مقدمة في فلسفة التاريخ من منظور إسلامي |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات تقدمة : التاريخ History : كثيرا ما نتداول كلمة (التاريخ) ولكن دونما وعي منا بمحيطها وبنيتها الحقيقية، فنحن نستخدمها لنعرف السابقات ونميزها بجعلها داخل إطار زماني محدد ، ونتغاضى عن البحث في جذور هذه العلاقة الزمانكانية ، وليس هذا حال الغير متخصص بل ولدى أهل الاختصاص تختلف المصادر حول تعريف هذا المصطلح (التاريخ) ، فمن قائل "هو علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية" ، والعلامة بن خلدون والذي يعرض للتاريخ من وجهة نظر عالم المجتمع فيربط الجزئي بالكلي ويتحقق من فرضية القضية بمشاهدة مختبرية مذهلة للظواهر والتحولات الاجتماعية يقول : ( إنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم ، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال ، مثل التوحش والتأنس والعصبيات ، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها ، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع ، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال ) ، والتاريخ هو " العلم بالأمور الجزئية لا بالأمور العامة ، والقوة النفسية اللازمة له هي الذاكرة ، وهو خلاف الشعر لأن الشعر خيالي والتاريخ واقعي ، وخلاف الفلسفة لأن الفلسفة موضوع كلي وموضوع التاريخ جزئي ، وينقسم التاريخ إلى ( التاريخ الطبيعي ، والتاريخ المدني ، فعلم الأرض يبحث في تاريخ الأرض ، وعلم المستحاثات يبحث في تاريخ الأنواع الحية المفقودة ، وتاريخ الإنسان يبحث في أحوال البشر ووقائعهم الماضية)، وقد ربط فيكو ( 1668- 1744) صاحب كتاب ( العلم الجديد – Scienza Nuova ) التاريخ بثلاثة أطوار " الدور الإلهي ، والدور البطولي ، والدور البشري" ، وهو عند سقراط ( المعرفة) وعند أرسطو ( جمع الوثائق) ، وتطلق كلمة تاريخ أيضاً بما تعاقب على الشيء في الماضي من الأحوال المختلفة. والتاريخانية: و التاريخانية أو النزعة التأريخية ، أو المذهب التاريخي (Historicisme) أي التأريخ كمبدأ وحيد للتفسير، تفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان (حتى الديانات) عن طريق شروطها التأريخية، فالتاريخ يكفي نفسه بنفسه، ولا علاقة له بأي مبدأ آخر للتفسير، لأن التاريخانية تنفي كلّ المبادئ الأخرى كالغيب والوحي والرسالات... الخ ، مثلا فلسفة التأريخ عند (هيجل) والمادية التأريخية والمادية الجدلية عند (ماركس). فالتاريخانية ليست مجرّد منهج بل هي مذهب يرى بأنّ كلّ حقيقة مهما كانت النتيجة للشروط التأريخية. كما تجدر الإشارة إلى أنّ التاريخانية شيء والاعتماد على التأريخ في تفسير بعض الظواهر الاقتصادية والسياسية شيء آخر وهنا يوجد الفرق المنهجي بين القراءة الإسلامية لتاريخ البشرية وبين قراءة هيجل المثالية. فإذا كانت التاريخانية تنفي كلّ مبدأ للتفسير خارج التأريخ فإنّ الدراسة التأريخية (التأريخية أي الاعتماد على التأريخ) لا تنفي هذا المبدأ. فالتاريخية دراسة علمية فهي لا تنفي الغيب التأريخية كالنزعة الاجتماعية (الاجتماعوية) (Sociolgime) أي تفسير كلّ الظواهر والحقائق بالاعتماد على التفاعلات الاجتماعية أي الشروط الاجتماعية ، وهذا ما ينفيه الفلاسفة المثاليين ، فالنزعة الاجتماعية تنفي الغيب وترى بأنّ علم الاجتماع يكفي نفسه بنفسه. ، وفي ذات السياق الاجتماعي يري د. برهان غليون أن مراحل ثابتة في تاريخ مرسومة في ترسيمة تاريخية كونية سابقة ، أو مقدرات مجتمعية ثابتة أو نموذجية (أنني لا أعتقد بوجود مراحل ثابتة في تاريخ مرسومة في ترسيمة تاريخية كونية سابقة على قيامها فأنا لا أعتقد أيضا بوجود مقدرات مجتمعية ثابتة أو نموذجية. فالمجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والعالمية. ونظرية المراحل التاريخية الماركسية الخماسية المعروفة تجريد عمومي محض. ولذلك قلنا عنها إنها ترسيمة فحسب ولا علاقة لها بالتاريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات ) أما الدراسة الاجتماعية فهي شيء آخر. فالدراسة الاجتماعية أو السيوسيولوجية: أي الاعتماد على علم (الاجتماع) ليست مذهباً كالنزعة الاجتماعية بل هي منهج. وقد اعتمد منظرو نظرية المعرفة في كل كتاباتهم على الدراسة الاجتماعية ورفض من الأساس كلا من التاريخانية والنزعة الاجتماعية ، لذا يمكننا القول بأن التاريخانية هي فلسفة التاريخ. ونشأة مذهب التاريخانية ترجع إلى أقدم العصور التاريخية كما يرى فيكو والذي يري أن مباحث التاريخانية أو فلسفة التاريخ ترجع إلى أقدم العصور منها كتاب ( مدينة الله) للقديس أوغسطين ، ومقدمة بن خلدون ، وكتاب الأمير لمياكفللي ( 1532) ، وكتاب الجمهورية (1577) لجان بودن ، وخطبة في التاريخ العام (1681) لبوسيه ، والحكومة المدنية (1690) لجون لوك ، ومن الذين بحثوا في فلسفة التاريخ مونتسيكو صاحب (روح القوانين). فلسفة التاريخ من منظور إسلامي: لا يمكن صياغة رؤية عقلانية إلى التأريخ إلا باتخاذ موقع من التأريخ والنظر إليه ككل. هذه النظرة إلى التأريخ من الخارج هي التي تمكّن فيلسوف التأريخ من النظر إلى الحوادث في ترابطها، وتمكنه من إسقاط العلاقات السببية بين الحوادث في المستقبل. ثم يستمر فيلسوف التأريخ في هذه العملية فيتجاوز حدود توقع المستقبل وينتهي إلى طرح مشكلة غاية التأريخ أو (نهاية التأريخ). إنّ هذه الطريقة لصياغة فلسفة التأريخ وفي طرح مشكلة نهاية التأريخ وغايته تعتمد على تعالي مزيف ما دامت عملية التنظير تتمّ من منظور وضعي وفي التاريخانية وفي كلتا الحالتين فإنّ الفكر المنظّر لا يملك مقومات التعالي على الحاضر، ليسمح لنفسه بالنظر إلى التأريخ نظرة كلية تمكّنه من تنظيره وتصور غايته. "هذا العائق الذي يقف أمام الفكر في مجال التنظير يعبر عن أزمة قاتلة للعقل تختلف عن أزمة العقل المنتجة للمعرفة" . وهكذا فإن الإشكال المطروح هو كالتالي: ما هي المقومات المعرفية، التي تسمح للفكر بتأمل التأريخ من أعلى أي من خارج التأريخ حيث يتمكن الفكر من التحليق فوق حركة التأريخ فيكتشف مصدرها ومعناها ونهايتها؟ لذلك يمكن القول: بأن الفكر غير المرتبط بالتعالي هو فكر مستغرق في الزمان (في الزمان الحاضر) فالفكر هنا لا يتجاوز حدود الحادثة التأريخية، وزمانيته تشكل محدوديته. لا يستطيع هذا الفكر إذاً أن يعي نفسه خارج التأريخ. التاريخانية وفلسفة التعالي: لكنّ القول بعلاقة الفكر بالتعالي في مجال تنظير فلسفة التأريخ لا يعني أنّ الفكر يتعالى على التأريخ بالمعنى الكلي(*) لهذه الكلمة. أي أنّ التأريخ لا يؤثر في الفكر. فالفكر يحدد بتعاليه وبتاريخيته في نفس الوقت، فتعاليه لا ينفي تاريخيته، وتأريخيته لا تنفي تعاليه. وفي المفهوم الإسلامي لفلسفة التاريخ نجد أن التعالي هنا بعني الأعلى ( Transcendant) أي الذي يسمو إلى العلا ـ حتى يجاوز كل حد معلوم معتمدا في ذلك على البعد الغيبي الواقعي للحال التاريخي ، وهذه هي الحقيقة لأن مصدر المعرفة هو الله فهو الأعلى وله جميع الكمالات ، لا يحده شيء وهذا السمو يستمر في الارتقاء إلى غير نهاية. إنّ فلسفة التأريخ من حيث هي نظرة شمولية إلى التأريخ في حاضره وماضيه ومستقبله تحتاج إلى التعالي، إلى مصدر متعالي يمكّن الإنسان من إعطاء معنى للتأريخ والنظر إليه نظرة كلية نسبياً. والنظرة العلمية إلى التأريخ لا تتناقض مع التعالي إلا إذا فهم (التعالي) خارج النزعة الغيبية أي بمفهومه المبتذل أي خارج جدلية الغيب والإنسان. (*) مفهوم التعالي هو : (1) القول أن وراء الظواهر الحسية المتغيرة جواهر ثابتة ، أو حقائق مطلقة ، قائمة بذاتها. (2) أو القول أن هناك علاقات ثابتة ، محيطة بالحوادث ومستقلة عنها. - نستخدم التعالي هنا بمعني " المفارق الذي ليس فوقه شيء ، فالله تعالى ، هو المتعالي ، والعالي ، والعلي ، والأعلى ، وذو العلاء الذي ليس فوقه شيء . وفي هذا السياق، فإن فلسفة التأريخ من منظور إسلامي تختلف عن فلسفة التأريخ التي بدأت في الظهور بالغرب في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والتي تشكلت ضد اللاهوت. ففلسفة التأريخ في الفكر الغربي تنفي نفياً قبلياً كل علاقة مع الغيب ، والنظرة الإسلامية للتاريخ تستمد ملاحظتها من غير فكاك مع الطبيعي المطلق والذاتي المطلق. استحالة التعالي بدون (الله) تعالى : الأزمة المنتجة للمعرفة (أو الأزمة الايجابية) هي التي تأتي نتيجة لمواقف نقدية تجاه فكرة معينة أو نظرية معينة، فتنسف ما كان ينظر إليه على أنه من البديهيات، فتصبح النظرية غير صالحة لتفسير المشاكل المطروحة (سواء في مجال المادة أو في مجال العلوم الإنسانية). فالأزمة هنا تطرح سؤالا، وهو سؤال ملزم لكلّ معرفة جديدة. (إن كلّ معرفة علمية هي جواب عن سؤال، فإذا لم يكن هناك سؤال فلا وجود لمعرفة علمية) كما يقول غاستون باشلار (Gaston Bachelar) . أما الأزمة بمعناها السلبي فهي أزمة الاصطدام بعائق العجز الناتج من التناقض: إذ كيف يتصور الفيلسوف التأريخ من أعلى (أي فوق التأريخ) ويتوقع حركته في المستقبل ويرسم معالم هذه الحركة أو مراحلها إذا كان يتجاهل، أو لا يعترف بقدرة العقل على التعالي؟ وحتى لو قال الفيلسوف بالتعالي، فإنّه لا يكون تعالياً صحيحاً إلا إذا تمّ من موقع الإيمان بوجود الله، لأنّ التعالي الذي تطرحه كثير من الاتجاهات في الفكر الغربي هو تعالي من صنع الإنسان، هو تعالي مزيف مثله مثل الذي يريد أن يقفز فوق ظله ويسبقه. إنّ تحليل التاريخ لا بد أن يتمّ من موقع فلسفي يصل إلى مستوى المذهب في ميدان المعرفة التأريخية. فنحن مطالبون بحل مشكلة السببية ، ومشكلة القانون ، ومشكلة معنى التأريخ ومشكلة التقدم. ونرى أن كل هذه المفاهيم تحتاج إلى تحليلها في إطار نسقي يعبر عن مذهبنا وتصورنا في ميدان فلسفة التأريخ. وهذا الميدان يتميز عن المذاهب الغربية بجانب جوهري: وهو إنّ المذهب الفلسفي في التأريخ الذي نراه ليس مجرّد انعكاس للظروف الاجتماعية والتاريخانية كما تحددها الماركسية أو المادية الجدلية فقط بل هو محتكم إلى مرجعيتنا (القرآن كريم) ، والتي تجعل أفكارنا تتمتع بالتعالي أو على الأقل بروح المبادرة تجاه مؤثرات المرحلة التأريخية التي نعيش فيها. أي المرحلة المعاصرة. ونحن ننطلق من الدين كمطلق كوني بثلاثية هي جدل الإنسان والغيب والطبيعة إذ هي المحددات المنطقية لقراءة تاريخية منسجمة مع الطرح الإسلامي ، وهذه ليست محاكاة سينمائية لما طرحه أوغست كونت كمراحل لتطور الفكر الإنساني. ثنائية الفكر الغربي: على الرغم من أنّ بعض اتجاهات فلسفة التأريخ في الغرب تربط نظرتها بالتعالي، على الرغم من ذلك، فإنّ الثنائية هي الطابع العام الذي تتصف به كلّ مدارس الفكر الغربي. إنّ رجوع الفكر الغربي إلى الروحانية في هذه العشرينات أمر مشكوك فيه، لأنّ الروحانية التي ترتبط بها بعض مدارس فلسفة التأريخ، رؤيتها هي روحانية صورية ومن صنع الإنسان . أما الروحانية التي ننظر بها إلى التأريخ فهي روحانية مصدرها الوحي (القرآن كريم)، ولذلك فهي روحانية حقيقية وتعاليها على مؤثرات العوامل التأريخية هو تعالي حقيقي. مصدر التعالي وأثره التحرري: إنّ التعالي بمنظوره الإسلامي يستمد معناه من التوحيد الذي سيظل مبدأً ثابتاً، لأنه أصل الوجود كلّه، وأصل كلّ نظرة مستقبلية تسعى إلى تحرير الإنسان من الوضعية، خاصة ألوهية المفاهيم كالعقل المطلق في التأريخ عند هيجل أو المجتمع الشيوعي عند ماركس أو نهاية التأريخ عند فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama).. إنّ مبدأ العلاقة بين التعالي والتأريخ، في نظرنا، ليس مجرد مبدأ منهجي ومعرفي بل هو كذلك مبدأ تحرري. فعلاقة التعالي بالتاريخ تنتج عنها عملية تسريعية (لحركة التأريخ) تفجر الطاقات الكامنة في إنسان العالم الإسلامي وتعيد الفعالية للأمة الإسلامية لاستعادة مكانتها في العالم وفي التأريخ. إنّ قطع التأريخ عن التعالي يؤدي إلى واقعية تبريرية (الخضوع لثقل الواقع الفاسد) عكس الواقعية التغيرية، التي هي واقعية تحويل وتجاوز عوائق الأمر الواقع. سـنـن الله : وهكذا يمكن القول: بأن علاقة التأريخ بالتعالي لا تشكل عائقاً أبستمولوجياً (معرفياً) أمام التنظير الفلسفي للتاريخ. فالتعالي والقدر والإمداد الغيبي سنة من سنن الله. هذه المفاهيم القرآنية لا تتناقض مع العلاقة السببية التي تخضع لها الحوادث التأريخية. إنّ خضوع التأريخ لسنن الله يعني ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، من جهة. وربط الحوادث التأريخية بعضها ببعض، من جهة أخرى من هذا المنطلق لابد من نفي اللاهوتية الدخيلة على الفكر الإسلامي (اللاهوتية على غرار الفكر المسيحي في العصور الوسطي). وفي تبنينا المنهج العلمي نرى بأنّ هناك سنناً تسود الطبيعة والمجتمع والتأريخ. وهذه السنن تجسد إرادة الله. ومن هنا نتجاوز العائق الابستمولوجي الذي يفصل بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلمي. وقد