر. وفكر سعدون فيما إذا كنا منخورين داخل الزمن كما قال وبعدها خاطبني قائلا: ربما يعيد القدر صورته غير أنك لا تسبح في ماء النهر مرتين ولا في تيار الزمن ويا للحزن. ومضى ياسين كما انتبهت اليه ، متحدثا بلهجة بطيئة لا تخلو من الود قائلا بابتسامة:أخشى ان اوضاع المرحلة، الان لا تسمح لاطلاق العنان للمخيلة الجميلة، الساخرة، المنفلتة للبعض. وأمر محزن أن تكون معادلة السؤال كالاتي، كما هو مألوف : الزمن= القدر. ولمّ ركبتيه الى بعضهما البعض ضاحكا. وفكر سعدون بان السياسة قد تبقى مثل القدر، القضية الوحيدة، الواقعية بلا ضوابط واضحة . وسحب كرسيه مقتربا من مكان مجيد وقال:لا تزعل من أسئلتي وقد فكرت محتارا كالآتي ، ما من ثورة في منطقتنا إلا واعدت مع بيانها الاول المنفى والمقبرة لثوارها وأنصارها وطبعا لاعدائها . وعندما عدت الى الوطن لم افكر بأني سأكون منفيا . نحن منفيون روحيا ! وقاطعه نزار بلهجة تشفي ساخرة وقال: أقترح تحويل الاتحاد الى معهد اكاديمي للدراسات الفلسفية ، فرع الثورات التاريخية .وضج الاخرون بالهمهمات وضحك بعضهم وتداخلت أصوات التعقيبات. ونظر رشدي الى نزار فرآه يبتسم له . وبلهجة جدية قال رشدي: إقتراحك يا وغد لا يستر اهتراءك السياسي المفضوح . كان رشدي يسند ساعديه على ركبتيه ، واحتفظت عيناه الصغيرتان بمسحة السخرية والمشاكسة في وجه مغولي الملامح ممسوح الغضون . وأضاف محركا يديه بحيوية وقال : أفضل من يكتب عن إهترائك السياسي شفهيا هي هذه ! وأشار الى قنينة البيرة على طاولة أمامهم . وقال نزار:لم تأسرني الخمرة الى حد الوجد الصوفي. واذا سألتني، فإن أفضل من يكتب عن الاهتراء السياسي عموما هو ياسين. وضحك غامزا بطرف عينيه الى رشدي. ورد هذا قائلا بجدية تامة: يجب أخذ الرخصة من مجيد الراضي ولو كان حاضرا كان يقول كلمته ، المثقفون هم اصعب خلق الله في التعامل معهم سياسيا. وضحك سعدي مصفقا بيديه، مهتز الجذع مهمهما بصوت جذل وخاطب نزار بعد الضحك وقال :ولك نزار أعرف انك وغد كبير. وشرع سعدي يتحدث الى ياسين بصوت خافت. يعجب ياسين حتى الوله بشعر ابي تمام والبحتري ويعجب بزهو بحكمة المتنبي وقدرة التعبير لديه، ولم تغرب عن ذهنه الصور التي تشغل عقله في التراث بأن الثقافة والسياسة والفكر حشرت في انبيقة الصراعات في الحضارة الاسلامية كما قال مرة، ومضيفا أن ثمة كثير من المنجزات والجرائم معا في التراث. هو يبدو دوما في هيئة حالم، رقيقا ذا وجه منبسط الملامح، متقوس الكتفين نحو الامام وثمة صلع مبكر في هامة رأسه، ويبدو في نضارة وجهه وهيئته بوجه عام كأنه طالب جامعي اكثر من أن يكون سياسيا. كان ياسين يعجب بشعر سعدي ، ولاحظ سعدون الاحترام الجميل، كما وصفه مرة ، المتبادل بين الاثنين. حلّ الخريف في تلك السنة الاخيرة في مدينتنا وقد نفذت برودة تلك الامسية في عظامي ، فاقترحت انتقالنا الى البهو وكنا جالسين في حديقة الاتحاد . حملنا كراسينا وغادرنا الحديقة باتجاه البهو فبدا نظيفا وكأنه مهجور. وفي الطريق قال سعدون :يبدو ان رواد الاتحاد المعدودين هم آخر سكنة هذا البيت . وبعد جلوسنا قال: هناك من يتوق لان يدق الابواب بالمسامير ويغلق الشبابيك بالالواح ، وان يحترق البناء وتاريخه بالخراب، وتأكل أخشابه حشود النمل. وقال لمجيد: لا أستغرب وجود من يريد فرض حكم الموت على أشجار الراتينج والحور والصفصاف وعلى النخلتين أو الثلاث في حديقة الاتحاد وان تتخشب شجيرات الياس ويجف عشب الحديقة. كانت شهيته للكلام واضحة. ثم مر وقت رتيب بعد أن انفردت احاديث جلستنا، كل مجموعة لنفسها، فبدا الليل ثقيلا حقا في رتابته. في ذاك الجو سأل احدنا لماذا لا نقيم ندوة ما محايدة في موضوعتها وقال ذلك في لهجة لم تخل من السخرية. وعقب فتاح بطريقته العفوية، الساخرة وهو ينظر الى الآخرين وسأل يقول :ماذا سوف تناقشون في ندوتكم ؟ كنت قد أمعنت النظر في وجهه وبدا سؤاله صيغة للرفض. وصاح رشدي في صوت يقيني: دور الزمن في نضوج عوامل الثورة المضادة مثلا؟ قال فتاح :في هذا الظرف السياسي؟! وقال مجيد: او مناقشة دور الثورة في إختصار الزمن مثلا؟ قال فتاح : في هذه الحالة ترفعون عن كاهلنا رتابة مثل هذه الجلسات. وهز نزار كتفيه مضيفا بلهجة ثقيلة، وقال: أنتم، جميعا، طلاب مجتهدون في أكاديمية الدراسات السياسية في إتحاد الادباء - العلوية. بغداد. العراق. كانت الكلمات تخرج بطيئة من بين شفتيه الغليظتين وضحك البعض من تعقيبه، وصاح به سعدي ورشدي في وقت معا : اسكت يا وغد . ونظر كل منهما الى الاخر وضحكا. وقال سعدون : يمكن أن تناقش الندوة مثلا ، دور الرجل في قطاف نضوج المرأة . أو بالعكس ، دور المرأة في مغنطة الرجل ولا أقصد الطريقة المألوفة في علب الليل . ويمكن مناقشة قضية مستقبل معاملة الجوازات المألوفة عندنا على سبيل المثال . ونظر الى الآخرين ورمشت اجفانه وقال: هل نحن في ورطة أم لا ؟! فرد أحدهم بصوت أبح وقال : ربما ورطتك هي الاكبر من كل الورطات ! وأجابه سعدون بلؤم: لا اريد ازعاجك بها. وصاح به رشدي : تحدث بجدية ! صمت برهة وقال : أنا جدي. وفي رأى ما تكتبونه جدي، وهناك ثروة فكرية جدية لعلماء لغة واقتصاديين ومهندسين وفنانين وباحثين وصحفيين وكتاب وادباء ومعهم التراث والمعتقدات والاساطير. كلها جدية، غير أنها مهددة بحريق السياسة الملتهب. راقب سعدون مجيد وسأل :ماذا تقول ؟ - لاشيء . وأحس بانه محاط بعيون متابعة . وقال :أنا أود المرفأيين لانهم يطرحون اسئلة فيما يكتبونه وبذلك يشككون في القناعات وفي الواقع ، يؤشرون بفكرهم وبراحات ايديهم وأرجلهم ليطفأوا النار غير ان الحريق السياسي كاسح كما يبدو وللاسف . ورفع فتاح وجهه العريض ، متهدل الذقن وقال : أتمنى الا يحرقوا اصابعهم ؟! انفجرت قهقهة عالية ورد رشدي منفعلا وقال : بدأ فتاح يشتم بإسلوبه المعتاد. تابع نزار عيني رشدي وتمسح يده ركني شفتيه المتهدلتين وتحدث بصوت غليظ وخدر وقال : تقصد بالطريقة السياسية المألوفة ! وبدا ماكرا وقد ابتلع كلمة - الكريهة - كما قال فيما بعد وكان يريد نطقها. وصاح به رشدي: اخرس انت يا وغد . في نفس الوقت همهم هادي ، جالسا جواري وقال: ليس التشكيك في القناعات او الواقع كما سمعت أمرا سيئا. وخفض صوته وقال: هذه هي طريقته الخاصة؟ قلت له : اسأله. ونظرنا معا باتجاه سعدون وقد تلقى سؤال هادي وقال: تسألني؟ ونفخ منخريه ورد بتريث قائلا : هي طريقتي وأنا كائن سياسي برغم إرادتي . - ماذا تعني؟ - لا شيء. وعندما اجاب التفت ليلتقي بعيني مجيد تنظران اليه. وقال بهدوء للآخرين: وقف هذا الرجل في مظاهرة أول مايس وسط معمعة الضرب والضرب المتبادل وفوضى الوجوه ونظرات الحقد والرعب بشكل رهيب، في فمه عقب سيجارة التصق بشفتيه، هادئا ، يرفع حزام بنطاله بين برهة واخرى! وضحك من كان يتابعه. وأضاف سعدون يقول: هذا فعلا ما رأيته في ذاك الواقع. وأكيد رأى مجيد الجانب السياسي في ذاك الواقع. ويحدث أن تجتمع قدرة هذه الرؤية لدى الاثنين في شخص واحد ، شابلن على سبيل المثال . وتفحصه فتاح بفضول يخالطه بعض النفور مما يسمعه وسأل بصوت مقتضب : هذا يعني أن السياسي - الكوميدي الذي تتحدث عنه هو صاحب شهادتين؟! سمع سعدون كلمات فتاح بوضوح وفكر في نفسه بأنه قال ما يحس