الرمز الأسطوري عند حسب الشيخ جعفر

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
23/09/2007 06:00 AM
GMT



يقول كارل غوستاف يونغ إن سر الخلق الفني وتأثير الففن يكمنان في العودة إلى حالة المشاركة الصوفية حيث يموت الفرد ليحيا الإنسان وهو بذلك يقدم لأهمية الأساطير لدى كل المجتمعات التي عن فقدت أساطيرها فستعاني من خسارة تعادل خسارة الإنسان لروحه . والحال هذه لا بد إذن أن يمتد فعل الأسطورة إلى الشعر ذلك النشاط الإنساني المفرط الحساسية والقدرة على الاستلهام والاستثمار ليخدم المحاولة الإنسانية الدائمة للارتقاء من خلال ما وصفه الفيلسوف الألماني الوجودي مارتن هيدجر من أن الشعر يرسخ اللامألوف في نفس الوقت يشوش المألوف ليحمل للإنسان صفة الوجود الأصيل .

وليس المعني في هذا الشأن الشعر الحديث فقط إنما يمتد استثمار الأساطير شعريا ليشمل الكثير من الشعر العربي منذ بداياته التي وصلتنا، فقد كانت للعرب أساطيرهم كالذي شاع عن أساف ونائلة وغيرها ، وقد تعمقت واتسعت أساليب استعمار المعاني الأسطورية في الشعر الحديث بدءا من حركة أبوللو الشعرية مرورا بالإنجازات العملاقة للرواد مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وآخرين وصولا إلى شاعرنا الفخم القدير (حسب الشيخ جعفر ).

والرمز لدى( حسب ) لم يكن محض إضاءة لحظية تخدم سياقا مؤقتا ينتاب القصيدة ضمن انفعال مجتزأ أو هامشي ، إنما كان خلقا لعالم يتمازج مع القصيدة ويمتد فيها بجدلية تنتهي مع كل خفقة تصويرية إلى تكدس وتراكم للمشاعر المستثارة بفعل جماليات العبارة والصورة وبما يدفع القصيدة للإفلات من ارتباطات الموضوع الرمزي الأسطوري وإفرازاته السايكلوجية الكلاسيكية ، بل إن هناك توليدا مستمرا لأجواء جديدة يكتسب فيها الرمز عمقا مضمونيا ويرتدي لبوسات مستحثة تماما وبصيغة تضج جمالية متفردة : وجه ابتهال مدن مهجورة تصيح

وجه ابتهال سفن ضائعة في الريح

طيارة من ورق ونار

ودمعة ثقيلة الحجار

وجه ابتهال لهب في مدن الإغريق

ينهش في لحم يدي فيدياس

وفي نفس القصيدة ( الملكة والمتسول ) نلحظ ممازجة حسب الشيخ جعفر بين الأساطير المتباعدة ليحقق خلقا جديدا في المغزى الأسطوري فيتعدد في إنجازاته الاستثمارية للموضوعات الرمزية ليطرح أنموذج الوحدة الإيحائية للوحدات الرمزية المختلفة حيث تتنوع هياكل القصيدة وبناؤها التصويري واللفظي بما يعمق الانفعالات الأولى ويغنيها ويمنحها الاستمرارية اللازمة للرسوخ بشكل من التفاعل المنتج للتركيب الشعري المثير الذي تمكن منه حسب الشيخ جعفر ببراعة نادرة :

وها أنا أهبط في قرارة الجحيم

في ظلمات العالم السفلي

( من أنت )

أنا فيدياس

أبحث عن فيدرا وعن أوفيليا في المرمر القديم

في اللهب الأخضر

(من أنت )

أبحث عن فيدرا و أوفيليا في قاع هذي الكأس

وتظهر المزاوجة بين ما يرسمه فيدياس في التركيب النفسي باعتباره المحاولة الدائمة للإمساك بالجمال الأبدي وبين الشاعر ممثلا للباحث عن النشوة الأزلية ، والتصاق الألم الوجودي في كلتا المحاولتين تظهر تفردا في الأسلوب الشعري الذي امتاز به شاعرنا المبدع ليقدم زادا جماليا تتغذى به المخيلة كيما تكون أكثر ثراءاً وأعمق انفعالا .

ويمكن تشخيص سعي حسب الشيخ جعفر لتذويب الرمز الأسطوري في أواني القصيدة السايكلوجية فيما يحافظ بحزم على نوعه ونكهته الأكثر تميزا تسهيلا لتكرار بنائه وإلحاقه بالفعل النفسي الأساسي و المؤثر للقصيدة في وعي ولا وعي المتلقي ، إن براعة الشاعر الشيخ جعفر ليست في التصرف بالأساطير ذات المدلولات المتعلقة بالثقافة الإنسانية عموما وحسب إنما في قدرته على خلق المعاني الأسطورية المؤثرة باستخدام أشخاص تاريخيين حقيقيين لا يمتلكون أي حضور أسطوري :

كلما قيل آتية

والتفت اختفت

والتلفت شيمتنا وهي غير الدمى الخزفية

لو نظرت عينها إلى بشر

صير منه فتورها حجرا

وتختفي كل جنان، ترتدي كل

جنان ظلها

كل طير شارد جنان

كل امرأة عابرة جنان

ولم يتوقف توليد المعنى الأسطوري واستثماره عند حدود الكائنات الواعية أو المنسوجة بوعي من نوع ما إنما توغل الشاعر إلى أعمق من ذلك عبر تسخير الأمكنة والظواهر الطبيعية والأشياء وتوظيفها أسطوريا وما يتضمنه ذلك من قدرة على اختيار نماذج تتوفر فيها سمة بعينها يتم تغليبها وإعادة بنائها وفقا لمهمتها الجديدة وبالاستفادة من ترابطاتها التاريخية والمحيطية .

وفي مطالعة تدقيقية لقصيدة ( قهوة العصر ) من ديوان نخلة الله وأوديت من ديوان ( الطائر الخشبي ) نتلمس الموقف المبتعد عن الاستخدام المباشر لأسطورة الانبعاث التموزي وفق المفهوم الذي ورد عند ت ـ س أليوت وتبعه فيه معظم الشعراء لاحقا في إطار رغبة الشاعر بالتفرد في صيغة تناوله الموضوعات الأسطورية مما يمثل هاجسا إبداعيا فعالا يدفعه لتجنب الملل تكرار ذات الوحدة الأسطورية مباشرة :

قالت يذوب الثلج ، يسقط المطر

وتورق الأشجار كل عام

والقلب لا يورق إلا مرة واحدة ، ونحن لا نولد مرتين

وفي انتظار خطوة الربيع

نطبق أجفاننا على التراب

نطبق أجفاننا على الشوك ، على الصقيع

إن حسب الشيخ جعفر هو من القلائل الذين عاشوا لحظيا وبإحساس مرهف حقيقة أن الإنسان يسير نحو المصير الذي ينتظره بعد حين، وكان ذلك منع شعره الإنساني الجميل .