التقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
21/07/2016 06:00 AM
GMT



لا تحقق السلطة، أيُّ سلطة، مقبوليتها بالقوة والمال فحسب، بل بمشروعها الثقافي (أي أفكارها ومعتقداتها ومعاييرها ووعيها ومجمل صورتها عن العالم) في أذهان الناس أيضاً. وحينما تخسر السلطة هذا الامتياز، كما هو حادث اليوم في العراق، فإن التغيير الاجتماعي والسياسي يصبح مرهوناً إلى حد كبير ببزوغ هيمنة ثقافية بديلة لدى الفئات الاجتماعية المتضررة، تبرز فيها عناصر الإصلاح والاحتجاج والتغيير والأمل بأوضاع جديدة.

الهيمنة الثقافية للنخب المدنية
يجدر التكرار التوثيقي في كل مرة أن النخب المدنية المثقفة – غير المحرومة بالضرورة- هي التي قدحت زنادَ الموجة الحالية من الاحتجاجات المستمرة منذ تموز 2015 حتى اليوم، إذ التقطت هذه النخب لحظة تاريخية فارقة على نحو أخلاقي ورسالي، ومارست ما يسمى بـ"الهيمنة الثقافية"Cultural Hegemony بتعبير "غرامشي" Gramsci، أي قدمت بديلاً رؤيوياً صار يملأ تدريجياً ما أسماه "هابرماس" Habermas بـ"الفضاءَ العمومي"Public Sphere الذهني للمجتمع، يتمثل بالدعوة لإصلاح سياسي شامل يؤسس لدولة مدنية مستقبلية تحترم مبادئ العدل الاجتماعي والديمقراطية السياسية، بعد إعادة بناء السلطة وفقاً لإعلاء الهوية الوطنية الجامعة والمواطنة المتساوية ونبذ الإثنية السياسية. وهو أمر كان منتظراً منذ سقوط النظام السابق في 9 نيسان 2003م، إلا أنه جرى تقويضه بفعل إدارة الاحتلال الأمريكي التي سعت جاهدة لتبني سياسات الهوية في تأسيسها لمجلس الحكم في تموز 2003م وما أعقبه من بزوغ الأسلمة السياسية.     
إن ما يميز النخب المدنية في العراق- بالرغم من قلة عددهم حالياً بحكم الثقافة السياسية الخضوعية السائدة-، أنها ذات جذور علمانية وليبرالية ويسارية عميقة في تأثيرها النوعي في مجمل النتاج الفكري للمجتمع العراقي، إذ لطالما امتلكت خبرة العمل الثقافي التفلسفي مقروناً بالهمّ السياسي الأخلاقوي على مدى تاريخ العراق المعاصر منذ تأسيس دولته الحديثة قبل نحو قرن من الزمن.
 وإذا كانت هذه النخب هي التي بلورت عبر احتجاجاتها هذه الهيمنة الثقافية البازغة اليوم في العراق، فإنها برزت هيكلياً ليس بوصفها تياراً سياسياً أو شعبياً عمودياً، بل بوصفها "حركة اجتماعية" Social Movement مطلبية أفقية (سياسيون ومثقفون وأكاديميون وإعلاميون ونقابيون وناشطون مدنيون) عابرة للمسميات الإثنية والأيديولوجية والحزبية، أي ليس لها قيادات مشخصنة بالمعنى الكارزماتي الفرداني، بل تستمد طاقتها ودينامياتها ومساراتها وقراراتها من مجمل أدائها الثقافي ذي الطابع الجماعي الشامل.
وليس ذلك بغريب عن البنية الذهنية للنخب المدنية العراقية التي تمتاز بالتعقيد المفاهيمي الشكوكي والنزعة "النرجسية"، إذ يميلون في العادة إلى منح ولائهم للأفكار والمُثل المجردة بدل الأشخاص والإيقونات. ولعل هذا ما يفسر افتقارَ هذه النخب لقدرة التفكير النقابي التضامني، وبالتالي عجزهم حتى الآن عن تأسيس ائتلاف سياسي ينظم نشاطهم الاحتجاجي وفق رؤية فكرية متفق عليها لتأطير حراكهم الآني والمستقبلي.