به وما كان يعنيه هو ان السياسة مثل الحياة وانها تتغير. وقال له حسين : انت ليش تشكك بما هو معروف وواضح . انت الذي تبحث عن البلايا . ونظر الى حسين ولم يجبه. مفكرا كما فسر نفسه فيما بعد، بأنه لا يمكن لاحد السخرية من جرائم القتل سوى القتلة أنفسهم ، ويعرف انه لا يمكن السخرية من القمع ، بل ادانته وفضحه. ولا يمكن السخرية من الموت. وهو على يقين بانه كائن سياسي في هذا العصر، رغم إرادته ، وقد قرأ في مكان ما وجود فرق بين أن تعرف ما ينبغي القيام به وبين معرفة تطبيق ذلك، ويجد فيما قرأه كثيرا من الواقعية. وانتبه سعدون الى ان هادي يمعن النظر فيه وسأله يقول : من تعتقد انه القادر على تقديم صورة مبكية ومضحكة للورطة ؟ ورد سعدون بإقتضاب: لا أدري . وتابع بعد برهة صمت وقال: الجانب المبكي مألوف وتقليدي في حياتنا وإكتشافه سهل. وصاح أحد الجلاس ، حاد الصوت وقال: وما هو الجانب المضحك في ورطتك ؟ وساد الصمت لبرهة ولم أشعر بالراحة من هذا التوتر في المجادلات. وتبادل رشدي ومجيد النظرات والتقت نظراتنا معا. وسمعت سعدون فجأة ، في صوته نبرة قناعة تخالطها لهجة هازئة قائلا :عندما صاح الطفل، الملك عار، سها عنه الكبار وظل مكفهر الوجه يفرك خصيتيه لانه يريد أن يبول ولا أحد يدله أين ! وساد الصمت ثم ضحك كثيرون، ضحكنا. وبدا وجه فتاح جامدا. ولاحظت انه يسترق النظر الى سعدون. وفكرت، ربما يشعر بالاسف تجاه المشككين بالواقع . وقلت لنفسي ان الاتحاد مكان للادباء غير أنه مكان سياسي، والتشكيك بالواقع السياسي قد يكون طمسا له واذا كان فتاح قد فكر بهذا الاتجاه فهو محق ومع هذا لم أشعر بالود تجاهه. وعندما استدار رأس فتاح التقت عيناه بنظرات سعدون. ورأيت هذا الأخير يمتص دخان سيجارته ببطء ويمسح منخريه براحة كفه. وراقبت التقاء نظراتهما من جديد ، وحينذاك سمعت سعدون يسأل : تعرف يا استاذ فتاح أني طلبت جواز سفر منذ أكثر من سنة. وأنا بانتظار جودو حتى الان . قال فتاح : أنا بانتظار الجواز منذ عشرين سنة تقريبا. ورد سعدون بألفة وبلهجة حزينة : بعد عشرين سنة من الآن سأكون مرتاحا تحت التراب أو منفيا يعرف الله في أية بقعة على الارض ! - في هذه الحالة قدم نذورك الى القدر وقد تنفع ! قال سعدون: عندما افكر اني بانتظار جودو يخيل اليّ ان وعيي الاجتماعي معدوم او أني مخنوق بسبق الاصرار وعاجز ان اقول ( لا ) لانتظار جودو! وأضاف بنبرة صوت هادئة: من منا غير مخنوق بالوضع الراهن؟ وقال بود وبانبساط في ملامح وجهه : صدقني أنا أخاف عندما ارجع ليلا الى بيتي. وفي رأيي أنها بطولة ان نمارس العيش في جحيم الوضع . انتم تكتبون وامارس أنا سرد قصصي الشفهية. نجلس في الاتحاد نفكر ونناقش ونحزن ونضحك . وبعد برهة قال: لا يسد هذا جوع أحد ولا يبني سقفا لمن لا بيت له. وقد ينزع في أفضل الاحوال طابوقة من جدران سجن الانتظار الروحي الذي يشيده جودو للآخرين، فأكون قد ربحت عشرين سنة وتوقف أنت خسارة عشرين سنة قادمة . * * * كان رشدي قد تحدث معي في مكان عملي فيما إذا كنت سأحضر الى البرازيلية بعد العمل. وتبادلنا باقتضاب معالم مناقشات جلسة الاتحاد الأخيرة لنا، وكانت فصلا من وقائع لا تنقطع تحفز وتثوّر القلق في هذه السنة الملعونة كما وصفها سعدي. لم تخل جلساتنا من أخبار عن حملات اعتقال وسجن ومطاردة تنال بعضا ممن نعرفهم من الصحفيين والمثقفين ، ولاسيما بعد اشتداد حملة معارضة للحرب ضد الكرد. وهناك أخبار عن قيام وتشكيل منظمات انذار للبعثيين. ونقل سعدي صورا عن العنف في انتخابات نقابة المعلمين، في حين تحدث رشدي عن المهجرين وقال ملتاعا