حقيقة البلايين الضائعة بين المحاصصة الطائفية والفساد |
المقاله تحت باب في السياسة قد يكون ما أعلنه «مكتب المحاسبة الأميركي» الأسبوع الماضي عن أن فائضاً تحقق في موازنة العراق المالية نهاية العام الماضي بنحو 50 بليون دولار، آخر سلسلة حقائق العراق التي تكشفها مؤسسات حكومية وصحافية اميركية وبريطانية بدرجة أقل، فيما تظل تلك الحقائق خافية بحسب آليات الدولة العراقية الجديدة، وهو ما يبدو مناقضاً لجوهر الديموقراطية الذي يلتزم عادة كشف الحقائق ويعمل على تيسير الوصول الى المعلومات ونشرها. الحقائق «الضائعة» في شأن العراق لا تتوقف عند مؤسسات البلاد المحكومة بإرث ثقيل من النظام السابق والمكبلة حالياً بنهج المحاصصة الحزبية والطائفية الذي وسم النظام الجديد، بل تتعدى ذلك الى المؤسسات الأميركية، فقبل نحو شهرين كشف بأنه لا يمكن تحديد أوجه صرف أكثر من 95 في المئة من 9 بلايين دولار، كانت مخصصة لإعادة إعمار العراق. وألقى في حينها تقرير «المفتش العام (الاميركي) لإعادة أعمار العراق» باللائمة على «ضعف الضوابط المالية والإدارية بوزارة الدفاع (بنتاغون)، ما أفقدها القدرة على تحديد مصير 8.7 مليار دولار من الأموال المخصصة لإعادة إعمار العراق ما بعد عام 2003». وكان «مكتب المحاسبة الأميركي» وهو (جهاز تحقيق فى الكونغرس) أصدر في سنوات سابقة تقارير عن العراق كانت تقابل بتحفظ أميركي وعراقي على حد سواء، ففي صيف عام 2007 وصفت مساعدة الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض دانا بيرينو التقرير الذي أصدره المكتب حول العراق بأنه «غير واقعي»، لأنه أعطى «علامة مقبول أو فاشل» أمام كل هدف من الأهداف السياسية التي كان من المفترض أن تحققها حكومة نوري المالكي. معتبرة «سقف تلك المطالب السياسية والأمنية عالياً جداً، بحيث يبدو من المستحيل تحقيقها». وكانت صحيفة «واشنطن بوست» نشرت في آب (أغسطس) 2007 الخميس مقتطفات من تقرير مكتب المحاسبة الحكومي جاء في 69 صفحة وكشف أن الحكومة العراقية أخفقت في تحقيق معظم الأهداف السياسية والعسكرية التي طالبها بها الكونغرس الأميركي والرئيس بوش، ولم تحقق غير ثلاثة أهداف فقط من بين 18 ولم تفلح في التخفيف من وتيرة العنف الطائفي ضد المدنيين، ولا في رفع مستوى أداء القوات الأمنية، وأنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستقوم بصرف 10 مليارات دولار لتمويل عمليات إعادة البناء. وسائل الإعلام الأميركية كانت في الغالب ساحة الإعلان عن الحقائق العراقية غير المعلنة محلياً ولا حتى عبر الحكومة الأميركية، ففي عام 2008 كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» انه بعد 5 سنوات من استمرار النزاع في العراق فإن النتائج في حقول حاسمة ومهمة مثل الماء والكهرباء بقيت دون الطموحات الأميركية على رغم إنفاق مبلغ 100 بليون دولار سواء من المخصصات الاميركية او الموازنة العراقية. ويورد مدير الشؤون الدولية في «مكتب المحاسبة» جوزيف كريستوفر مثالاً على المبالغ التي أنفقت على ما يعتبر أعمال إعادة إعمار لكنها حقاً ليست كذلك، ففي إصلاح سد الموصل من تشققات في بنيته الخرسانية يكشف المسؤول الأميركي ان المقاولين تلاعبوا بالعمل بحيث ضاعت