ثم نجحت هذه النخب المدنية بعد شهور، باجتذاب أعداد متزايدة من المحتجين ممن يصنفون في إطار الفئات المحرومة اقتصادياً والمستبعدة اجتماعياً والفقيرة تعليمياً، وتحديداً منذ نهاية شباط 2016م حينما انضم الصدريون إلى الحراك الاحتجاجي. فالرؤية المطلبية العامة التي قدمتها هذه الحركة الاجتماعية المدنية، والمستمدة من قوة المثال الجذاب لهيمنها الثقافية، وجدت لها تعاطفاً لدى القواعد المسحوقة للتيار الصدري الشعبوي، التي تمتاز بتدين معتدل ذي نزعات سلوكية مدنية لا تخلو من حداثة في المظهر والاهتمامات.
وحينها لم تجد القيادة الدينية لهذا التيار مناصاً من التجاوب مع الإطار العام لهذه الثقافة الإصلاحية المرشحة للهيمنة، إذ جرى الاستفادة من مضمونها المدنياتي، وتأويلها عقائدياً بوصفها "أيضاً" انبعاثاً عراقوياً عصرياً للتشيع العدالوي الذي طال تغييبه واستلابه من أحزاب التشيع السياسي الفاسدة.
فبدأت القيادة الصدرية بإطلاق سلسلة من المبادرات السياسية الإصلاحية تتمحور حول إعادة تشكيل السلطة التنفيذية على أساس تكنوقراطي بعيداً عن التقاسم الطائفي والحزبي، رافقتها دعوات متكررة لأتباع التيار بمناصرة هذه المبادرات عبر تظاهرات مليونية واعتصامات سلمية أمام المنطقة الخضراء في بغداد.
وبذلك انتقلت الهيمنة على الفضاء العمومي للمرة الأولى منذ 2003م، من ايديولوجيا الطوائف والأعراق السياسية النهّابة والفاقدة للمصداقية والمفتقرة لقدرة الإقناع والمنتجة للتطرف والدوعشة، إلى حوار مجتمعي واسع يتمحور – نظرياً على الأقل- حول ثقافة الإصلاح والمواطنة والتسامح وحرية التعبير والمساءلة والعدل الاجتماعي والوطن المشترك والحق العام، في مسعى جدي لإحداث تغييرٍ قيمي وإدراكي وسلوكي يقود إلى التغيير السياسي الحاسم.

بزوغ فضاء عمومي مشترك
إن الإطار الثقافي المهيمن الذي بلوَرهُ المدنيون بوصفهم حركة اجتماعية نوعية، قد اندمجت فيه جموع غفيرة من المتدينين المحرومين ممن وجدوا في هذا الإطار فضاءً طال انتظاره لإطلاق دوافعهم المقموعة. وهذا الإطار أفرز مجالاً ذهنياً- سلوكياً مشتركاً، أفلح في إطلاق نزعتين كامنتين: "العراقوية" و"الطبقية"، لدى ملايين المواطنين المحتجين أو المنتظرين في بيوتهم، إذ شرعَ بإعادة إنتاجَ طيفِ هويتهم الاجتماعية بألوان أكثر مدنياتية وعقلانية، مذكّرا إياهم بأن المظالم التي تنخر حياتهم إنما تستهدفهم بوصفهم بشراً ومحرومين قبل أي تصنيف هوياتي فرعي آخر.
وقد وفر هذا المجال النفسي الذي بات يتسع للطرفين المدني والصدري، مناخاً سياسياً أتاح لهما التنسيق احتجاجياً – ولو على نحو مؤقت- وفق أهداف مطلبية موحدة نابعة من الهيمنة الثقافية التي أطلقها المدنيون، تتمحور حول غاية رئيسة هي السعي لفك أسر البلاد من نظام الطائفية السياسية المستبيح للكرامة البشرية، ونقلها إلى تخوم الدولة الوطنية الساعية بثبات وأمل لشطب مفردات الجوع والذل والعنف والتمييز من حياة مواطنيها.
وقد استند هذا التقارب بين الطرفين إلى أربعة مبادئ:
1- عدم الخوض في أي مغامرات تحالفية أو جبهوية متسرعة بينهما.
2- عدم تنازل أي طرف عن هويته الفكرية أو نشاطه التنظيمي المستقل.
3- احترام كل طرف للخيار العلماني أو الديني للآخر، بوصفها اجتهادات فكرية لا تفسد المشتركات الوطنية بينهما.