يلثغ برائه : هل تعغف، نزح ما يزيد على (50) الف موصلي من مدينتهم خوفا . وكنا قد عرفنا أن الحزب الشيوعي اصدر بيانا في صيف هذه السنة قال فيه بان الدولة تصبح ذات نظام بوليسي. وقد سألني ابي في امسية عن آخر انباء البلد بعد أن انتظرني حتى وصلت البيت . وقال انه ظل قلقا حتى وصولي ، مرددا مقولته بحدة وقال :على الثورة ان لا تسمح للرصاص ان يلعلع في سماء المدينة . وان تقوم بواجبها في رعاية المواطنين. وقالت امي:سوده بوجوه اللي هجّرونا يا ابني . الله لا يرضى عليهم . في لقاء مع سعدون جرى بعد ذلك قال ان نقاشه الاخير مع فتاح أحزنه وقال : لا تزعلوا مني فقد خيل لي وانا أنظر اليه أن في ملامحه مسحة من كبرياء الايمان المطلق، وفي عينيه تراءى لي امتعاض ضد المعارضين لايمانه ، وسحنة تعابير وجهه مشدودة . ورد سعدي قائلا :لا تبالغ وفتاح طيب القلب وهو مرح بطريقته الخاصة . لم يكن سعدون بحاجة الى حافز ليسبح في بركة تداعيات فكره المسموعة . ولم يكن الردع عائقا له عن مواصلة كلامه .وكان يقول لي في جلسات المرفأ :انا أكثر ديمقراطية منكم جميعا . وقصصي الشفاهية هي ملك لكل سامع اذا ما نقلها يعيد إنتاجها وفقا لقدراته دون كلفة وهو ينتج نفسه معها. وضحكنا له. وكان يضيف بان قصصه الشفاهية وعموم القصص من هذا النوع ملائمة للناس وضرورية لهم نظرا لسيادة الامية بينهم . وكنا نلاحظ وهو يروي قصصه ، وجود نفحة من التآلف مع العالم، ولديه كما قال، ما يشبه هوية أمان او وثيقة إثبات شخصية. كنا نصغي اليه وهو يروي قصصه في نوادي الخريجين والصحفيين وفي البرازيلية وفي نادي كليته، وتصغي اليه الفتيات، البعثيات والديمقراطيات والمستقلات . وهو يعرف عددا كبيرا من السياسيين والكتاب والصحفيين بينهم اصدقاء حميمين له وسبب له ذلك متاعب جدية . فقد انتهره قبل أسابيع في نادي كليته طالب قومي ممسكا بياقة سترته صائحا فيه (لك انت شيوعي عميل). وأنقذته طالبات بعثيات ومستقلات. وقال في ما بعد انه لن ينسى نظرات عيني الغاضب عليه . كانت فيهما طريقة نظر غير بشرية ، ونوعا من التطير وضياع التركيز وإثارة الرعب والرعب المقابل . في حينها شعر بالامتعاض من نظرات الغضب عليه اكثر من الخوف منها ، ثم خطرت في ذهنه فكرة، ان الغاضب قد يكتب يوما ما مذكراته فخورا ، هل سيقول عن نفسه انه كان ثائرا؟! كان قد اكتشف في سنوات الثورة ، عادة التعرف على الانسان وفق كلمات التمهيد السياسية للتعريف به. وتذكر اخاه مكشرا عن أسنانه قائلا له:(يهمني ان يكون لدي زبائن يشترون بضاعتي واريد إنتعاش البيع والشراء) . وندد بهذا التقييم للناس الساري في مدينته أيضا. وقال (انه لا يشتري هذا التقييم بعانة. ومثل هذا السعر للناس يعطل السوق) وقال بحدة (الذين اخترعوا هذه الفتوى مجانين يجب أن يربطوا من أيديهم الى قبور الائمة لاصلاح ما في رؤوسهم). كان سعدون يعرف أن المرفأيين ليسوا من دعاة شراء التسعيرات السياسية الجاهزة كما قال مرة . وفي سنوات المرفأ، وقد رافقها بنفسه ، فكر بأنه قريب من بحارته ، ولديه ساحة قتاله. ومتيقنا انه ما من احد ليست لديه ساحة قتاله. في حجرة المرفأ قال:( انه اكتشف ضخامة الغابة في معركة الحرية ) فكان أن انطبعت في ذهنه ارضية واطراف حجرة المرفأ ، في اتحاد الادباء ، في العلوية ، في بغداد. كانت أرضيتها باردة ، متسخة، في ذاك الخريف المسائي في بداية الستينيات ، وبدت وكأنها تنز رطوبة امطار الشتاء الماضي ، ولاسيما جدارها المطل على الحديقة . وهناك معالم طحالب . وظهرت واضحة الاقبية الصلدة ، المتعرجة ، رملية اللون للنمل آكل الخشب . وكان السخام في زوايا جدرانها ، وبقيت واضحة حفر المسامير التي انتزعها المرفأيون من الجدران . كان سعدون يدخن في ضوء المصابيح الذاوية كما وصفها مهمهما ونافثا دخان سيجارته ، فقاطعه مجيد :بماذا تفكر ؟ - بجدران البهو، الباردة ، الجرداء . - وتريد بيعها لاحد ! - لا! هناك ، بضع خطوات من هنا، جدران حجرة المرفأ، رطبة وباردة . - آه ! نوستالجيا..ها؟ عندما عاد سعدون يتكلم هذه المرة ، كان مجيد ينصت اليه وبين شفتيه عقب سيجارة يتماوج حينا بحركة شفتيه . * * * قال سعدون لياسين : ما الذي يمكن أن يجعل جلساتنا، في الاتحاد، حيوية ؟ - لا أدري ! كان ذلك في امسية . في غرفة من غرف الاتحاد على يسار المدخل الرئيسي للبهو ، وفي الخارج كان الطقس باردا، رطبا. وحاول سعدون ان يشرح له فتذكر معرضا للصور اقيم في فينا زاره مرات قبل مغادرته لها في طريق عودته الى بغداد ، وكانت معه صديقته النمساوية كلارا وسأله ياسين : ماذا تقول ؟ ومضى يتحدث اليه عن المعرض الفني في فينا وكانت كلارا تطلعه باشارات اصابعها النحيلة والرقيقة الى تلك الملاحم الخاصة بأجساد نساء رينوار ووسيلة تعبيره عن تحسسه بالطبيعة والعودة اليها ، مشيرة كذلك الى نساء مونيه وتماثيلهن مع الطبيعة ، والكيفية التي عالج فيها الوانه والتزيينية الباهرة في موضوعاته . كانت كلارا تتحدث اليه دون توقف. وقال لياسين فجأة : طابع جلسات الاتحاد يشبه تعزية الاربعين بلا ميت حتى الان ! ورد ياسين : معك حق. أصبحت جلساتنا كئيبة . وفي أحسن الاحوال فيها مسحة من الكآبة. وضحك له. واضاف ياسين بأن مثل هذه الاوضاع برغم لا إنسانيتها تخلف لدى الكتاب والفنانين ردود أفعال ومشاعر وافكار تتراكم بفعل الزمن وقد تخلدها في المستقبل ، قصة ما ، ديوان قصائد ، لوحة ، رواية ، بحث تاريخي علمي او دراسة . وقال :هذا التناقض المحير حاد مثلما هو بين الحياة والموت اذا جاز القول . وفسر سعدون لو انه يستطيع ان يكتب عن الزمن الذي يعيشه فالصور الشفاهية لا تكفيه. وشاركه ياسين مجاملا وسأل بلهجة هازئة : انت شديد الايمان بتأثير قصصك الشفاهية كما أعرف . حاول سعدون الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين في وجه رشدي الذي بدأ يضحك ، لكنه أحسّ ، بعد برهة بانه كمن تلقى ضربة ما بين كتفيه وقال: شعوري الان، بعد تعقيباتكم، كمن مدّ اصبعه أو يده خلسة فوق المائدة وسرق كبابة مثلا . ونظر الى صحن مزة موضوعا على الطاولة . وقال ياسين بدماثة وبسرعة : مع هذا هل جربت ان تكتب عن كل ذلك ؟ واضاف بعد وقفة صمت انه هو الآخر يشعر بإمتلاء رأسه باسئلة تثقل عليه. وصاح رشدي مطيلا النظر الى سعدون : لك انت بلغت الذروة في الفصاحة هذا المساء وهو أمر نادر في حياتك حسب معلوماتي . قال سعدون: لم أشرب الشايّ بعد ! واشار الى صحن المزة امامه وكان أن طلب قنينة بيرة . وفكر بانه ينصت حينا الى بقايا صوته عندما يسرد قصصه الشفاهية ، وينحسر عنه الشعور بانه منفي . * * * كانت تسمع في ليالي عام 1962 اصوات اطلاق الرصاص ، وتعيش مناطق كاملة من المدينة معزولة، تشبه اوضاع الغيتو، تحكمها قوة الانتماء السياسي. ويضيّع المهجرون المنفيون الروحيون الهاربون داخل البلاد، المعلومات عن أنفسهم جهد المستطاع . وكان كل من يتحدث اليه سعدون في الاتحاد وفي البرازيلية ونادي الكلية يسمع عنه صورة عن الوضع . وتشكلت في ذهنه تلك الجدران والمتاريس الفاصلة في ميادين المعركة القادمة ، مارة في البيوت والشوارع والمدن والارياف وفي المعامل والدكاكين والمدارس ودوائر الدولة خطوط ميدان معركة مروعة ، الجانبان ملزمان فيها في الدفاع