الأموال التي أنفقت على عمليات إعمار السد. لم تكن وسائل الإعلام الأميركية الساحة الوحيدة للكشف عن الحقائق العراقية، فمجلس النواب الأميركي اتهم وزيرة الخارجية كوندليزا رايس بإخفاء معلومات عن الفساد في العراق وصوت المجلس في عام 2007 على قرار ينتقد الطريقة التي تعاملت بها وزارة الخارجية مع ملف الفساد، واتهمها بإخفاء معلومات عن المشكلة «لأسباب سياسية». وقال النائب عن الحزب الديموقراطي هنري واكسمان في تقديمه مشروعَ القرار أمام مجلس النواب، إن وزارة الخارجية الأميركية تحاول إخفاء أية معلومات تكشف عن الفساد في حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. واعتبر واكسمان الذي أقنع رئيس مفوضية النزاهة العراقية راضي الراضي بالهرب من العراق وتقديم مداخلة رسمية في مجلس النواب اتهم فيها المالكي بحماية فاسدين عبر تطبيق قرارات تمنع مساءلة وزراء ومفوضين كبار في حكومته، أن من حق مجلس النواب معرفة كل شيء عن الفساد والسؤال عن الأموال التي تنفق هناك. فيما رد منسق الشأن العراقي بوزارة الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد الاتهامات معتبراً ان المالكي «يقوم بكل ما في وسعه»، لكنه قال إن بإمكانه «فعل المزيد». وكان رئيس مفوضية النزاهة راضي حمزة الراضي الذي عينته الولايات المتحدة عام 2004 رئيساً للهيئة التي تتولى مكافحة الفساد قال أمام مجلس النواب الاميركي إن مفوضيته اكتشفت اختفاء 18 مليار دولار من أموال الحكومة العراقية وجمعت أدلة عن ثلاثة آلاف حالة فساد. بالمقابل نفت الحكومة العراقية صحة معلومات الراضي وتوعدته بتوجيه تهم بالفساد. وكان أول تحذير من تحول إعمار العراق الى اكبر قضية فساد، ظهر عام 2005 حين ذكرت منظمة الشفافية الدولية أن عملية إعادة الإعمار في العراق مهددة بالتحول لأكبر قضية فساد في العالم وشهدت أربع مؤسسات أميركية كبرى دراسات موثقة عن الفساد في العراق، وهي الكونغرس، ووزارة الخارجية، ودائرة المفتش العام ومكتب المحاسبة الأميركي. وتجمع وثائق تلك المؤسسات على ثلاثة مؤشرات: 1- الفساد في العراق منظمٌ ومتنامٍ. 2- الدور الأميركي ناشط في المراقبة ولكنه ضعيف في الحد من الفساد. 3 - عدم قدرة الحكومة العراقية على إضعاف مراكز الفساد والحد من نشاطها. وتجمع تلك المؤسسات في وثائقها الى ان جهود الولايات المتحدة لتحسين قدرة الوزارات العراقية لجهة اعتماد الشفافية في عملها وطرق صرف موازناتها المالية تواجه أربع عقبات سياسية تتمثل بالنقص الحاد في طواقم الموظفين المؤهلين للقيام بمهام هذه الوزارات، وبالنفوذ الحزبي واختراق الميليشيات قسماً من الوزارات، وبالفساد الإداري الذي ينخرها، وبضعف الأمن وهو ما يؤدي إلى مغادرة الموظفين الأكفاء إلى خارج العراق. وبحسب تأكيد مكتب المحاسبة الأميركي فإن ما يقرب من نصف الموظفين الحكوميين العراقيين لا يلتحقون بأعمالهم يومياً، وكثيرون لا يعملون أكثر من ساعتين أو ثلاثة كل يوم. كما ان تقييماً في هذا الاتجاه أجرته السفارة الأميركية وجد أن ثلث الوزارات المدنية العراقية تعاني من مشكلة «الموظفين الأشباح» وهم الأشخاص الذين تدفع لهم المرتبات لكنهم لا يأتون مطلقاً إلى العمل. بمقابل «الموظفين الأشباح» هاجر