حكمة الرئيس وقيم العراق الجديد |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات تناقلت الاخبار ان فخامة رئيس الجمهورية الاستاذ جلال الطالباني قد امر بتخصيص راتب شهري لعائلة الفنان العراقي الراحل راسم الجميلي ،كما اثار الموضوع اهتمام ورعاية دولة رئيس الوزراء الاستاذ نوري المالكي ، وتعاملت الفضائية العراقية مع الموضوع بشفافية ملحوظة . ولاشك ، ان هذا التكريم يعد تصرفاً نبيلاً بكل المعايير الاخلاقية ، ويعبر عن قيم وثقافة العراق الجديد الانسانية ، ويذكرنا لاول وهلة بما كان عليه حال العراق ايام الطاغية ، حيث كان ابناء الرافدين النشامى يقادون الى المشانق والمقابر الجماعية واحواض التيزاب لاسباب تافهة لدرجة ان احداً لم يكن يصدقنا ، ومابرحوا ،عندما نتحدث عن مآسي العراق في ظل الطاغية ، وربما كانوا محقين في ذلك ، فقد تجاوزت تلك الجرائم حدود المعقولية والمنطق ، فمن ذا الذي يصدق بسهولة ان صبياً لايتجاوز العاشرة من عمره ، قد دفن في مقبرة جماعية مع لعبته ، وان عجلة نقل عام قد دفنت بكامل ركابها في مقبرة جماعية ، ومن يصدق ان من بين اولئك الضحايا عراقية تحتضن رضيعاً . لقد كان اخر عمل للفنان الراحل ، هو مسلسل الزعيم ، والحال انه كان عملا ينطوي على تجريح شديد غير مبرر ، لامن حيث الوسيلة ولا من حيث الهدف ، بالتجربة العراقية النامية ، ولكن كما يبدو فان صدر الرئيس والحكومة قد اتسع ليضم ويتقبل نقداً لاذعاً لم يكن له من الحقيقة والواقع شيئاً يذكر . وفي هذا المقام يثار سؤال مشروع ، لماذا لم تتمكن التجربة العراقية الجديدة من ان تحتضن الادباء والفنانين والشعراء ورجال العلم والمعرفة... ، ولماذا تركتهم صيداً سهلاً لاعدائها ، فكانوا ضحايا قبل ان يكونوا خصوماً ؟ ليس من السهل استنتاج الجواب ، ولكن يمكن القول ان الشعب العراقي يعيش في مرحلته الراهنة ، لاول مرة في تاريخيه ، مخاض تجربة ديمقراطية حقيقية توافرت جميع اركانها وشروطها ، بعد تجربة مريرة مع حكامه الذين حكموه عبرعهود تاريخية مظلمة طويلة بالاستبداد والظلم والقهر، وهكذا تولد لديه شعور بالجفاء وعدم الثقة بحكامه بعد ان امسوا في ذاكرته التاريخية رديفا للظلم ولكل مأسيه ومعاناته السرمدية، وفي نفس الوقت ، فان هذه التجربة التاريخية واجهت اعداءاً غلاظاً متمرسين مابرحوا يعملون ليل نهار بكل جد ومثابرة لأسقاطها بكل الوسائل ، فانفقوا الاموال الطائلة على وسائل الاعلام واستعانوا بمتخصصين في الحرب النفسية والادب والشعر والفن والمسرح والسينما، واقاموا مهرجانات التضامن مع ما اسموه معاناة الشعب العراقي في كل حدب وصوب وحرضوا المثقفين والاعلاميين العرب والاجانب ضد تجربة العراق ، بعد زوروا الحقائق بشكل منقطع النظير ، كما جندوا حتى المرتزقة من قراء الطالع والكف والمشعوذين والدجالين(1) وبعض من سدت في وجوههم سبل الرزق لصالح حربهم المعلنة على التجربة العراقية الاصيلة ،كل ذلك ليزرعوا في عقول الناس البسطاء ان التجربة محكوماً عليها بالفشل وان زمن الطاغية كان هوالافضل وكمقدمة لاستعادة ما فقد ، ولكنه فقد للأبد . لقد تمكن اولئك الاعداء جزئيا من استثمار ذاكرة الشعب المريرة مع حكامه وزرعوا عدم الثقة بين ابناء الشعب وقادته المنتخبين ، ساهم في ذلك عدم شعور المواطن بتحقيق منجزات حقيقية ومؤثرة على حياته وحياة عائلته كما ان البعض ممن تولوا المسؤولية القيادية ، ممن سارعوا للوفود للعراق من كل حدب وصوب بعد سقوط النظام السابق ، استغلوا ثقة القيادات الجديدة بهم وعدم خبرتها في امور الحكم فقدموا مصالحهم الشخصية على مصالح شعب بأسره فسارعوا الى نهب المال العام وبشكل سافر ومكشوف في احيان كثيرة مما زعزع الى حد ما ثقة الشعب بحكامه وان كانوا مخلصين وذوي نوايا طيبة . لقد ذقنا في العراق طعم الدكتاتورية المر وأدركنا بعمق انها سبب كل تخلف وأندحار وهزيمة ، واليوم نتذوق طعم الديمقراطية وصدقوني واقولها مخلصا انه رغم تأمر كل قوى الشر والموت مع كل شياطين الارض على الشعب العراقي فأنه يجد طعم الديمقراطية كطعم العسل بل هي أحلى وأذوق فما اجمل الحرية ولو كانت تنوشك في كل لحظة رماح الغدر ونفثات السم والشر .. لقد أستباح الارهابيون الغرباء وبعض الخونة المنافقين