والهجوم ، الصمود أو الضياع الذي لا تعرف حدوده . والغزو المنتظر ، مروع ، مدفوع بقوة الاعصار، وعدته سياسية وفكرية وشعورية . * * * في ذاك المساء ، النصف الثاني من كانون اول من تلك السنة الاخيرة كان رشدي قد اقترح في بداية الجلسة الاعداد لحفلة رأس السنة الجديدة . وفي ساعة متأخرة كنا محشورين في سيارة مجيد متجها بنا ، كل الى بيته . قال سعدون لرشدي : أنا مفلس في قافلة ملاكي الحقيقة . ولا يعني اني لا أبحث عنها غير أني لا أملكها حتى الان . واخاف ان اسأل ، هل يمكن تشييد حقيقة ، اعني كاملة ؟! وقال لمجيد وهو يشير الى رشدي : اول من يلعنني اذا وجهت سؤالي علانية هو هذا . ثم ان المزاج السياسي العام يمنع التفوه بمثل هذا السؤال. واضاف يقول: اذا نزعت السياسي عن سياسته لن تعثر إلا على السياسي. يا للفقر. تتفق معي بان البعض يطالب الآخرين بالخشوع لايمانهم السياسي؟ وضحك مجيد دون أن يغض عينيه عن الطريق من وراء مقود سيارته وفي طرف فمه سيجارة. ولاحظ سعدون ان مجيد خفض زجاج نافذة الباب الى جواره وتحرر من التصاق شفتيه من عقب سيجارته ثم رمى العقب خارج النافذة وعاد ورفع زجاج نافذة الباب . وخلال ذلك اخترق حوض السيارة تيار من الهواء البارد . وقال مجيد لرشدي : ما قاله سعدون موضوعة رائعة تستحق المناقشة . اكتب عنها خاصة في فترة الهجمات الرائجة لليمين الان . هل يملكون الحقيقة ؟! واعطي الكلام للاجراء العاملين في البحث عنها ؟ سيكون سجالا جيدا . وسأل سعدون : وماذا سيحدث للواقع ؟ قال مجيد : لقد خسر اليمين النقاش ولهذا يعد نفسه لشيء آخر . ويخسر قاسم النقاش أيضا . ونظر سعدون الى طرف من وجه مجيد ورأسه ذي الشعر الزنجي ، وذقنه الممتلىء مرتخ على ياقة سترته وقد أشعل سيجارة جديدة علقت بين شفتيه . وشعر بالود تجاهه مفكرا بأن السائق الى جانبه هو احد الصحفيين اللامعين وهو صديق حميم للمرفأيين، وقال لمجيد: ابو حميد أشكرك مرتين، الاولى أنك قيمت فيها جزءا بسيطا من قصصي الشفاهية ، مكتشفا فيها ما هو جدير بالتقييم . ثانيا لانك تجهد نفسك ، في هذه الساعة المتأخرة ، وفي هذا الليل البارد، الخطير، بتوصيلك لي الى بيتي وانت سكران وفي فمك عقب سيجارة . وضحك مجيد. والتصقت السيجارة بين شفتيه من جديد فقام برميها مكررا عملية فتح نافذة الباب وإغلاقها وقال لسعدون : حضّر ثمانين فلسا أجرة تاكسي . وقاطعه رشدي قال : أبداً . ليقسم الان بأن يدفع حساب بيرتنا مساء يوم غد . وغص مجيد بالضحك . وقال رشدي : اقسم يا عكروت وإلا سوف نوصلك الى الاعظمية ونرميك عند رصيف المقبرة الملكية . - أقسم بماذا ؟ واستمر مجيد يضحك . قال رشدي : إقسم بأنك تدعونا الى شرب البيرة غدا ظهرا في السويس بوفيه ، وبعدها مساء في الاتحاد . ولم يقسم سعدون وضحك مجيد قائلا : لن يقسم . * * * قبل ايام معدودات من نهاية العام، كان سعدون داخل مقهى البرازيلية يدخن نافثا دخان سيجارته دفعة واحدة، وتعوم سحابة كثيفة رمادية من الدخان منطلقة من مستوى ذقنه ، صاعدة باتجاه انفه وعينيه، مراقبا تبددها بسكون يلفت الانتباه ويبدو في تلك اللحظات بعيدا عن الآخرين. زجره حسين صائحا به بصوت مفاجىء حاد : لا تنفث دخانك بوجهي . تقول انت اوربي ولا تعرف اصول التدخين . وضحكنا . نظر الي سعدون. لم يكن يضحك (4) –(5) .
