بلد شفوي : قراءة موازية |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات إن القصد من هذه القراءة – بعد الاحتفاء بهذه المجموعة الشعرية – هو استنهاض المَشْغـَل النقدي العراقي ، على تخصيص (ورشة نقد يومي) تراقب النصوص – المحتفية بيوميات الشارع العراقي – بما يتيسَّر من الفقه الأكاديمي ، وتقرأ منجزها قراءة تتوازى مع فعلها الشعري ، من حيث تفعيل القصد وفتحه على احتمالاته ، إذ في ذلك تكمن حيوية المناضَلة الإنسانية ، وكذلك ستقدم مثل هذه الورشة وحدة قياسٍ يمكن لنا وللقارئ ، من خلالها ، ان نتحسَّس درجة حياة المجتمع العراقي الذي يعيش في أيام تتعالى على لغة الوصف . الأمر الذي يحتـِّم على الشرائح الإنسانية التي تتجلى في (الأدباء) مراقبة هذه الأيام ومحاولة إعطاء تحديد – في ضوء وحدة القياس – إلى ما يمكن ان تؤول إليه . فالأدباء كما يقول المفكر (علي عزت بيجوفتش) هم جهاز الإحساس في الحياة البشرية ، وعن طريق شكوكهم ومخاوفهم نتطلع إلى مستقبل هذه الحياة . بلد شفوي ... عنوان قصيدةٍ أهدت شفاهية أحرفها للمجموعة الأولى للشاعر (علي خصباك) حيث تتواصل بها الدلالة كما يتواصل أهلي العراقيون في طرقاتهم المقطـَّعة بحسب شهوة الصارخين (Go . Go) ويتلوَّى بها المعنى – تأويليَّاً - لكنه يصل كما يصل أهلي المتلوون في الطرقات إلى بيوتهم .
تصلح هذه القصيدة نموذجاً نرى فيه الوجه الشعري الدال في ديوان (خصباك) ، لأنها آثرت مشافهة َ، ومصارحة البسطاء على ترفيَّةِ ومزاج ِالرمز وتوظيف الأسطورة وملابسات ما بعد الحداثة وغيرها ، آثرت كل ذلك لتصرخ بصوت واضح ، ولكنه عميق بألمه ، بهؤلاء البسطاء : إنكم خارج مدى التوصيف .... تصلح نموذجاً لأنها أختزلت كثافتها بعنوانٍ أخذ وجه البحيرة الواضح ليرشد من يريد البحث عن قطعة المعدن . يتجهّز (علي خصباك) بلغةٍ توصيفية ليرسم الطريق الوحيد غير المشمول – اليوم - بالحواجز ، وهو طريق القراءة الفاحصة لتهجـِّي (البلد الشفوي) فـ (خصباك) منذ الاستهلال يضع خريطة المسار الدلالي لقصيدتهِ ، أمام كاميرا القراءة عبر تخطيطٍ (تناوبي) -إن جاز القول- إذ يقول :
كل الشوارع تفضي إلى الموت وكل المارة يفضون للشوارع (ص9)
وهنا يتحتـَّّم على القراءة التي تريد ان تكون فاحصة، أن تلاحظ حساسية الاشتغال الشعري مستندة إلى مقولة حداثويةٍ تفيد في أن كل ما يتحمله النص مقصود ... وتكمن هذه الحساسية في (أدائية الإفضاء) المراد تقديمها حيث يقول في السطر الأول (تفضي إلى) وفي الثاني (يفضون للــ ...) ولم يقل (يفضون إلى) ونعلم أن (تفضي إلى) تأتي بمعنى (توصل إلى) في حين (يفضون للــ ..) تأتي بمعنى (يسمحون أو يخلون المجال للــ) وبذلك يكون قصد التخطيط الشعري هو إخلاء الشوارع من المارة بالموت ودليلنا على ذلك ما يؤكده الشاعر بسطريهِ الثالث والرابع :