الدم العراقي وذبحوا اطفال الرافدين وأرسلوهم باكرا الى المقابر وهم بملابس عيدهم ونشوة طفولتهم دون ذنب الا لانهم اطفال العراق ، اجمل وارق اطفال في العالم ، بل انهم ابادوا عوائل بكاملها ذبحا ، واعتدوا على من يُحلف بعفتها وطهارتها ، واهانوا الحر الكريم الشجاع ابن مضائف العراق وخيراته ، بل فعلوا ما لاتفعله البهائم حتى في بني جنسها من دون وازع من ضمير او اخلاق اودين أو حقوق انسان . كل ذلك في سبيل اسقاط التجربة الديمقراطية في بلدنا ولكننا نؤمن وبكل ثقة انها مؤامرة خاسرة سينتصر فيها الشعب العراقي الاصيل حتما وستحل البسمة في عيون اطفال العراق محل الدموع ، لعنة الله والتاريخ على من ابكاهم ويتمهم ... ذلك أن الشعب العراقي ليس وليد اليوم أو البارحة بل هو صانع حضارات ماهر ، ويستحق الحياة الديمقراطية الحرة بكل جدارة ، فهو اول من خطا خطوات الحضارة الانسانية في سومر واكد واشور وبابل ، فالقانون عراقي والكتابة عراقية وكذلك العجلة ،ومنه شع نور الاسلام وقيمه العظيمة الى ارجاء الدنيا ، وقال الامام علي (ع) ، يوم قدم العراق، مخاطبا العراقيين ( والله ماجئت لاعلمكم وانما لاعلم الدنيا بكم ) . وخلاصة القول ، ان العلاقات العامة في العالم المعاصر تعد من اهم الوسائل التي تعتمدها الدول من اجل دعم سياستها المحلية والدولية ، وسبيلها الى ذلك سبل متنوعة ، منها اقامة المهرجانات الاقتصادية والفنية والادبية ودعم وسائل الاعلام والكتاب وتخصيص جوائز للابداع في كل المجالات ، والهدف الخفي من وراء كل ذلك ، ليس ان تلك الدولة تتذوق الشعر والادب والفن حقاً ، بل ان السبب هو دعم سياستها العامة داخلياً وخارجياً ليس الا . لقد روى احد ضباط المخابرات السابقين المقيمين في سوريا لاحد المعارف ، ان صدام قد استدعاه هو وزميل له ذات يوم ، وامر بتسليمهم حقائب تحتوي على مبلغ (16) مليون دولار ، وكانت المهمة ان يتوجهوا الى جنوب افريقيا ، حيث سيجدوا شخصاً افريقياً بانتظارهم في فندق معين وعليهم تسليم المبلغ اليه بعد تبادل كلمة السر، وفعلا وجدوا ذلك الشخص في الوقت المحدد ، وعلق ذلك الضابط قائلا ، انه لايستحق ان اسلمه عشرة دولارات ، ومع ذلك وخلافاً لقواعد العمل المتبعة ، سألته عن سبب منحه هذا المبلغ ، فأجابني مبتسماً انه دعم للمثقفين الافارقة ، وحمل المبلغ ومضى . وفي ضوء ما تقدم ينبغي الاهتمام بشكل جدي بالكفاءات العلمية والادبية والفنية التي تعبر، من حيث الوجود والمضمون ، عن خلاصة قيم الشعب العراقي واصالته وكفاءته والاعتماد عليهم في ادارة مؤسسات الدولة وتنشيط الفعاليات الثقافية ، ولايكون تكريمهم بعد وفاتهم ، وان كان هذا امرا نبيلاً في كل الاحوال . ومن باب الشيء بالشيء يذكر نجد ان من الملفت للنظر بشكل غريب ان حكام الدولة العراقية منذ تاسيسها قد ناصبوا اصحاب هذه الكفاءات العلمية والادبية والفنية العداء واستبعدوهم من نطاق قيادة الادارات العامة بشكل ملفت للنظر فلا نجد ان احدأ من المفكرين او الادباء او حتى من حملة الدكتوراه او الماجستير قد كلف بقيادة وزارة او سفارة او مؤسسة تتعلق بأختصاصه ،الا على سبيل الاستثناء . وادى كل ذلك الى انتشار ظاهرة هجرة الكفاءات الحقيقية وازدياد ظاهرة القيادات الادارية التي تحمل الشهادات العلمية المزورة في بلد يحفل بالكفاءات العلمية ويقود علمائه وخبرائه ومفكريه كبرى المؤسسات العلمية والصناعية والفنية في مختلف ارجاء العالم . ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ (1) : لاحطناً مراراً ان اغلب المنجمين والمشعوذين الذين تستضيفهم بعض الفضائيات ، عندما يسألون عن الوضع العراقي وبالتحديد سؤال متى يستقر العراق ، فان اجابتهم تكاد تكون موحدة بان ذلك لن يتحقق الا بعد سنة 2012، ولانعرف بالضبط ماهي الحكمة من تحديد هذا الوقت بالذات ، الا ان من المؤكد لدينا انها وسيلة اخرى لزرع اليأس في ضمائر وقلوب العراقيين ، خاصة وان من المعروف ان اغلب المنجمين والمشعوذين هم من وكلاء الامن والمخابرات وكانوا قد تدربوا على ايديها ، حيث كانوا يترددون على عوائل المفقودين والمحتجزين والشهداء والذين انقطعت اخبارهم بحجة اخبارهم عن مصير اعزائهم ، وكان من ضحاياهم العديد من العراقيين البسطاء . |