الكثير من التكنوقراط العراقيين من المتعلمين والمتخصصين إلى خارج البلاد، وهنا يشير تقرير للأمم المتحدة صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 إلى أن 40 في المئة من المتخصصين العراقيين غادروا البلاد منذ عام 2003. وكان تقرير مكتب المحاسبة انتقد الوكالات الأميركية التي تعمل على مساعدة العراقيين، فهي لا تمتلك خطة أو استراتيجية لتوجيه الوزارات العراقية، وإن حاول التقرير توزيع اللوم مناصفة على «سلطة الائتلاف الموقتة» التي ترأّسها الحاكم المدني بول بريمر والحكومات العراقية المتعاقبة عندما طردت القيادات المؤهلة من المواقع الحكومية والجامعات والمستشفيات، بذريعة انها بعثية وتضم انصار النظام السابق، وهو ما أنتج نقصاً في الخبرات المؤهلة لإدارة الوزارات والمرافق العامة. سجون العراق... شجونه وإذا كانت الإدارة هي صورة الفساد الأولى فإن السياسات الأمنية هي صورته الأفظع، فالمؤسسات الأميركية تواصل مسلسل الكشف عن فضائح السجون العراقية وقالت مصادر رسمية إن مئات الرجال المنتمين إلى الطائفة السنية الذين اختفوا خلال تشرين الأول (أكتوبر) 2009 في محافظة نينوى كانوا محتجزين في سجن سري تديره الحكومة العراقية في العاصمة بغداد، وفقاً لما ذكرته صحيفة «لوس أنجليس تايمز» التي أوضحت أن المعتقلين في السجن الذي كان تحت إشراف المكتب العسكري لرئيس الوزراء نوري المالكي تعرضوا للتعذيب قبل أن تنجح وزارة حقوق الإنسان من الوصول إليه والضغط على المالكي الذي أمر بإغلاقه واعتقال ضباطه. وبحسب تقرير منظمة العفو الدولية «أمنستي انترناشيونال» الصادر قبل ايام فإن آلاف المعتقلين في السجون العراقية التي كانت تشرف عليها القوات الاميركية، يتعرضون للتعذيب وغيره من أشكال سوء المعاملة، وواجهوا اعتقالات تعسفية تصل الى سنوات عدة، من دون توجيه أي اتهام أو الخضوع لمحاكمة، في حين تعرض بعضهم للضرب المبرح في سجون سرية للحصول على اعترافات بالإكراه، عدا عن حالات أخرى من الاختفاء القسري. ويتساءل الباحث الأميركي من اصل عراقي، عباس كاظم وهو أستاذ مساعد في شؤون الأمن القومي في الكلية البحرية للدراسات العليا في مونتيري - كاليفورنيا، عن مدى تمكن العراق من إرساء الديموقراطية وسيادة القانون، وترويج التنمية الاقتصادية والبشرية وسط ظروف تجعله ثالثَ أسوأ بلد في العالم من حيث الفساد في 2006 و2007 و2008 – ورابع أسوأ بلد في عام 2009، كما ان البنك الدولي وضع العراق في أسفل القائمة. ويرى الباحث في دراسة نشرتها «مؤسسة كارنيغي للسلام» الأميركية ان الفساد السياسي واستغلال السلطة ينبعان من الكثير من مكامن الخلل البنيوية، والنتيجة كانت «أداء سيئاً جداً في كل الوزارات. في شكل عام، كان الوزراء الفاسدون يحظون بالحماية من أحزابهم في مجلس النواب، وكان رئيس الوزراء نوري المالكي يشيح بنظره عما يجرى. وحتى عندما كان فساد الوزراء كبيراً جداً بحيث لا يمكن تجاهله، لم تحصل ملاحقات قضائية». ويرى الباحث الاميركي العراقي ان عجز آليات الدولة العراقية الجديدة عن تقديم الحقائق والتعاطي معها بجدية حتى وان كشفت وقائع لا تسر أحداً، مناقض لجوهر الديموقراطية الذي تؤكد الدولة انها تلتزمه أساساً دستورياً لعملها. |