4- اقتناع كلا الطرفين بحاجته للآخر، وإنه – بمفرده- غير مؤهل ليكون البديل القادم للنظام السياسي الحالي، لأسباب تتعلق بعدم امتلاكه لكل المقومات السياسية الوافية لهذه المهمة.
فللمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر، امتلأ قلب بغداد بآلاف العلمانيين والدينيين، المتظاهرين منهم والمعتصمين، في تجربة سيكوسياسية فريدة جرى فيها تعديل مهم للصور الذهنية الجامدة التي يحملها كل فريق عن الآخر، والتي لطالما اقترنت شرطياً بتجارب انفعالية تحاملية أكثر من كونها تعبيراً عن حجج عقلية قابلة للإثبات. وقد شهدت خيام الاعتصام على وجه خاص نشاطاتٍ فنية وجلسات ثقافية مشتركة طوال أسبوعين، أسهمت في حقن الطرفين بجرعةٍ من مصل التسامح، وأقنعتهما – آنياً على الأقل- بإنسانوية الآخر وأحقية خياراته.
أما الخلافات الفكرية الجوهرية بين الطرفين، فستظل مؤجلة بحكم الضرورات التبادلية الآنية حتى يتم إنجاز التغيير المنتظر بكل آماله وآلامه. وعندها من المرجح أن تتفجر تلك الخلافات على نحو تفاعلي أو إقصائي بحسب نوع التغيرات التي ستطال بنية التفكير السيكوسياسي لديهما، بتأثير العمل المشترك، وماهية التغيير المُنجَز، ونمط النظام السياسي القادم.
فاليوم، وبعد مرور سنة كاملة تقريباً على انطلاق الحركة الاحتجاجية، نجدُ أن ثمة تنسيقاً ميدانياً عملياتياً قد نشأ طوعياً بين التيارين: النخبوي (المدني) والشعبوي (الصدري)، على مستوى التكتيكات الاحتجاجية والشعارات المطلبية، بما يعبّر عن أنساق قيمية مرحلية مشتركة تتسم بنزعة راديكالية وسلمية معاً، لإنهاء النظام الطائفاني الحالي بتقويض ما تبقى من شرعيته أي من هيمنته الثقافية المتهالكة. وهذا التنسيق تمخضت عنه وقائع احتجاجية تعدّ مفصلية في التاريخ السياسي للعراق المعاصر، ليس آخرها دخول عشرات الآلاف من المحتجين إلى المباني الحكومية في المنطقة الخضراء في 30 نيسان، و20 أيار 2016م.
وتأسيساً على هذه الرؤية، وبلغة السيكولوجيا السياسية، فلا يجوز لأي طرف أو تيار الادعاء بوصايته على هذه الحركة الاحتجاجية أو إنها خرجت من رحمه دون غيره، إذ أنها تعبير عن دافع بشري تمردي حرّكتْه نزعة وطنياتية براجماتية امتزجت بوعي معارض حديث الولادة، على نحو عابر للايديولوجيا والهويات الإثنية.
وكل ذلك حدث بتأثير سلطة الأسلمة السياسية – ذات البنية المغلقة- التي لم تخسر تأييد المدنيين بأطيافهم العديدة فحسب في وقت مبكر من تأسيسها المصطنع، بل خسرت أيضاً لاحقاً قاعدة واسعة من المتدينين المقهورين ممن احتاجوا إلى أكثر من عقد من الزمن ليبدأوا بتفكيك "وعيهم الزائف" False Consciousness الذي ارتهنته تلك السلطة لصالح صناديقها الانتخابية، وليخرجوا من زنزانة "الأقدار" إلى آفاق "الأمل" بوصفه إحدى القوى الموضوعية الدافعة للتاريخ الاجتماعي.
إن هذا التنسيق الاحتجاجي بين المدنيين والصدريين، يدعونا للتمعن مجدداً بالقاعدة الثابتة امبريقياً في دراسات علم النفس السياسي والاجتماعي الموثقة خلال العقدين الماضيين في بلدان كثيرة، والقائلة: «كلما أمكنَ تذكير المحرومين والمتضررين، بهويتهم الجمعية المشتركة – الوطنية مثلاً-  وبأنهم يمثلون أكثرية عددية مؤثرة، فإن خيار الاحتجاجات الجمعية العابرة لهوياتهم الفرعية، سيبرز لديهم بوصفه تعبيراً واعداً عن إمكانية التغيير واستعادة العدل الذي حُرموا منه».