تمّ هذا التجاوز بفضل مفهوم قرآني (سنن الله). إنّ تجاوز هذا العائق يفتح الباب واسعاً للفكر الإسلامي، لتنظير رؤية فلسفية إلى التأريخ في أفق علاقة التأريخ بالتعالي: التدخل الإلهي في حركة التأريخ يتمّ عن طريق سنن الله في الكون. ويتمّ هذا التدخل كإمداد غيبي لما تتوفر الشروط الموضوعية للتغيير. دور الإنسان : فالإنسان عامل أساسي في التغيير، لأنه مسئول عن توفير شروط التغيير، ومعنى هذا أنّ السببية وموضوعية الحوادث التأريخية لا تحدث قطيعةً مع الجانب الغيبي على غرار الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطي. وتنتج عن هذه النظرة أنّ الإنسان يتحكم في مصيره، وأنّه لا يخضع خضوعاً كلياً للحتمية الاجتماعية والتأريخية. فالإنسان يربط الحتمية بالأهداف التي يرسمها وبالقيم الأخلاقية والدينية. هذا الموقف يختلف عن الفلسفة الوضعية، التي تمّت صياغة فلسفة التأريخ في إطارها. حيث إنّ الفلسفة الوضعية ليست لها ركائز فكرية تسمح لها بالقول: بأنّ الإنسان لا يخضع لحتمية مطلقة، لأن هذه الفلسفة لا تعترف بالتعالي، بل ترى أنّ كلّ معرفة مرتبطة بالتعالي هي معرفة غير علمية قد تجاوزتها حركة التأريخ. إنّ نفي التعالي في المجال المعرفي وفي المجال العملي يؤدي إلى حتمية مطلقة وقاهرة للإنسان. وعلى عكس الفكر الوضعي فإنّ فلسفة التأريخ من المنظور الإسلامي تفتح أمام الإنسان آفاقاً لا حدود لها لتغيير أوضاعه. إنّ منطق فصل التأريخ عن التعالي يكشف عن زيف الأرضية المعرفية، التي ينطلق منها الفكر الوضعي. ثم إنّ إلغاء إرادة الله من التأريخ يؤدي إلى تناقض، حيث يصبح التأريخ هو الذي يتمتع بصفة مباشرة أو غير مباشرة بصفات الألوهية. ومعنى هذا أنّ فصل التأريخ عن التعالي له نتائج سلبية على الصعيد المعرفي(تحويل النسبي إلى مطلق) وعلى الصعيد الاجتماعي (تأليه البشر للبشر). الفلسفة الوضعية جزء من التأريخ لا فوقه: والوضعية كمذهب ترى أن المعرفة اليقينية في الظواهر التجريبية، وتنكر وجود معرفة مطلقة "إلغاء التعالي" ، وترى أن التقدم بدأ في العلوم الطبيعة ، وبدأ ينتقل للعلوم الاجتماعية ، وأن العقل البشري يتقدم من المرحلة اللاهوتية الدينية إلى المرحلة الميتافيزيقية ، لكي يصل إلى المرحلة الوضعية. إنّ النظرة إلى حركة التأريخ من الزاوية الوضعية أمر مشكوك فيه من الناحية المنهجية إذاً فموقف فيلسوف التأريخ في المجال المعرفي ليس موقفاً متعالياً على حركة التأريخ، بل موقفه تاريخي ومستغرق في التأريخ. ومعنى هذا أنّ فلسفة التأريخ هنا هي مجرد ظاهرة تاريخية. إنّ النسق العقلي أي المعرفة التأريخية كنسق فكري، لكي يتمتع بالمشروعية في الميدان العلمي يجب أنّ يكون متعالياً على التأريخ أي غير مستغرق في التأريخ إلى درجة أن يصبح مجرّد ردّ فعل على ظروف المرحلة التأريخية، التي يعيش فيها فيلسوف التأريخ. وهذا التعالي مستحيل إذا تمّ الاعتماد على النظرية الوضعية وحدها. سلبية الإنسان في التفسير الوضعي: إنّ التفسير الوضعي للتأريخ يتضمن اللجوء الكلّي إلى الضرورة والى القوانين والى التطور الخطي والحلزوني لحركة التأريخ. هذه المفاهيم السابقة تصبح وحدها مبادئ وأدوات لتفسير التأريخ، فتحول هذا الأخير إلى منطق خارج الزمان ويصبح التأريخ ـ نتيجة لذلك ـ خاضعاً إلى حتمية مطلقة وقاهرة تنتهي إلى اعتبار الإنسان مجرد عنصر ثانوي من عناصر التأريخ، واعتبار المجتمعات البشرية مواضيع للدراسة كسائر المواضيع والأشياء الأخرى، التي تدرسها العلوم الطبيعة. فليس الإنسان إذاً هو الذي يعيش التأريخ، بل التأريخ هو الذي يشمل الإنسان في كلّ جوانبه إلى درجة أنّ الزمان هو الذي يعيش الإنسان. وإيجابيته في التفسير الإسلامي : هذا الموقف مع التفسير الذي تقدمه لنا الآية الكريمة: (إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفُسِهِم) . حيث إنّ هذه الآية تتضمن التأريخ والزمان كما يعيشهما الإنسان. فتحديدنا لحركة التأريخ يختلف اختلافاً جذرياً عن التحديد الوضعي. فنحن نريد أن نحدّد التأريخ كدراسة لنشاط الإنسان عبر الزمان، نشاط يجسد خلافة الإنسان لله في الأرض أي: تأثير الإنسان في الطبيعة وفي المجتمع. هذا التحديد يجعل الإنسان هو الفاعل الأساسي في التأريخ لا الوقائع التأريخية، لأن هذه الأخيرة لا تستمد معناها إلا من الإنسان. عقلانية التاريخ: عقلانية التأريخ. وهي عقلانية تستمد مصدرها من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية المؤثرة في سير الحوادث وترابط بعضها ببعض. غير أنّ هذه العوامل ليست من قبيل الحتمية المطلقة، لأنّ الإنسان يؤثر فيها ويؤثر في قوانين التأريخ، وهو لا يخضع لقوانين التأريخ خضوعاً سلبياً، لأنّه يتجاوز ـ عن طريق وعيه ـ العوامل المؤثرة في التأريخ. وبدون هذا التجاوز لا يمكن أن يكون هناك تاريخ. ، فالإنسان هو الذي يصنع التأريخ (من التأريخ) ، وليس التأريخ هو الذي يصنع الإنسان كما ترى المدرسة الوضعية. مع العلم بأنّ هذا لا يعني بأن نحلّل حركة التأريخ من موقع مجرّد ومثالي. فإذا كان التأريخ لا يصنع الإنسان، فإنّ الإنسان لا يتطور ولا يجسد خلافته لله، وإنّ الأمة لا تحقّق خلافتها وشهادتها إلا في التأريخ وبفضل التأريخ. إنّ عقلانية التأريخ فكرة واضحة في المنظور الإسلامي. فالمجتمعات الإنسانية ليست مستقلة أو منفصلة عن التأريخ. إنّها تعيش في الطبيعة وفي المجتمع وترتبط بشروط مادية ومعنوية. وهذا الارتباط يشكل عقلانية التأريخ. غير أنّ هذه العوامل ليست تأثيراتها مطلقة كما يرى أصحاب النظرة التاريخانية. بل هي شروط لحركة التأريخ. إنّها شروط ضرورية ولكنها غير كافية. كما يمكننا القول "إنّ الرؤية التأريخية لا يمكن أن تتشكل كلية داخل التأريخ، لأنها سوف تبقى مجرّد ظاهرة تاريخية هي الأخرى. لكن ربط الرؤية التأريخية بمصدر خارج عن التأريخ (التأريخ والتعالي) لا يعني نفي العقلانية والسببية في سير الأحداث ونفي قوانين التأريخ. فربط التأريخ بالتعالي ـ كما أشرنا فيما سبق ـ يدعم عقلانية سير الحوادث. فالسنن التأريخية هي من هذا المنظور، جانب من جوانب علاقة التأريخ بالتعالي. ومعنى هذا أنّ حركة الأمة، وهي حركة تتم في إطار الاستخلاف والتسخير، لا يمكن أن تتحقق إلا بمعرفة السنن المحركة للتاريخ. فالنظرة إلى التأريخ التي لا تعتمد على ربط الحوادث ربطاً سببياً أي سننياً "، هي نظرة لا تاريخية وغير علمية وهذا يعني ربط أن التاريخ بالغيب لا ينفي تدخل العقل في قراءة وتفسير الظواهر التاريخية ، بل على العكس يدعمه ويدفعه إلى البحث عن الحقيقة ، فهو يوفر له المصدر اليقيني الذي يؤسس لعلاقة تفاعل وليست علاقة انفصال ، فليس من المعقول أن تبنى عشا في الهواء أو بيتاً على الماء ، أو تتساءل لماذا يطير الطائر بجناحيه؟ أو لماذا يمشى الرجل على رجليه؟! العقلانية في إطار فلسفة التاريخ من منظور إسلامي: لقد أوجب الإسلام النظر العقلي كوسيلة للإيمان الصحيح ، وندد في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة بالتقليد والمقلدين ، وأثنى على العلم وأهله "إنما يخشى الله من عباده العلماء" 27 فاطر - وليس المقصود بالعلم العالم الديني الفقهي على وجه الخصوص كما يراه الغزالي بل العلم المرادف للمعرفة ، " ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً" 191 آل عمران ، فأينما نظرنا إلى الكون وما فيه من أسرار وحكمة ونظام ، تأخذنا الدهشة ونتساءل : من أين هذا العلم والصنع المحكم؟ وكيف حدث؟ ولمن هذه القدرة الخارقة؟ ، والعاقل ، بخاصة إذا كان من أهل الفكر ، لا يعطي حكم الخاص للعام والجزء للكل، والإسلام كعقيدة جاء ليفّعل النظر العقلي في والمنهج العلمي في التربة البشرية ، وبذا يمكننا أن نطرح مشروع فلسفة التاريخ من منظور إسلامي لأن يقر الإسلام كل ما فيه من خير وصلاح ، ويبارك كل جديد مفيد ولو لم يرد فيه نص، ولا يسوغ بحال أن ينسب إليه أي شيء ينافر العقل فلا مفر من التفكير. والعقلانية في إطار الفكر الإسلامي هي "عقلانية إيمانية" أي قراءة تاريخ الفكر الإسلامي وقراءة الأحداث والعارضات التي حدثت في التاريخ الإسلامي قراءة موضوعية تأخذ في الحسبان دورنا ووجودنا ، ولكي نكون أكثر علمية نريد أن نطرح قراءتنا لكلمة التاريخ الإسلامي فقد ارتبط الحديث عن الفكر الإسلامي بالحال التاريخي والوضعي والذي ارتبط بدوره في ذهنية البعض بالدين الإسلامي ، وهو فهم خاطئ وخلط سيء لأن تاريخ الدين ليس هو الدين نفسه! ، وقد يشهد التاريخي الاضطراب ويسوء ويتخذ مساراً مغايراً للدين ذاته ، وبهذا لا يتحمل الديني الخطأ التاريخي ولا يملك التاريخي أن يمس جوهر العقيدة، وهذا ما يجعلنا نؤكد ونقول بأن الديني هو غير التاريخي ولكن جرى الفهم على أن التاريخ الإسلامي هو الدين الإسلامي وأن المشهد والواقعة التاريخية هي لب العقيدة! وهنا تتبدى ضرورة إنشاء فلسفة للتاريخ من منطلق علمي إسلامي ، فهل الإسلام عاجز عن البحث العلمي والتجريب؟ وهذا أيضاً السبب الرئيسي في غياب الوعي ، وبالتالي قد يدفع هذا الفهم المؤمن به إلى اتخاذ موقف خاطئ وربما إلا الإساءة إلى الدين وتشويش صورته في أذهان الكثيرين. وحتى في مجال العلوم وكما كتب روجيه غارودي في كتاب النظرة المادية في المعرفة ترجمة إبراهيم قريط " لقد أكتمل المفهوم الحديث للطبيعة بخطوطه الكبرى – فصار منحلاً كل ما كان صلباً ومتحركاً كل ما كان ثابتاً وفانياً كل ما كان أزلياً – وثبت أن الطبيعة تتحرك في سيالة ودائرة أبدتين". وهذه النظرية الحديثة هي التفسير الصحيح الصريح لقوله تعالى ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء أنه خبير بما تفعلون) "88 النمل". فهل هذا ما قالته النظرية النسبية أم من بيئة وفطرة محمد (ص)؟ وليست دعوتنا للعقلانية Rationalisme كما يفهمها (رينيه ديكارت 1596- 1650) والذي يعتمد المنهج العقلي لإثبات الوجود عامة ويرى فلسفة التاريخ الطبيعي غير قابلة للشك (أنا أفكر فأنا إذن موجود) ، كما أن ديكارت أوصل العقل إلى نهايته الفلسفية، عبر استقلال (الكوجيتو) [=الأنا أفكر] عن المحيطين الطبيعي والكوني، وتحول الاثنين إلى ميدانين للأول، مما عنى وصول (الفرد)، كذات عارفة، إلى وضعية من المركزية العارفة تجاه المحيط الامتدادي ، أو كما يفهمها شارحها الكبير (ليبنتز 1646- 1716) بأن "الحتمية في الفكر تحمل درجة تميز الإدراك" ، أما توما كويني (ت1274)، والذي ارتبط لديه مفهوم (العقلانية) مع فعالية (الذات)، معرفياً وعلى صعيد الممارسة أيضاً، وامتدادا يأخذ أشكالاً متعددة: (النص-الكون-الطبيعة- المدى الجغرافي-الاقتصاد- المجتمع – التاريخي ) ، فهم بهذا الطرح يعتبرون العقل هو المرجع الوحيد في تفسير كل شيء في الوجود وهنا توجد القطيعة المعرفية مع البعد الأساس وهو الوحي في فكرنا الإسلامي ، فالمعرفة التي نفهم هي إدراك جزئي والعلم إدراك كلي ، وإن المعرفة تستعمل في التصورات والعلم في التصديقات ، فأزمة الفكر الغربي إلغاءه دور الروح بمفهومها الإسلامي وتبنى رؤية (تأليه العقل البشري) ، وفي مفهومنا الإسلامي نرى العقل وسيلة وليس غاية ، فقد حررت العقيدة الإسلامية العقل من القيود التي تأسره ، أطلقته إلى الأمام وهي توجه طاقاته من خلال الإلفات والتدبر في الكون والحياة ، من أجل بناء متكامل دينا ودنيا.. قال تعالى ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً ....). أي تجعل منه معمل لحل إشكالية الجدل القائم حول الغيب والإنسان – ولسنا نستعمل جدلية المفكر الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد جدلية (الغيب والطبيعة والإنسان)، على الرغم من ثورية النظرية القائلة بالجمع بين القراءتين ، وهي النقطة المفصلية في تطبيق قراءة إسلامية لفلسفة التاريخ من واقع الاشتباك مع القراءة الأولى للكون والقراءة الثانية والتي نحن نعيشها الآن ، وحتى يخرج الكلام من الإطار النظري لابد أن نبدأ بتجهيز أنفسنا لبسط مفهومنا الإسلامي حول كل العلوم الإنسانية ( علم التاريخ وهو ما نحن بصدده في هذه الورقة ، بحثاً في الوقائع والحوادث الماضية ، واستقصاءً للحقائق وإبراز رؤيتنا بل وريادتنا لمثل هذا الضرب من العلوم ففلسفة التاريخ لا يملكها (هيجل) ، أو (سبينوزا) ، أو (راسل) أو (لوك) ، بل يحملها القرآن الكريم بإخباره إيانا الحقائق التي حدثت وستحدث ، وعبر منهجيته التي نحن مطالبون بفهمها وشرحها وارتياد آفاقها قبل وبعد ، ونقول بإسلامية الفكر أي الروح الإسلامي ثقافة ومجتمعاً وتاريخاً ممارسين فعل النقد والقراءة والتحليل ، وفي أسلمة علم النفس ، وموضوعه نشاط النفس وأحوالها وصفاتها الذاتية ، وعلم الاجتماع ، ويتناول الحياة الاجتماعية وما تخضع له من قوانين ، وعلم الأخلاق ، وهو مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن يجري السلوك البشري على مقتضاها ، وعلم الاقتصاد ، ويبحث في إنتاج الثروة وتوزيعها واستهلاكها، إلى غير ذلك مما يتصل بالحياة البشرية كالتشريع والسياسة). والمفكر