هذا بلد شوارع الساسة فيه يؤسسون شوارع أخر (ص9)
ليكمل الدلالة الحاكمة لهذا النص ، ويعطي مضمونية كاملة لمقولهِ بهيئة محكيٍّ يومي بعيداً عن حكومة البلاغة والمجاز . بعد ذلك يستمر (خصباك) بتوصيفاته المرتكزة على استنهاض المشاهد اليومية ومنتجتها في شريط شعري ، تتكفل عرضه أمام شاشة المتلقي سيناريوهات ضمنية ناتجة عن فعل التركيب القاصد إلى خلق صورة طويلة ، أو مشهدية ، مثل الصورتين الآتيتين :
(1) هذا بلد شوارع فيه الناس تتلقى أحكامها اليومية وحينما يستأنفون يراجعون مستشفى الطب العدلي (2) هذا بلد فيه البطولة تنام خلف كتل كونكريتية البطولة يحرسها الرصاص البطولة مخبأة في حقائب دبلوماسية والحقائب مشدودة جداً إلى أنابيب النفط الضخمة (ص9-10)
وهنا نلاحظ أن البنية الأسلوبية مدعومة بألفاظ مساندة تفيد في تفعيل الضخ الدلالي لهذه الصورة الطويلة ، مثل (جداً ، الضخمة) فهي أفعال مساندة، لأن حذفها يبقي، على المعنى المراد ، ولكن بنية الأسلوب استدعتها لكي ترفع من قيمة الجانب التهويلي كي يتسنى لعدسة القراءة تبصَّراً يوافق بين طول الشريط الذي استغرقه التصوير الشعري للمشهد ، وبين المعنى (المشدود جداً) و (الضخم) الذي ينطوي عليه هذا التصوير . وفي الصورة الثالثة يفكك (خصباك) بلده الشفوي إلى أربعة أضلاع ليؤطـِّر بها لافتة ً تشهيرية تتطلب قراءتها مؤذِّناً ليفضَحَ معلونها بصوتٍ (تكبيري) إذ يقول :-
هذا بلد شفوي نتهجّى أحرفه كل يوم عين : عقوبة إعدام راء : (ردتك عون طلعت فرعون) ألف : استر عريك بورقة توت قاف : قاتل حتى تحصل على قبرٍ يأويك . (ص11)
بعدها – في صورته الرابعة – يرجع (علي) إلى الوراء ، عن طريق جملة سيناريوية خارجةٍ عن مسار التصوير ، لكنها تتواصل معه ، رامية إلى خلق خلفية لإطار هذا المسار التصويري ، حيث أن الصور تقابل – إلى حد بعيد – في مجال التصوير ما يصطلح عليه اللسان السينمائي بـ(الماقبل فلمي) ، أو ما يصطلح عليه يوري لوتمان بـ(المقدمات التوجيهية) . فهي تتخذ من الذكرى ، والتاريخ ، والحلم .. ورشة لتغليف منظرٍ سابق تكشف عنه الصور ، لهذا البلد الشفوي :
بلد شفوي يقبع في بطون الكتب دخنا مذ كنا تلامذةً يبهرنا درس التاريخ تبهرنا الخارطة يبهرنا موضوع الثروات في دروس الجغرافية .... تبهرنا الأرقام والمعلم يوعدنا خيراً بمعونة الشتاء . (ص12)
ونلاحظ على هذه الصورة أنها تتحرك على سكة إيقاعية منضّدةٍ بشكل فاعل يتلاءم مع قصيدة النثر بحيث يمتـِّعها بخاصيةٍ نظميةٍ ويُبقي على حرية نثريتها ، حيث أن الإيقاع بارز ، وذلك بوجود آثار بائنةٍ لبحر (الخبب) (فَعِلٌ فعْلٌ) في مفاصل الصورة ، مما يفيد في أن رجوع (خصباك) إلى الوراء في صورته هذه كان سريعاً ، لكي لا ينشغل عن مساره التوصيفي لطريقهِ الملتوي كشوارع بلده ... الشفوي .