ويبدو أن العراق ليس استثناءً من هذه القاعدة، فمعالجة الأزمة السياسية الحالية المقوضة لسلمه الأهلي وتماسكه الاجتماعي يمكن أن تتحقق بالاستفادة من تقنيات سيكولوجيا الأزمات المستندة إلى ديناميات الجماعات الخاضعة لسياسات الهوية. 

إفتراض نظري مؤقت أم خيار فعلي يتشكل؟!
أفرز التقارب المدني- الصدري معضلة فكرية ستبقى ماثلة لأمد غير قصير، إذ نشأ سجال حاد في صفوف المدنيين أنفسهم حول مدى أخلاقية وجدوى التقارب مع تيار ديني (أي الصدري) يُصنّف ضمن حركات الإسلام السياسي في العراق.
أهو تقارب نفعي مرحلي يمكن أن ينتهي بصراع دامٍ فيما بعد؟ أم إنه تقارب إصلاحي ومعالجة أزماتية ناجعة بحكم التدهور الذي وصلت إليه أوضاع البلاد وضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ وهل يمكن بالفعل تحقيق التقارب بين تيار مدني علماني وتيار ديني له تاريخ عنفي؟ وما نوع الضمانات التي يجب أن يقدمها الصدريون، لإقناع المدنيين بصدق نواياهم وثبات مواقفهم؟ وهل يرتجى من هذا التقارب أن يكون نواة واقعية لانبثاق كتلة تاريخية تضم كل القوى المجتمعية الساعية لخيار دولة المواطنة المدنية؟ أم إن الأمر كله لا يعدو أكثر من افتراض نظري مؤقت لن يُكتبَ له الديمومة؟
يعدّ هذا السجال مؤشراً إيجابياً بمضامينه التحفيزية والتجديدية وحتى الشكوكية، في حال التزامه بمعايير النقاش الموضوعي المنفتح دونما تحاملات مسبقة أو تخوين أو تجريح يصدر من أي طرف، إذ إنه يجترح مادة غير مسبوقة في أدبيات الفكر السياسي العراقي حول أساليب معالجة الأزمات السياسية الكبرى.
أما وجهه السلبي – نظرياً وعملياً- فيتضح حينما تتخذ هذه النقاشات لدى بعض المنتقدين المدنيين –وليس جميعهم- طابعاً طُهرياً أو عفافياً أو وسواسياً غايته إثبات "نقاء" الذات "العصية" على المساس وتوصيم الآخر الداعي للتقارب مع الصدريين بوصفه "عدواً" فكرياً وطبقياً أو على الأقل "مخدوعاً" أو "ساذجاً"، متناسين أن الكوارث الطبيعية والاجتماعية الكاسحة، تستدعي بزوغ الهوية البشرية الموحدة لدى من يريدون المقاومة حقاً، ريثما يستقر الحال وتعاود الصراعات الثانوية الأزلية بروزها من جديد. 
وهذا الطرح لدى هذه الفئة المحدودة، غالباً ما يتخذ اتجاهاً أحادياً مؤمثلاً هو محاولة إثبات "الخيانة" المستترة خلف هذا التقارب، دون أن يبذلوا أي جهد مفيد – نظري أو ميداني- لتقديم تصورات فكرية بديلة قابلة للتطبيق عن كيفية إنقاذ البلاد. فعجزهم عن بذل هذا الجهد، أو افتقادهم للجرأة أو البصيرة للقيام به، ينتج تهديداً لاحترام الذات لديهم أو وخزأ للضمير، يجري تفاديهما بآليات الإبدال اللاشعورية عبر "تأثيم" الآخر وإظهار "خطيئته" التي "تستدعي" الرجم والتقريع.
ولمزيد من التمحيص في هذا السجال الفكري، قد يكون من المناسب أن أكرر هنا افتراضي عن وجود نزعة يساروية مجتمعية واضحة في العراق، وأن هذه النزعة عابرة في جوهرها السيكولوجي لأي ايديولوجيات مسبقة أو جاهزة، علمانية كانت أم دينية. فثمة مؤشرات ملموسة عن «يسار ديموغرافي جديد أخذ ينشأ عن نزعات سوسيوثقافية مؤيدة لفكرة الدولة المدنية، بدأت بالبزوغ والانتشار لدى فئات سكانية عراقية مهمة ومؤثرة ممن يصنفون عادة ضمن إطار "المدنيين" أو "المتدينين" على حد سواء».