الإسلامي والذي هو في الأساس (باحث في العلوم الوضعية والنقلية ) نحتاج أن نخلق منه باحث مفكر لنقضى على صفة البنكية ونقيم البحث والتعليم الحواري الذي يعتمد على الحوار في إثراء الموضوع ووحدته وبذلك نؤسس لعقلية جديدة ولكن من داخل حدود النص القرآني. والدعوة إلى العقل في سبيل مشروع (فلسفة تاريخ) إسلامية مرهون ببقاء خبرتنا الحضارية متفاعلة مع العالم الذي نعيش فيه ، ولكن محافظين على خصائص العهد الذي قطعه الله معنا " بأننا خير أمة أخرجت للناس" ، فالقضايا التي تمس مجتمعاتنا تحتاج منا وبلا مواربة أن نثور وليست الثورة روح تنتاب شباب الفكر ولكن الفكر يتحرك إلى أعلى إذا وجد من يأخذ بيده، وكما قال سيبنوزا "إذا غاب العقل ظهرت الخرافة " والعقل كما يحدد ابن خلدون أنه يورث ولا يكتشف وإنما يكتسب بالتجربة الـمتجددة. أي أنه دوما عقـل مشخص، محدد ومحدود دائما بظروف الممارسة . لكن هذا التشخيص بالضبط هو الذي سيحدد منظور صاحبه إلى العقل، والإسلام يرى "أن من لا عقل له لا دين له ". نقد فلسفة التأريخ الغربية: كثيرون ينادون بنقد الفكر الغربي وأكثرهم من يتحرك من موقع المنافح عن مذهبه بلا موضوعية ، والمهاجم الرافض للفكر الغربي بلا اعتماد عقلي نقدي بّين وممنهج، ونري أنه وإذا أردنا نقد الفكر الغربي عموما وفلسفة التاريخ عند الفلاسفة الغربيين نحتاج إلى أن نتناول بموضوعية ذات الطرح المعرفي الذي ينطلق منه المفكر الغربي أو الفيلسوف الغربي، أي أن ندرس المناهج التي يعتمد عليها الفكر الغربي والنسق المفاهيمي الذي يتحرك فيه باطروحاته ونظرياته، ولأن الرؤية الإسلامية إلى التأريخ وما تتضمنه من مشروع حضاري بديل لا يمكن أن تتمّ صياغتها إلا عن طريق نقد فلسفات التأريخ الغربية. وقد تمّ هذا النقد بالفعل، وهو نقد له نوعيته، لأنه تمّ خارج النموذج المعرفي الغربي، وبصورة متحررة من ثقل الواقع الذي تعيشه الأمة (واقع التبعية والتخلف وسيادة العقلانية الغربية) ، فالفكر الغربي، له هوية واحدة وأساس واحد إنّه فكر منقطع عن الله. خطأ هيجل هيجل يتسرع في الاستنتاج، ويتسرع في التعميم وفي صياغة مذهبه الفلسفي. فهيجل، من هذا المنظور يحلّ المشاكل بكلّ بساطة وبكلّ سهولة: فالعقل الكوني يسيّر العالم وكلّ واقعي معقول وكل معقول واقعي، ونابليون هو الروح على جواد.. الخ. فهيجل يبني رؤيته الفلسفية إلى التأريخ على أسس لم يختبر صحتها. إنّ هيجل عندما جعل التأريخ هو المرجعية التي تكفي نفسها بنفسها كان أمام خيارين: الخيار الأول: إما أنّ يترك التأريخ مفتوحاً وعدم اعتباره كمرجعية مطلقة، لأنّ النظر إلى أن التأريخ مفتوح يعني أنّ فيلسوف التأريخ لا يعرف من التأريخ إلا جزءاً صغيراً لا يسمح له بإعطاء معنى لحركة التأريخ ككلّ، ويتوقع معالم هذه الحركة. والخيار الثاني: هو أن يختم هيجل التأريخ بظهور نابليون، الأمر الذي يجعله يقول بنهاية مصطنعة للتاريخ. ، إنّ هيجل لم يتردّد تجاه مشكلة الاختيار هذه، فلجأ إلى ختم التأريخ بدلا من فتحه للمجهول ولحركة لا نهاية لها. كما أنّ القول بنهاية التأريخ بهذه الطريقة جعل هيجل يقدّس الحادثة التأريخية ويستسلم لها. وهذا ما أدى إلى استحالة أية نظرة معيارية إلى التأريخ، لأنّ التأريخ هو المعيار الوحيد ولا معيار غيره. إنّ المعيار (القيمة) لا يتحكم في مسار الحوادث، بل مسار التأريخ هو القيمة العليا. فليس المؤرخ هو الذي يحكم على التأريخ ويقيّمه، بل التأريخ هو الذي يحكم على المؤرخ باستثناء هيجل في نظر هيجل . إنّ الإسلام ينير طريق البحث عن طريق القيم والمفاهيم كأدوات استكشافية. وهذه هي نقطة الاختلاف الجذرية بين الفهم الإسلامي وفلاسفة التأريخ الغربيين الذين لا تتجاوز نظرياتهم معطيات المرحلة التأريخية ، أما المنهج الإسلامي فيتجاوز هذه المعطيات نحو نظرة مستقبلية تنير مسيرة الأمة نحو المثل الأعلى، وذلك من خلال ربط التأريخ بالتعالي. ولأن التاريخ هو كل متفاعل متجانس بفضل الفصل المنطقي بين النسق والعلامة أي لسنا بحاجة إلى ممارسة تفسير غائي للحالة التاريخية ، أو العمل بموجب أننا نبحث في التاريخ باعتباره مسار يتجه نحو تحقيق الوعي الذاتي ، وهيجل يتحرك في ذات الاتجاه الذي نسعى إليه ولكن ولاختلافات في النسق المعرفي بل وعلى مستوى المصطلح والدلالة تتبدى الاختلافات الجوهرية بين وعي (الذات) ووعي (الروح) ، والذي يجعل هيجل متفقا إلى حد كبير مع رؤيتنا التي نطرح هو "أن حركة التاريخ تبدأ بغاية عامة ضمنية تتحقق عن طريق الانفعالات والمصالح الجزئية ، فالمجوعة الهائلة من الإرادات والمصالح هي الأدوات والوسائل التي تستخدمها الروح لبلوغ هدفها ، وهذا ما يطلق عليه هيجل "دهاء العقل"" إذن هيجل يعتمد على العقل المطلق ، والتجربة الحسية المطلقة (مثالية موضوعية – و – مثالية مطلقة) ولأن هيجل يقول بوجود فكرة مطلقة (صوفية) سابقة للطبيعة والإنسان ، والتي هي أساس العالم وهي بحكم جوهرها مبدأ فاعل (أي في عملية الفكر والتفكير) ، و منهج المعرفة الإسلامي يرفض إسناد الجدل المطلق (الله تعالى) لأن التصور التنزيهي لله تعالى ينفي عنه الأضداد وهي أساس الجدل كما في المثالية. لقد سارت كلّ من الماركسية وبعض الاتجاهات الوجودية في طريق هذا المذهب، الذي يرتكز على نزعة تاريخية (التاريخانية) لا أخلاقية لم تميز بين القيمة وحركة التأريخ. إنّ هذا الموقف يعتبر من أخطر المواقف في حياة الإنسان وحركة الشعوب لأنه ينتهي مباشرة (هيجل)، أو غير مباشرة (الفلاسفة الآخرون) إلى تبرير الواقع مهما كان فاسداً، والى غلق كلّ إمكانية للتطور أمام الشعوب المتخلفة. أما في الرؤية الإسلامية فالمعيار يوجد خارج التأريخ، لأنه ذو مصدر متعالي يؤثر في التأريخ ولا يتأثر به. إنّ التاريخانية أو فلسفة التاريخ كما تتجلّى عند هيجل تحلّل كلّ حوادث التأريخ ـ حتى الجرائم والحروب ـ وتعتبرها حوادث معقولة، لأنها واقعية يمكن البرهنة عليها عن طريق المنهج الجدلي. إنّ حكم القيمة ـ في هذا السياق ـ في ميدان التأريخ أمر مستحيل، لأنه لا يمكن وضع القيمة مقابل الواقع فما هو كائن هو واقع وهو القيمة: هو المعقول وهو القيمة. ويمكن أن نتساءل! باسم أي مبدأ علمي بنى هيجل ـ بصورة قبلية ـ العالم والتأريخ حسب قوانين ضرورية ومعروفة مسبقاً؟ فما بالذات لا يعلل ، فالأوليات الفطرية كل ما يدركه الإنسان تلقائياً بلا دليل ولا مقدمات، بل يؤمن به بمجرد التصور دون رؤية وتأمل ، والأمثلة على ذلك كثيرة من أن تحصى ، " فعلى الجاهل بشيء أن يسأل العالم به ، وعلى المريض أن يراجع الطبيب وعلى صاحب الحاجة أن يسعى في قضاء حاجته" ومنهجنا في الحكم على القيمة في ميدان التأريخ ، وهى قيمة التعالي الموضوعي بإدراجنا الغيب ضمن منظومة فلسفة التاريخ ، لا نحتاج إلى قوانين ضرورية (فمن أين لنا بها؟) ، وذلك لأن دلالتها ذاتية ، أي يستدل بها على غيرها ولا يستدل بغيرها عليها ، وإذا كان هيجل يرى أن البديهيات والمعطيات الأولية لا تنحصر في العقل الفطري فقط ، بل وأن الحس أيضاً من هذه المعطيات؟ نقول : أن العقل الفطري شرط أساس لسلامة الحس وصحة التجربة حتى الوحي لا يكون حجة ملزمة ، ووسيلة للإثبات إلا أن يحكم العقل بإمكانه وصدقه... إنّ رؤية هيجل إلى التأريخ لا تخضع لمبررات معرفية. فهذه الفلسفة لا تتمتع بمشروعية طالما تقوم على العقل النظري ، وهذه لخرافة أن نترك البديهيات وننتقل بالحس مباشرة من مجهول غائب إلى معلوم حاضر بل بالعكس.