براغ 1994 الهوامش: (1) : تعبير استخدم اشارة الى مسلسل اجراءات قمعية اغلقت بسبب تطبيقها صحف اتحاد الشعب ، صوت الطليعة ، اتحاد الامة، الحضارة،الثبات،الانسانية . (2): الطير المهاجر: قصيدة لسعدي يوسف كتبت في فترة تصاعد سياسة العنف والعنف المقابل ساد الحياة خلال عام وما بعده . وهجرة كثير من المثقفين كانت طلائع هجرات كاسحة في السنوات اللاحقة من جراء سيادة سياسة القمع . (3): جريدة صوت الاحرار في مايس- بغداد (4)الأشخاص في المرفأ وجماعة الاصدقاء التي ترد اسماؤهم في هذا النص وهم أعضاء اتحاد الادباء العراقيين هم: علي الشوك/ مجيد الراضي/ بلند الحيدري/ حسين مردان/ نزار عباس/ خليل الشيخ علي/ محمد سعيد الصكار/ سعدي يوسف/ رشدي العامل/ مجيد الونداوي/ هادي الصراف/ الفريد سمعان/ جيان ( يحيى بابان). هناك محمد كامل عارف وعدنان المبارك ، وكانا قد سافرا في بعثات دراسية الى موسكو ووارشو. (5) من الأصدقاء شمران الياسري وجوني ناقاشيان وأرداش كاكافيان وحساني علي الكردي.
تعليق وذكريات سهيل سامي نادر المرة الاولى التي دخلت فيها الى بناية اتحاد الادباء في العلوية كانت ربما الفترة نفسها التي يتحدث عنها نص جيان (يحيى بابان) ، بل إنني جلست قبالته. أخذني الى هناك صديقي خالد بابان الذي اراد ان اتعرف على اخيه عن كثب. كان الفصل شتاء، والجميع في الداخل على موائدهم يشربون ويدخنون ويصخبون . جلست باحتراس شديد على حافة الكرسي كعادتي، وكان هناك رشدي العامل ومظفر النواب وآخر لا اتذكره. تصرف خالد بحرص على ان اكون في حضرة مضيفين غير متضايقين من وجودي بكفالة اخيه جيان، الا انني انا من كنت متضايقا مما رأيته انه ليس مكاني الطبيعي. لا اتذكر الآن الاحاديث التي دارت. اتذكر فقط ان جيان الذي كنت اراه ماشيا، ذاهبا الى بيته، هو نفسه الجالس ، بهدوئه ورصانته. كنت افكر : يا الهي كم يختلف عن المجنون خالد الحريص على كرمه وتنفيذ ما يريده في التو؟ في اليوم التالي قدم خالد انطباع جيان عني : هذا الولد مخروع! وكنت مخروعا حقا. اولا لأنني في مكان لا يعود لي، وثانيا لأنني كنت اعيش يوميا الى حد المرض حدسا بالكارثة القادمة. نص جيان المنشور هنا ملغوم هو الآخر بحسّ الكارثة القادمة. إن طريقته الروائية في الكشف عنه يتلخص باطلاق طاقة الكلام العادي الذي يبدو في الظاهر اعتياديا وليس اكثر من تسلية لأصحابه . لكن أثناء الكلام، والثرثرة، وتقديم ملاحظات رهيفة عن المتكلمين تمنحنا صورا سيكولوجية عنهم وعن خصالهم الخلقية، تتسلل دمدمة الحياة السياسية العراقية لما بعد عام 1960، من خلال تفصيل عارض يغتني في ما بعد بالتفاصيل والملاحظات. تلك هي طريقة الكابوس الليلي. حلم لذيذ يتداعى من لحظة سهو يتكرر يوميا في الحياة . كيف لك ان تمنع تفاصيل محايدة تستمتع بها من ان تتحول الى وحش؟ من قرّر لها ان تتحول وتنقلب عليك؟ انت في الحلم مستغرق كما في الحياة – في الحياة بوجه خاص، فأنت تقوم بشؤون حياتك كالمعتاد، تحلق وتتحمم وترداد ناديك ومقهاك، ولسوف ترى في حياتك انها تعود لك سواء كرهتها ام احببتها، سترداد سينما الدور الأخير ما يعزز اطمئنانك ان الحياة ماضية من دون قلاقل، وفيما انت في الطريق الى البيت وحيدا، منهكا من يومك، يتسلل اليك خوف واضح جدا، خوف غير ميتافيزيقي، مشدود بالحياة السياسية وتهديداتها. في البيت تقنع نفسك ان قضيتك اقوى من التهديد، وجسدك وعقلك سيظلان يعملان في نفس الحياة، مع الناس والآمال العريضة وحزبك المقدام. ستنام وانت تختار ان تفكر باشياء سارة. هكذا كل يوم .. حتى في تلك الايام التي يقترب منك فيها الخطر على نحو محسوس ، حتى لو استحضر خيالك صورتك وانت بيد الجلادين في حفل تعذيب. تسأل: هل اصمد؟ وتشيح رأسك جانبا وتفتح كتابا! قبل عام قدمت التحليل السياسي لتلك الفترة، ولمخاوفنا نحن " الحساسون" اختصره بجملة واحدة: فيما كان الفاشيون يخططون للمذبحة كان التقدميون بلا سياسة غير سياسة تقديم الأضاحي والانتظار! ترد في نص جيان حكاية صغيرة عن جواز السفر الذي كان موضع مناضلة في تلك الفترة . كانت هذه الوثيقة التي هي حق من الحقوق التي لا يفكر الناس بشأنها بإسراف قد تحولت بسبب المنع والمضايقة الى رمز كامل. في سياسة لا ديمقراطية محاصرة بالتفاهة والحقد سيّست موضوعات المواطنة كلها. هاهو جواز السفر وقد بات مملوءا بالدلالات: الحرية، انقاذ الحياة، الفرار بالجلد. من خلال النص نكاد نعرف الان تلك الرغبة الدفينة التي ساقت الليبراليين للهرب من هذا المكان المتفجر. لقد كانوا الأكثر حدسا وليس جبنا. كان البحث عن خبرة جديدة يلتقي بأفق ثورة تموز نفسها، بيد ان هذه الثورة لم تتوقف وحسب بل باتت مصيدة . إن مراجع اللحظة الراهنة حيث آلاف العراقيين من المبدعين هاربين ويواصلون الهرب تكمن في تلك السنوات التي يتحدث عنها جيان باستخدام أحاديث أدباء لا زال بعضهم يعيش وينتج . في تلك السنوات ولدت داخل اتحاد الادباء جماعة "المرفأ" التي ترد بنص جيان. انهم جماعة من الادباء الذين صورهم البعض كانشقاق ليبرالي، وصورهم البعض كدليل على حرية الشيوعيين وقبولهم بالاختلاف على صعيد الأدب والثقافة. أيا كان الامر فجماعة المرفأ كانوا هم كتابنا الحقيقيون نحن الشباب، نقرأهم، ونسأل عنهم، ونعرفهم كجماعة تضم الاكثر ابداعا وموهبة. كان الامر متعلق بالسياسة كذلك، ففي النهاية كنا نطمح بثقافة حرة متسامحة تفتح علينا آفاق الحداثة، ثقافة منسجمة مع عالم متحول. هناك هامش شخصي حذفه جيان من النص ، احب ان اقدمه هنا مع اعتذاري منه. إنني اعرف مقدار شغف جيان بالحقيقة وتواضعه الجم الذي جعله يحذف ما اعتقد انه يسوق رأيا او ملاحظات شخصية لا معنى لها او فات اوانها. بيد انني اعتقد أن هذا الهامش كله ملك لهذا النص ، بل هو كذلك ملك لجماعة المرفأ الذين نسينا اسماءهم لولا يحيى بابان الذي يعيدهم الينا بحيويتهم الشخصية. كتب جيان في هذا الهامش: "والآن ، بعد واحد وثلاثين عاما في المنفى ، علمت ان رشدي قد مات وتوفي قبله مجيد الونداوي ثم حسين مردان . وليست لدي اية أخبار عن سعدون وهادي واسماعيل ، ولا عن المرفأيين والاصدقاء الذين بقوا في الوطن وربما مات بعضهم؟ لا أدري . وتشرد مرفأيون واصدقاء في أرجاء الكوكب ، سعدي ، الصكار ، الراضي ، علي الشوك ، غانم ، بلند الحيدري . ياللألم ويا لعذاب المنفى ! لماذا مثل هذه الخواطر عن بعض نماذج جيل الستينيات ؟! ربما في محاولة لا للحكم بتاتا بل تبيان ما يمكن التقاطه من أحداث عاشها هذا البعض عبر تصرفاتهم وعلاقاتهم فيما بينهم يومذاك . وأعتقد ان اولئك ( البعض ) حملوا أجنة الشكوكية في علاقاتهم مع الواقع ومن خلال فكرهم الى جانب ايمانهم ، وبوادر الابداع فيهم بدرجات متفاوتة. وقد عاشوا في زخم تيار معرفي وعقائدي عارم . منسجم ومتطاحن ، وجربوا مظاهر الصراعات التي حددت فيما بعد ، مسار تطور التاريخ في الحقبة التي نعيشها الآن . لقد تطور العالم ، علميا وتكنولوجيا ومعلوماتيا . وحدث تطور معرفي لدى الانسان . ولهذا فان النظر الى الستينيات وحتى الثمانينيات من هذا القرن ، تبدو حاليا وكأنها مرحلة هواية في المعرفة البشرية لا تخلو من السذاجة . وقد تنفعنا مثل هذه النظرة وكثرة منا في المنفى ، وربما تنفع إزاء أزمة الوطن، المفجعة الطاحنة. أذكر أننا تعهدنا في تلك السنة الاخيرة أيضا بالاحتفال بعيد رأس السنة الجديدة ( 2000 ) في مبنى اتحاد الادباء في العلوية في بغداد في العراق . الاحياء منا يتذكرون أصدقاءهم الموتى ونشرب نخب القرن الحادي والعشرين " .
|