فالنزعة اليساروية قبل أن تكون مفهوماً سياسياً، هي «نزعة سوسيوسيكولوجية جماهيرية بإطار ثقافسياسي شامل، وهي ليست حكراً على العلمانيين واللادينيين، بل هي متاحة نفسياً لكل التصنيفات السياسية للبشر القادرين على التأثر بها ضمن مراحل تاريخية محددة»، إذ تتضمن توجهاً قيمياً جذرياً «لتغيير العالم باتجاه أكثر اتفاقاً مع العقلانية والعدل والإقرار بوحدة القيمة البشرية».
وفي الوقت ذاته، فإن إشكالية أخرى واسعة التداول باتت تُطرَحُ بين عدد مهم من المدنيين واليساريين العراقيين حول التبعية "العمياء" التي يبديها الجمهور الصدري لزعيمه، إذ يشكك هؤلاء أصلاً في امتلاك الصدريين لوعي يساروي احتجاجي حقيقي، معللين سبب خروجهم أو انسحابهم من ساحات الاحتجاج بانصياعهم المذهبي الولائي المطلق لأوامر الزعيم، وليس لدوافع إصلاحية جذرية أصيلة تتعلق بتوقهم الواعي لاسترجاع حقوقهم.

التيار الصدري بين الإسلاموية والوطنياتية
لتفكيك هذه الإشكالية الفكرية المشار إليها قبل قليل، فلا بد أولاً من تناول بنية التيار الصدري بوصفه ظاهرة "دينية سياسية" ذات أبعاد ثقافية ونفسية مركبة، ظلّ ساعياً قدر المستطاع -في بنيته القيمية- لأداء وظيفة اجتماعية مرتبطة بالمظلومية الطبقية - لا الطائفية - للشيعة، دون أن يتحول إلى حركة لاهوتية بحتة مجوفة من أي بُعد مجتمعي، مع احتفاظه بطابعه المذهبي العام.
وهو بذلك يمثل الحركة الوحيدة التي حاولت الاقتراب نسبياً من المضمون الاجتماعوي للتشيع العَلَوي، في وقت تضررت فيه إلى حد كبير صورة التشيع عامة على يد معظم تيارات الشيعة السياسية الأخرى في العراق. وهذا الاقتراب منح التيارَ قوةً تماسكية أخلاقوية داخلية حاسمة، إذ تأسّسَ عنفوانُه الجماهيري بتأثير الجاذبية الفريدة لشخصية السيد محمد محمد صادق الصدر (أغتيل في 1999م)، التي وجدت امتدادها الذهني والسلوكي لاحقاً في شخصية ولده السيد مقتدى.
فقد دأبت قيادة التيار الصدري منذ بروزها الميداني المؤثر بعد نيسان 2003م على التميز في مواقفها الراديكالية "الناطقة" والمباشرة مع أتباعها، وسط البناء الثيولوجي المحافظ للمرجعيات النجفية الأخرى التي دأبت على عدم الاتصال المباشر بالجمهور لفظياً أو سلوكياً. كما انخرطت الأذرع العسكرية للتيار لسنواتٍ في مقاومة الاحتلال الأمريكي وما نتج عنه من اصطدامات عنيفة متكررة بالقوات الأمنية الرسمية المُقادة من زعماءٍ ينتمون لأحزاب شيعية أخرى، تاركة بذلك شرخاً مستمراً في ذاكرة الطائفة، ما برح تأثيره يتسع في ضوء التفاوت الطبقي الحاد المتزايد ضمن التراتبية الديموغرافية للشيعة. 