بعد ذلك يتنفس (خصباك) صورتـَه الخامسة بهدوء لكي يرسم مشهداً ضبابياً حافلاً بالغياب الذي يحتفل به المكان اليوم ، حيث يصوِّر (علي) هذا المشهد بطريقة (إحصائية) تتمظهر بسرد تراجيدي تعدادي ، إذ يأخذ الشاعر موقع الراوي بلسان الجماعة واضعاً حاله مراقباً للمسرود وشاهداً عليه : -
وكبرنا ... وكبرنا غاب آباؤنا ، ومعلمونا أخوتنا ، أصدقاؤنا ، وغاب الشجر ، والأنهر ، والصباحات غاب الحكماء والموسيقى ... وغاب البلد غابوا ، هناك وبقينا نحن (ص13)
وهنا نؤشّر دقة ً للراوي / الشاعر ، في توظيف فعل الغياب ، فقد جاء مع الجنس العاقل :-
غاب = آباؤنا + معلمونا + أخوتنا + اصدقاؤنا .
وتكرر بعد هذا ليعلن عن غياب جنس آخر مختلف غير عاقل :
غاب = الشجر + الأنهر + الصباحات .
وبعدها يتكرر الفعل ذاته ليعطي تجنيساً شعرياً لنوع الغياب :
غاب = الحكماء + الموسيقى .
وأعني بذلك أن الشاعر لم يردف الفعل (غاب) وراء كل لفظة من هذه الألفاظ ، إنما اكتفى بذكرها مع نوع كل جنس، ليعطي حدوداً مُهنـْدسَة بنكهةٍ توجيهيةٍ للمروي. وقد وفــَّر الروي بهذا التداعي في الغياب تهيئة تفسح للشاعر مجال العودة والمباشرة الفعلية بلغتهِ الواصفة في تدشين صورتهِ السادسة التي ضمَّنها تصويراً (إشهارياً) أو إعلانياً ، حيث يقول :
نحن بقايا ما زلنا نتهجى البلد الشفوي نقضم الأحرف التي لا طعم لها ولا رائحة لكنه يظهر كل يوم في الفضائيات يظهر ضخماً يأخذ شكل الدبابة والطائرة يظهر صوتاً يصرخ Go..! Go..! يبقون ونمضي (ص14)
وهنا يوظـِّف الإعلان المعروف الذي يصوِّر رحيل (قوات الاحتلال) ، وإشارة الطرد الاستفزازية التي يستخدمها الجنود الأمريكان (Go . GO) ، ومن ثم تأتي فاعلية تضمين الإعلان بشكل انقلابي ، فهو يقول (يبقون ونمضي) ونسخة الإعلان الأصل تقول (يمضون ونبقى) . وقد اعتمد (خصباك) هذه المفارقة الواضحة لكي يعطي صبغة خاصة لسخريته المتحشرجة بحزن الواقع . ثم يسترسل (خصباك) بشريط طويل ، يأخذ أعرافه من الصورة السابقة ، إلى درجة يحق للقراءة ان تعتبرها صورة واحدة ، أو مشهداً ، حيث يقول :
وأحياناً يظهر في رأس مقطوع وشظايا ... يظهر أتربة - حشوداً تمور في الساحات لا تدري ما القصة ..؟ هل انتهت القصة ..؟ كلا .. فما زال في بطن البلد الشفوي كنوز هي حصة من يفك طلاسمها والساسة أحباب البلد الشفوي منكبون على الخارطة التي لا يسلكونها (ص15)