تياران في الفكر الديني المستقبلي المشكل الرئيسي الذي يطرح على كلّ فكر يتركز على مرجعية دينية هو كتالي: هل هذا الفكر مستقبلي؟ عندما يطرح هذا السؤال بالنسبة للفكر الإسلامي نلاحظ، على العموم وجود تيارين: • تيار يرجع إلى الماضي والى أصول الإسلام بصورة غير واعية. • وتيار آخر يستوعب متطلبات الحاضر وثوابت الإسلام من موقع وعي لحركة التأريخ. فالتيار الأول ليست له نظرة مستقبلية. فهذه الأخيرة توجد في التيار الثاني. غير أنّ وجود النظرة المستقبلية في هذا التيار ما زال إلى أيامنا هذه ولدى كثير من المفكرين لم يصل بعد إلى مستوى الطرح الفلسفي. وبذا فإن مثل القول بأن إسقاطات الفكر الغربي على عقلية المفكر المسلم هي استخدام مناهج (غربية) في قراءة أي حالة من حالات الوعي العربي والتأثير كاستلهام روح لفكرة وعجنها وتفنيد بقاءها ليؤسس المفكر منهج يقوم على روح منهج آخر ، وهذا يعتبر حديث تعوزه الدقة المنطقية ، لأن أدوات المنهج لا تعبر عن روح الفعل المنهجي ، فالأداة لا تعمل في غير محيط قابليتها. وفي طرحنا لفلسفة تاريخ بوعي عالمي إسلامي نطرح قراءتين للحالة التاريخية: • قراءة الحالة في سياق نشأتها ، وتكونها انطلاقاً من استقراءها استقراءاً من الجزئي إلى الكلي أي الانطلاق من البنية إلى الكيان. • قراءة الظاهرة في موقعها بين الكيانات المختلفة والحالات المتشابهة ، وهنا يتم الانطلاق من الكلي للجزئي مما يعد محاولة فاشلة للاستقراء المنطقي أو الاستنتاج الموضوعي. الفكر الإسلامي معصوم نسبياً ومرتبط بالغيب: إنّ علاقة التأريخ بالتعالي تعصم الفكر الإسلامي ـ من الناحية المعرفية ـ من الوقوع في الأخطاء الكبيرة على أقل تقدير. فالفكر الإسلامي فكر معصوم نسبياً. وهذا ما يبينه لنا الواقع والتأريخ: فكل المفكرين المسلمين مثل جمال الدين الحسيني (الأفغاني) وسيد قطب وغيرهم لم يتراجعوا عن أسس الفكر الإسلامي ومعالمه الرئيسية في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي. فهم قد انتقدوا كلا من الماركسية والليبرالية من موقع ثوابت الفكر الإسلامي ومعالم مسار الأمة المستقبلي . وعلى الصعيد الفردي يبين لنا التأريخ بأنّ رجال الإصلاح في الفكر الإسلامي كانوا قد ربطوا في وعيهم ومواقفهم التاريخية بالغيب إلى أقصى درجة، وهذا ما منحهم القدرة والقوة في الوقوف ضد محاولات التغريب والتزييف والاستعمار المادي الذي حاول الغرب أن يطوق به العالم الإسلامي ولا تزال آثاره باقية حتى الآن تحت مسميات مختلفة ( العلمانية – الليبرالية بشكلها الإسلامي – اليسار الإسلامي – اليمين الإسلامي ) فكل هذه إفرازات التعطيل الغربي للعقلية الإسلامية ، ولكنهم لم يرضخوا للأمر الواقع المتمثل في الفهم المنحرف والمحرف للعقيدة الإسلامية ، بل قاوموا خط الانحراف إلى أقصى حدّ من المقاومة والجهاد والرفض الجذري. إنسان العالم الإسلامي - الوعي التاريخي : لا يكفي أن نردّد مقولة الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان كسائر المفكرين المسلمين من موقع تمجيدي، بل ربط هذه المقولة بمنهجية يتمّ التعامل عن طريقها مع الإسلام ومع التأريخ. وهذا ما سوف يدفعنا إلى تحليل ظروف العصر الحاضر، وتحديد مشكلاته من خلال متطلبات الإسلام وتوقعات المستقبل ، أي أن نفصل بين ما هو إلهي ثابت ومطلق وبين ما هو نسبي ومرحلي كالتطبيقات التي ظهرت بعد ( عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم). انطلاقاً من هذه النقطة نستطيع أن نقرأ مجالا آخر يتمثل في تحليل مشاكل العصر بأدوات اجتماعية تمت صياغتها من القرآن الكريم، وربط هذا التحليل بمشروع مستقبلي يسعى إلى طرح نفسه كبديل لكلّ المشاريع ذات المصدر الوضعي ، وهذا يستوجب الرجوع إلى الأصل !. الرجوع إلى الأصل: إنّ مبدأ الرجوع إلى الأصل الذي لا يكون الفكر الإسلامي فكراً إسلاميا إلا به والذي لا يمكن تصور معنى للتاريخ خارجه: هذا المبدأ واجب شرعي وعامل سوسيولوجي بفضله يصبح الفكر إسلاميا. إنّ هذا المبدأ له قيمة معرفية إضافة إلى قيمته الشرعية والأخلاقية والحضارية وكما يقول الإمام مالك: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". إنّ الرجوع إلى الأصل يعني في الرؤية الإسلامية تجاوز القطعيات للوصول إلى الاستمرارية التأريخية والحضارية، التي ينظر إليها الإسلام على أنها واجب شرعي، لأنّ الرجوع إلى الأصل يعني الرجوع إلى عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة. إنّ الرجوع إلى الأصل هو المعيار الذي يسعى المسلمون عن طريقه إلى تحديد موقعهم من الماضي (عصر الوحي) ومن المستقبل (تصورهم للمستقبل) ، ويمكن القول في هذا السياق: إنّ منهجية العلوم الإنسانية الغربية قاصرة عن إدراك كلّ أبعاد هذه الأفكار السابقة. إنّ الرجوع إلى الأصل في نظر هذه المنهجية هو مجرّد نزعة ماضوية وهروب من الحاضر. في حين أنّ هذا المبدأ يعبر في الفكر الإسلامي عن مثالية، مثالية نوعية. فالرجوع إلى الأصل لا يؤدي إلى مثالية من أنواع مثاليات الفكر الغربي، التي هي بمثابة إسقاط فكري على مستقبل مجهول. أما المثالية في الفكر الإسلامي فهي مثالية تجسدت في الواقع وفي التأريخ: دولة المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كنموذج لكلّ الأجيال اللاحقة، لكنه نموذج يختلف عن النسق المغلق، الذي تتميز به فلسفات التأريخ في الفكر الغربي. فمنهجية تطبيق النموذج عبر التأريخ تعتمد على عناصر ثابتة وأخرى متحركة ومتغيرة لاستيعاب المستجدات أي استيعاب حركة التأريخ ، وفي التصور الإسلامي نتعامل مع التاريخ ككتالوج ، أو كسجل عقلاني ، وكتطور ، فهل ينبغي للحقيقة المجردة أن تقود التاريخ؟ ، ولتفسير ظاهرة الوعي التاريخي هل يكفينا علم الكلام؟ أم هي العقلانية في إطارها الإسلامي؟ المؤرخ الإسلامي – والحكم الذاتي: هل المؤرخ الإسلامي يفسر التاريخ بحوادثه معتمداً على منهج علمي؟ أم هو حكم ذاتي؟ المؤرخ الإسلامي يجب ألا يقع تحت تأثير رغباته كإنسان وميوله ، فالحكم الذاتي ينبع من عقدة في النفس أو رغبة ملحة أملتها ظروفاً معينة أحاطت بفكره وأقامت له الحجة مما يرى ، وكما يقول "جون ستيورات مل : "أن بعض العلماء يهمل نصف ما يرى ، وبعضهم الآخر يضيف إلى ما يراه شيئاً من مخيلته ، فيخلط بين الحقيقة والخيال" ، فما لأحد منا أن يحكم على شيئاً إلا من خلال نفسه فيستحيل أن يتجرد الإنسان عن ذاته وينفصل عنها. ولذا لا توصف الآراء الذاتية بالصواب أو الخطأ لأنها تخص الشخص وحده ، وهذا لا يعد مقياساً ولا قاعدة ولهذا سمي هذا النوع بالحكم الشخصي أو الذوقي أو المزاجي. فالتاريخ كما كتبه المسعودي ( 345 – 346 – 957) في كتابه القيم ( مروج الذهب ومعادن الجواهر ) ، والذي لقبه "فون كريمر" بـ( هيرودوتس العرب) ، ولقبه بن خلدون بـ(إمام المؤرخين) يحقق التاريخ معتمداً على الأسفار القديمة ، في وصف بداية الخليقة ونشأة الكون ، ويرى أدم شاعراً يبكي متأسف على فقد ولده كما يصوره سفر التكوين ، وما شاهده في رحلاته الكثيرة وفي بلدان مختلفة ، وبفعل انتماءه لبيئة ثقافية ونسق حضاري معين ، كان يسجل ما يراه هاماً... فهل التاريخ هو تسجيل وتتبع سيرة العظماء فقط؟ وهل تبنى المسعودي منهجاً علمياً في تسجيل الحوادث التاريخية ؟ وهل كان عصره يملك مثل هذه المناهج التي نملكها الآن؟ خلاصة لما تقدم: إصلاح الفكر الإسلامي – التاريخي (الداخل أقوى من الخارج": قدم الفكر الإسلامي محاولات متعددة للتجديد والإحياء ، لكنها محاولات فردية لا ترقى لتسميتها بنظرية أو منهج فاعل يؤسس لعملية قولبة ثقافية ، ومعرفية تنتج الحلول المريحة للمعارك التي يخوضها الفكر الإسلامي ، وهذه المعارك ليس من غير معترك كما يحاول البعض الإشارة إلى إشكاليات المنطق والوعي الإنساني والعقلانية ، بل الفكر لا يبنى على قواعد غير متكاملة الرؤى ، أو أن الفكر يأتي من الفراغ! ، فمفكرو أمتنا الإسلامية حينما يخوضون معركة المنهج العلمي والمرتبط شئنا أم أبينا بالتاريخي والوضعي ، ينفعلون بالتمجيد والعلو الغير مبرر ويتملكهم الإحساس بالفوقانية والاستعلاء فقط لأنهم يملكون الأبواب ولكن لا يولون اهتماماً لضرورة امتلاك المفاتيح! وللرد على بطلان استخدام المناهج الغربية واتهامها ومن يعمل بها بالتغريبيين أو أن دوافعهم تمليها الريبية ، نجد أننا في حاجة ماسة لاستخدام هذه المناهج والاستفادة منها فقط بشرط إلباسها الوعي (الروح) الإسلامي ، فهذه المفاهيم لا تطابق المجتمعات العربية مطابقة كاملة "إذ أننا لو انطلقنا من المجتمعات العربية وحدها، من إنجازاتـها الثقافية الماضيـة والحاضرة لاستحال أن نصل بمحض الاستنباط إلى كمال المفهوم" . يستحيـل أن نجد الآن عند الغزالي مفهوم الأدلوجة، أو عند ابن عربي مفهوم الحرية، أو عند ابن خلدون مفهوم التاريخ، أو عند الشاطبي مفهوم الدولة أو عند ابن رشد مفهوم العقل. فنظرتنا للتراث من "منظور مكتسبات الفلسفة الغربية الحديثة"، أي من موقع ذاك الذي أدرك تلك المفاهيم مكتملة فجاء لينتقد ويحاكم ويحكم ويحاور. ويبقى من حقنا أن نتساءل : أية فلسفة غربية هاته، ما دمنا نفترض فيها تعددا واختلافا بل وتناقضا ، ومنطلق الحوار التي ندعو له هو حوار مع الذات وبـ(الذات). المشروع الحضاري الإسلامي لا بد أن ينطلق من قراءة إسلامية للتاريخي: المشروع الحضاري الإسلامي ، والذي ينادي به الكثيرون كل من واقع تحولاته الفكرية ، وارتباطه بالمبني الديني والفكري في واقعنا الإسلامي ، نعتقد أن أي حديث عن مشروع حضاري إسلامي يتطلب أن يضع الخطاب الإسلامي المعاصر قضية إصلاح مناهج الفكر موضعها الملائم ، ومنحها الأولوية وإعطائها السبق ، باعتبارها القضية الأهم ، والمفتاح الأساسي ، والأرضية التي لا بد أن ينطلق منها أي مشروع فكري إسلامي ، فبإصلاح مناهج التفكير أي نفض الغبار التراكمي عن العقلية الإسلامية التي أصابها الوهن الخلاق توجد الحلول المنطقية لكثير من جوانب الأزمة، وبالعقلانية (ليست عند ديكارت ومفهومها في الفلسفة الغربية ) نستطيع إزالة التعارض بين الفكري والديني و وئد الفتنة الفكرية والعلمية ، والتي هي جفوة مفتعلة ، والتي ظل يتخبط فيها الواقع الإسلامي منذ ما يزيد على قرن . فإن حركة الإصلاح في القرن الماضي وفي النصف الأول من هذا القرن ، قد بذلت جهودا كبيرة ومحاولات جدية بلا شك ، وحققت إنجازات تعد رصيداً لها ، لكن هذه المشاريع وتلك الإنجازات عند النظر إليها بعين الفاحص لا ترقى إلى مستوى نظرية علمية يتواضع عليها مفكرو الأمة ، وبها يصلح الفكر وتحرر العقلية التراثية ، والمفكر الحر (الحرية بمعناها الإنساني) يرى بجلاء وبوضوح كيف أن التاريخي يشكل الوعي الإسلامي (أو العربي الإسلامي) ، فهل يمكننا أن نبدأ بأسلمة (نقصد بها إعطاء الفكر مساحته وليس مصادرته) فلسفة التاريخ؟ إنّ السبب الأهم ـ في نظرنا ـ في تخلف إنجازات الإصلاح وعجزها عن بلورة نظرية نستمد منها قاعدة فكرية ، هو أن محاولات الإصلاح والإحياء والتجديد التي سلكتها الأمة في تعاطيها للتاريخي قد عالجت أمورا وغضت الطرف عن أمور أخرى ، وأن التجديد والإصلاح لم يأخذا مداهما الشامل ليحيطا بأسباب الأزمة المختلفة ، ويهيئا الأمة للخروج التام منها. فانشغلنا بمعالجة الظواهر وتركنا مظاهر الأزمة ، وما تنعكس عليه من آثار يومية ومباشرة ومستقبلية أيضا ، أما قضية التاريخ وفلسفة التاريخ فلم تأخذ حظها من البحث والدراسة ثم المعالجة ، وذلك لا يعيبنا في شيء ولا يقلل من شأن ما قدمته الأمة الإسلامية للفكر الغربي من خدمات ومكاسب ، فهيجل ما كان له أن يؤسس فلسفته التاريخية دونما أن يعتمد على حضارة عمرها أكثر أربعة عشر قرنا . والسبب في وضع منهج فكري إسلامي (يمكن الاستفادة من المناهج الغربية – لأن الإسلام حضارة كونية ، وخاتم للخطاب الإلهي ) هو المحافظة على هوية الأمة وانتمائها وعالميتها، ولكنّه يبرز الحاجة واضحة إلى محاولة إصلاحية معرفية منهجية ، تستطيع رصد سائر أسباب الأزمة ومنابعها ، إضافة إلى آثارها وانعكاساتها ، وتحاول