ولأجل ذلك، ظل التيار الصدري محيراً وغامضاً في بنيته ووظيفته معاً، ومستدعياً لتفسيرات متضاربة بشأنه على مدى سنوات نشاطه الماضية، سيما في ضوء التغيرات غير التقليدية التي طرأت في رؤيته الفكرية المعلنة ومواقفه السياسية المرتبطة بتلك الرؤية، وما إذا كانت هذه التبدلات تستند إلى أرضية مبدئية ثابتة أم إلى تقلبات مزاجية تتصل بموازين الصراع السياسي داخل البيت السياسي الشيعوي فحسب. ولذلك فالتحليل الشكلي الثنائي (خير- شر) يقف عاجزاً هنا، فيما تبرز أحقية الرؤية الجدلية الباحثة عن استنباط النقائض وصهرها في إطار عقلي شامل يتجاوز نوعياً المعادلاتِ الجبرية المبسطة، دون الانجرار إلى سرديات الشيطنة والأمْـثَــلَـة.
فالتيار الصدري لا يمكن تقييمه بمعيارٍ أو تصنيف واحد لأنه غير مُمأسس على نحو بيروقراطي كما هي الأحزاب الإسلاموية الأخرى. فإلى جانب بنيته الاقتصادية غير الشفافة وذراعه العسكري غير الثابت (سرايا السلام حالياً، وجيش المهدي ولواء اليوم الموعود سابقاً)، يتألف التيار من ثلاثة مكونات ثابتة نسبياً، متفاعلة دينامياً ونوعياً، لكنه تفاعلٌ غير منتظم ولا يمكن توقع مخرجاته الإجمالية على طول الخط، ما يفسّر أزمة عدم استقرار الهوية التي يعاني منها:
1. قيادة دينية شيعية ذات وظيفة فقهية وإرشادية شديدة التأثير في الأتباع، دأبت على تطوير رؤيتها السياسية بمرور الزمن بالاستفادة من كل إخفاقات السنوات الماضية، إذ أصبحت تعدّ الأكثر قرباً من مفهومَي "العراقوية" و"الدولة المدنية" مع نزعة عروبية واضحة، بالمقايسة مع حركات التشيع السياسي الأخرى المتخندقة مذهبياً بحُكم مصالحها المالية والتجارية والسلطوية النابعة من الهوية الطائفية لا الوطنية.
2. كتلة سياسية تنشط في البرلمان وخارجه، تجمع بين توجهات إسلاموية وأخرى مدنية على نحو براجماتي. كما تضم شخصياتٍ نخبوية عالية التعليم وأخرى شعبوية واطئة التعليم، ورموزاً مثالوية زاهدة وأخرى منتفعة فاسدة.
3. قاعدة شعبية ضخمة، من بروليتاريا غير منتجة (كسبة وعاطلين وباعة متجولين وسكان عشوائيات)، ومن عمال وموظفين صغار وحرفيين ومثقفين؛ تجمعهم هوية مدنية تتمسك بالإسلام السلوكي لا السياسي، ويجدون في زعيمهم ملاذاً نفسياً آمناً للشعور بالقيمة والحماية والهيبة والتعويض والمواساة عن ضعفهم الاجتماعي وحرمانهم الاقتصادي، أكثر منه مرجعاً فقهياً لأصول دينية يمارسونها اجتماعياً دون تزمت لاهوتي.
فهو تيار اجتماعي/ ديني/ سياسي، ديناميكي، مزيج من النزاهة والفساد، ومن السلم والعنف، ومن الثقافة والجهل، ومن الوطنياتية والطائفانية، ومن الانضباط والعشوائية، ومن إسلامويين منغلقين ومن متدينين منفتحين لهم تأريخ يساري لا يتنكرون له.
والأهم من ذلك أن قاعدته الشعبية وثقله الاجتماعي يمثل الهدف الأغلى الذي يحلم أي يسار أن يعمل لاستقطابه. فالقاعدة السكانية العظمى للصدريين تضم عراقيين شيعة محرومين ومسحوقين وجدوا في البيئة الصدرية المتماسكة ملاذاً وحلاً وتعويضاً. وهم بوعيهم الاجتماعي المتذبذب الحالي يمثلون مرحلة انتقالية من الوعي الإسلاموي ذي الوظيفة التنفيسية الانفعالية، إلى الوعي الطبقي ذي الوظيفة التحررية العقلانية. وهو انتقال بطيء التحول بحكم الابتزاز الطائفي شديد الوطأة الذي مورس ضدهم على مدى عقود، لكنه انتقال ثابت بحكم النزعة اليساروية الاجتماعية المتجذرة فيهم، وبحكم تنامي الوعي المدني في عموم العراق الذي لا يمكن أن تغفله العين.