وفي هذا الشريط يوجد عطف ٌ ضمني أو معنوي، يتواصل مع الصورة السابقة من حيث وضعية زمن المحكي المستمر، ففي الصورة السابقة يتقدم الزمن بواسطة (ما زلنا) وهنا بواسطة (وأحياناً) ، فضلاً عن العطف الصريح – من حيث الحركة – بواسطة الفعل الحركة المضارع (يظهر) الأمر الذي يكشف عن حالة استئناف ضمن استمرارية المسار الزمني للمحكي . وكذلك يوجد في هذا الشريط نوع من التمديد والتطويل للشريط الشعري، وذلك من خلال خلق الشاعر لأسئلة يعرف الجواب عنها (ما القصة ؟) (هل انتهت القصة ؟ كلا) ولكن يسترسل بها ليمد شريطه الشعري أطول ، ربما إلى مدى يتلاءم مع الطول غير الطبيعي الذي تستغرقه شوارع بغداد الموبوءة بالمأساة ، فمن حولها المفخخات وعلى إطرافها الدبابات ومن فوقها الطائرات ... وما أطولها على المارة ؟! . وفي نهاية طريق هذه الصورة يفجر الشاعر – هو الآخر – عبوة مفارقتهِ الساخرة : (الساسة .. لا يسلكونها) وهذه المفارقة تأخذ قيمتها الدلالية من مصادفات الطريق ، شعرياً : ضمن شريط الصورة ، وواقعياً : ضمن الطريق في الحياة اليومية . . . ويتواصل مع هذا الحال في قوله :
شوارعنا .. نحن .. انتم .. انتن وليس هم هذا بلده تدخل أرامله في (غينس) أيتامه يدخلون فقراؤه يدخلون نخيله يدخل أنهاره ... ظلامه طيبته .. صبره .. يدخل كلهم داخلون والخارج لن يكون نقطة على أحرف البلد الشفوي ! (ص16)
وهو بمقولِهِ هذا إنما يؤكد ويتواصل مع (أدائية الإفضاء) حيث يقدم حركة الدخول بتجييش فعل الحركة (يدخل) وبشكل قاسٍ من أشكال الموت والتغييب . و(الخارج منه) هو من يستطيع الاختيار ، ولا أجد طريقة انسب – لمن يقدر! - من تلك التي اختارها (مهدي الراضي) ألا وهي : المرور بعجالةٍ على ظهر مانشيت يجري من تحت مذيعة أنيـــــقة تغطي محياها – كما يقول أهل القصة القصيرة دائماً – ابتسامة اغوائية وهي تتلو- بلغتها – عدد القتلى والشهداء – بلغتنا – في سوق شعبية . ولا أدري إلى أي اللغتين سيؤول بنا المآل .... هكذا يخبرنا (علي خصباك) بلون البقاء في هذا البلد الشفوي ، ويتساءل :-
هل انتهت القصة ..؟ كلا فالوجع المزمن لا يذهب بحبة أسبرين فنحن سماد هذه الأرض كي نتفيأ أشجارها فمن لم يعرف يتهجى البلد الشفوي ويقطف ثماره هم لاعبو الروليت ومدمنو ركوب الطائرات (ص17)
ثم ينتهي شاعرنا (علي خصباك) معاتباً بلده بشدةٍ حنونةٍ ، خائفةٍ ، عاتبةٍ ، مستذكرة وجعها الحسيني الراكز على ضفتي الفرات :-
هذا بلد نتفيأ رصاصه وشظاياه ونأكل هواءه ونبصر في ظلامه ونشرب صبره الله يا بلدي كان فراتك حتى الساعة لم يكترث ساهٍ هو أم يكتم وجعه ام يجري لأجل النوارس والنخيل وكل صباح يوقظنا مَن يموت ويقول انتم أحياء ولكن ؟ في بلد شفوي .. (ص18)
وهذا هو البلد (الخصباكي) ... شفوي ظلـَّت حروفه، عصية ًعلى مراحل التدوين والكتابة ، وظل موضع توهيم تاريخي ، ومجدٍ كاذب ، وحروب طائشة ، وأرامل لا تنام ..
ــــــ *ينظر : بلد شفوي : (مجموعة شعرية) : علي خصباك ، دار غيوم الثقافية ، والملتقى الثقافي العراقي ، بغداد ، ط1 /2006 / 9-18 .
|