أن تقدم للأمة منهاجا سليما لإعادة البناء قائما على الدعائم الأولى ذاتها التي عليها قام بناء حضارة الإسلام في دورته الحضارية الأولى ، وهي إنسانية الإنسان بوصفه إنسانا مجردا عن كل وصف لاحق لإنسانيته ، مدعوما للاشتراك مع كل إنسان في بناء مجتمع تترابط عناصره برباط العقد الاجتماعي المفتوح ليتعاقد الناس كلهم ، تعاقدا بريئا من العنصريات والطبقات والإقليميات وهذا هو عنى التسامح ، ليجعلوا السبيل إلى الاتفاق بينهم فيما افترقت فيه الأمم ، يستطيع أن يتوصل إليها بمداركه المتعددة المتدرجة ، المستندة بعضها إلى بعض في غير تنافر. كما أن «النقلة النوعية » التي عليها يتوقف تجاوز المسلمين لحالتهم لم تتحقق على الرغم من كل تلك الجهود ، وهذا يفرض مراجعة دقيقة لكل تلك الجهود ، لتزويد المحاولات الإصلاحية الجديدة بما يجنبها النتائج الفاشلة ، ولتأخذ بالمضمون التجديدي الصحيح. فالمدركات العقلية تؤدي إلى المقدمات المفضية إلى تلقي المدركات الغيبية الآتية من طريق الوحي ، وإلى التسليم بها ، والإذعان لها ، فتوجيه هذه الدعوة على الشكل الذي وجهت به إلى الإنسان في مطلق إنسانيته ، هو الكفيل بأن يبرز الطاقة الإنسانية في أتم استعدادها ، وأن يمكن لها التصرف في قواها بدون تحديد. فلقد أنبني التصور المنهجي في العلوم الإنسانية وبالذات فلسفة التاريخ كعلم قائم بذاته في تصور معركة العقل مع النقل ، وهذه المعركة لا توجد في الخلفية الإسلامية لفهم قوانين تطور التاريخ فقط بل في المسيحية أيضاً ، ولعلها تتبدى فيها بشكل أوضح لما كان للكنيسة من سلطات تحد من حركة الفكر الإنساني وتقتل المساحة الزمانية مما خلق حالة من اللاوعي في عقلية المفكر الغربي ، والذي قام بدوره بنفي الدين والوحي معتبراً إياهما خارج نطاق الصورية Form الذهنية ، فصارت مباحث التاريخ وفلسفته تنحصر في التجربيبة كما فعل بيكون وفي المثالية الليبرالية كما حددها هيجل وفي إلغاء العقل لصالح الحواس كما في الماركسية. والدعوة إلى قراءة إسلامية لفلسفة التاريخ ، لا تخرج بأنها دعوة لمصادرة الفكر لصالح العقيدة ، ولا يسعى الفكر الإسلامي وهو فكر كوني لمثل هذه الدعوات ، بل السببية قائمة ، فكم هي الواقعات التاريخية الغير موثوقة في التاريخ الإسلامي وكان لها انعكاساتها في بنية الذهنية البحثية للمفكر المسلم وجعلته يحمل الوعي ولا يثق به ، والسبب هو أزمة منهج ، فبيعة سقيفة بني ساعدة والتي قيل أن سيدنا أبو بكر اغتصب الأمر (وهو الحكم) بغمط حق الأنصار والاعتداء على سعد بن عبادة بالضرب حتى يتنازل عن فكرة ترشيح نفسه في خلافة الأمر (الحكم) بعد وفاة النبي – وامتناع سيدنا على عن مبايعة الخليفة الأول بدعوى اختزنها الفكر الشيعي والذي ينبني على الخلط الواضح بين الدين والعصبية (بمفهومها الخلدوني) بأن أبو بكر اغتصب حق علي في تولى أمر المسلمين فطعنوا في واحد من أكابر الصحابة وأجلهم ثاني اثنين إذا هما بالغار الرجل الذي باع ماله وعياله لله ولرسول الله فكيف لرجل بهذه المواصفات أن يكون طماعاً شجعاً مغتصباً للسلطة كما صورها الفكر الشيعي والذي نحترمه ونختلف معه في آن - وحروب الصدقة (الزكاة ) والردة التي أعمل المسلم سيفه في قلب أخيه المسلم فكانت فاجعة العصبية قد عادت للطبيعة العربية التي ترفض الانقياد لسلطان موحد - والفتنة الكبرى ، وصفين ، والجمل ، والصراع على السلطة بين على ومعاوية ، وتأله العائذ بالبيت عبد الله بن الزبير ، والحنيفية (نسبة لمحمد بن الحنفية ولد الإمام علي كرم الله وجهه) ، وعقيدة القدرية والجبرية التي استلهمها أحفاد أبو سفيان صخر بن حرب (وهو من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم) ، ومنحوا الهبات لكبار الصحابة رضوان الله عليهم ليقولوا بها ، ويجمعوا المسلمون عليها ، والعقاب الذي تعرض له أبو ذر الغفاري وسلمان والإمام على نفسه من حاشية سيدنا عثمان بن عفان ذي النورين والذي تستحي منه الملائكة ، والذين نال الشيعة منه بل حقيقة موضوعية موفقة ، وثم الكثير الكثير المعلن والغير معلن نأخذه وأحياناً لا نعلم بوجوده ، ولكنه يستخدم كسلاح ضد حضارتنا ووجودنا ، إذن نحن في حاجة إلى بناء نظرية معرفة للعقلية الإسلامية ، بمعادلة الضرورة الموضوعية ، والتي تنتج بجهد مضاعف ، ويقين متماسك ، وفكرة تنبعث من الإيمان بجدوى القيام والفاعلية ، وهي نظرية تتناول الفعل العقلي والذي به يتم حصول الصورة في الذهن ويخلق تقابلاً بين الذات المدركة والموضوع المحدد ، متنبهين للحقيقة التي عرف بها العلامة ابن خلدون "العقل بالذات في تناول العلوم النقلية والوضعية " والتاريخ هو واحد من أهم العلوم النقلية أو كما يراها الرازي يقول " فكأن العقل غريزة يلزمها العلم بالأمور البديهية والكلية" فما أحوجنا إلى نظرية معرفة عقلية لنخرج بها من دائرة الكمون والسكونية، في الفعل الحضاري في عالم تتزاحم فيه النظريات وتتعارك فيه الأفكار لتخلص لنتائج في غالبها عنصرية وقائمة على اعتبارات براجماتية نفعية في تصور حضارة العرب المسلمين بأنها حضارة سلب ، ونهب وسيف وعنف واضطهاد والشيء الذي منحهم هذه الافتراضات ، هو وقوعنا في الخطأ المنهجي وهو أن نعتقد بوجود مثالية موضوعية ، لنقع في مثالية مادية تتحرك من أفق منغلق ، وبصيرة تعوزها الدقة العلمية ، هذا من الداخل ، ولا يزال يشكل عقبة نفسية ، فلننطلق من الداخل نصلحه ، ونرمم بنيانه ، ثم نتحرك في فضاء خارجي حاملين أدواتنا المنهجية ، ولأن التاريخي هو الرصيد الذي نستمد منه اشتباكنا مع الغيب ، فينبغي الإفاقة من الغفوة المعرفية التي نعانيها في تعاطينا مع التاريخي.
الهوامش : 1. ابن خلدون – المقدمة. 2. التاريخانية وترف التفكير – مقال للدكتور برهان غليون – نشر في مجلة الكرمل - 17 أب ( أغسطس ) 2005م 3. د. عبد الرازق عيد – العقل العربي . 4. صليبا – جميل – المعجم الفلسفي – دار الكاتب اللبناني 5. التفسير الموضوعي (السنن التاريخية). 6. الرعد: 11. 7. تاريخ الفلسفة الحديثة – د. يوسف كرم – دار المعارف – القاهرة. 8. العقل في التاريخ – هيجل. . 9. إحياء علوم الدين –الإمام الغزالي – باب العلم. 10. Hegel: Science De LaLogique Edition Glckner , Stugart , 1936,Vol. 4P51. 11. المقدمة – بن خلدون. 12. العقل العربي – عبد الله العروي 13. "النقلة النوعية" - كما يصف للجابري لمشروع التجديد الإسلامي. 14. كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة – ترجمة حسن حنفي. |