وإجمالاً يمكن القول أن التيار الصدري هو التيار الإسلامي الوحيد الذي استفاد من تجربة الصراع السياسي الحاد في العراق خلال السنوات الماضية، ليبدأ مساعٍ ملحوظة لتطوير مفاهيمه وطروحاته وبنائه الإيديولوجي، ومراجعة أخطائه وخطاياه، وإعادة مأسسة آليات عمله على نحو أكثر واقعية وعقلانية وقرباً من الشرعية الدستورية للدولة..
وهو يحاول اليوم أن يبرز بوصفه حركة دينية طبقية عدالوية تحاول الاستعانة بمفاهيم الحداثة السياسية والإصلاح الديني للانتقال من النزعة المذهبية التكارهية إلى مبدأ المواطنة المتسامح، ربما استناداً إلى رؤية فكرية متنامية مضمونها أن الجوهر العَلَوي الأخلاقي لا يتضح مغزاه ولا تأثيره إلا في الإطار الوطني العام غير المسيس بمذهبية معينة، وبخلافه سيبقى محض هوية طائفية صراعية ضيقة.
إلا أن هذه الرؤية المتقدمة ما تزال في طور النمو المتسارع حيناً والمتراجع حيناً آخر، بحسب شدة الصراع غير المحسوم بعد بين قوى التحرر وقوى المحافظة داخل التيار نفسه. إنه صراعُ مصالحٍ في جوهره، بين مراكز طفيلية تستمد منافعها المالية ونفوذها من تعميق الهوية المذهبية الثيولوجية للتيار حصراً، وبين نخب عقلانية تجنح إلى يسرنة التيار ولبرلته طبقاً لحسّها المثقف الذي يرى في التيار حركة وطنياتية الوظيفة - دينية البنية، قبل أي تصنيف آخر. وإن واحداً من أهم إفرازات هذا الصراع هو السؤال المتداول على نطاق واسع لدى الرأي العام العراقي: هل التيار الصدري يسعى إلى الدولة أم إلى السلطة؟! وفي الحالتين: أي دولة وأي سلطة؟ مدنية أم دينية؟!
فضلاً عن ذلك، فإن صوراً نمطية سلبية عن التيار الصدري، لها أساس موضوعي، ما تزال حية في الذاكرة السياسية العراقية، تُعزى إلى التصفيات الجسدية الطائفية المنسوبة إليه (جيش المهدي) خلال حقبة الاقتتال الطائفي (2006- 2007)م، وإلى المحاكم "الشرعية" التي انبثقت عنه في الحقبة ذاتها، وإلى تورط بعض رموزه بالفساد السياسي والمالي عبر المناصب الحكومية التي شغلوها، وإلى مواقفه المتذبذبة التي جعلته في منطقة وسطى غير محسومة بين المعارضة والسلطة.
وهي صور لن تمحى تلقائياً، إذ يتطلب محوها أن تبدر من قيادات التيار مواقفُ عملية ولفظية ثابتة وواضحة ومتواترة، تتضمن نقداً ذاتياً شفافاً، وتطهيراً لصفوفه من الفساد، وإعلان ميثاق مبادئ يتبنى نبذ عسكرة المجتمع، وحل تشكيلاته العسكرية نهائياً، واتخاذ القانون معياراً وحيداً لتنظيم شؤون الدولة والمجتمع، واعتماد مبدأ المواطنة عبر حظر النشاط السياسي على أسس دينية أو مذهبية أو عِرقية، والإقرار بمبدأ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة، واحترام الحريات الشخصية وحرية التعبير والتنوع الثقافي والعقائدي؛ فضلاً عن الإسهام الفاعل في مصالحة وطنية شاملة تشمل المحافظات الغربية ذات الأغلبية الديموغرافية السنية.
إن تحقيقاً فعلياً لكل هذه المتطلبات يستلزم قبل كل شيء أن يباشر التيار الصدري بإصلاح ديني جوهري في نظامه المفاهيمي والخطابي، للتحول من الراديكالية الدينية المستئثرة بـ"الحقيقة الإلهية" إلى الراديكالية المجتمعية المستندة إلى إنهاء المظالم البشرية، عبر تطعيم التشيّع بالفكر السياسي المدني وفك ارتباطه بالإسلام السياسي السلطوي التقليدي، والكف عن استخدام الدين للتغول على المعايير الثقافية العامة للمجتمع؛ بمعنى انتشال التشيّع من دائرة التمذهب الميثولوجي المظلوماتي، وزجه في أفق تنويري يجعل منه ايديولوجيا اجتماعوية تاريخانية عدالوية.
وهذه المهمة تبدو عسيرة جداً بحكم البنية المحافظة التي تتسم بها المؤسسة الحوزوية عموماً، إذ ما برحت تعمل على إعادة إنتاج التشيع في كل عصر بوصفه هوية مذهبية طقوسية منتجة للنفوذ والثروة، أكثر منه هوية فكرية عقلانية منتجة للحداثة السياسية والديمقراطية الاجتماعية. إلا أن التركيبة الصدرية غير التقليدية تبقى مرشحة – نظرياً على الأقل- لاختراق التابوات الثيولوجية، واجتراح حراك تحديثي غير مسبوق في العقل الشيعي، قد تكون له انعكاساته الإيجابية في مجمل الحراك السياسي في الشرق الأوسط.

الصدريون: تبعية دينية أم يساروية اجتماعية؟!
يُصنَّف التيار الصدري ضمن الإطار الأكاديمي، على أنه "حركة شعبوية" Populism أي حركة احتجاجية تنشأ بين فئات سكانية متضررة وضعيفة، لا تمتلك تعليماً كافياً في الغالب وليس على الدوام، وتستهدف تحقيق أهداف ذات طابع حقوقي ما عاد بالإمكان تحقيقها بالوسائل التقليدية المتوافق عليها سياسياً في دولة معينة.
إن الميزة الأساسية لهذه الحركات بحسب "كريستا ديويكس" Christa Deiwiks هي إيمانها بمحورية دور الإرادة الشعبية في العملية السياسية. فعندما تعجز العملية السياسية عن تحقيق العدالة، أو عندما ترفض النخبة الحاكمة تحقيق الإرادة الشعبية، تظهر الحركات الشعبوية التي تسعى لاستبدال النخب السياسية بأخرى أكثر تحقيقاً لإرادتها. ويتميز الخطاب الشعبوي في العادة بالتبسيط الشديد لقضايا معقدة، وبطغيان الجانب العاطفي، وهو يقوم على وجود حالة من الاستقطاب بين الشعب الذي تمثله الحركة، وطرف آخر يشكل هدفاً للغضب، بوصفه السبب في الأزمات التي يعانيها الأول. وغالباً ما تتبعُ هذه الحركات زعاماتٍ فردية تتسم بكاريزما فريدة. والشعبوية بهذه المعاني يمكن أن تكون يسارية أو يمينية، علمانية أو دينية، بحسب الخلفية النفسية للسياق السياسي أو الثقافي الذي تظهر فيه.
وطبقاً لهذا التصنيف، يمكن الاستعانة بتأريخ مدينة الثورة (الصدر) في بغداد أنموذجاً لاستكمال تحليل الإشكالية الفكرية المشار إليها سابقاً، حول ما إذا كان الصدريون يمتلكون وعياً يساروياً احتجاجياً حقيقياً أم أنهم يمارسون انصياعاً دينياً "أعمى" لأوامر زعيمهم فحسب.
فقد أفصحت هذه المدينة عن راديكاليتها قبل أكثر من نصف قرن بانتمائها الشيوعي آنذاك. وهي تعاود الإفصاح اليوم عن راديكاليتها بانتمائها الصدري. ولذلك فالأصل هو سيكولوجيتها "الشعبوية" النابعة من حرمانها الممتزج بطابعها العشائري التضامني.
ويجانب الصواب كثيراً من يصف سكانها بالأصولية الدينية المنغلقة السائرة على نحو انصياعي أعمى خلف رمز ديني "معصوم"، إذ أن سرَّ قوتهم لطالما كان يتمثل بقدرتهم على حشد طاقة الحرمان والإحباط المتراكمة فيهم، ثم إيكال التنفيس عنها وإدارتها سياسياً لتيار يساري أو رمز ديني، ضمن آلية "التماهي بالمنقذ" بوصفها حلاً نفسياً يتم اللجوء إليه أوقات اليأس الجمعي، وحين يفتقر الناس إلى ثقافة سياسية تؤمن بفاعلية الفرد وقدرته على التأثير في مجرى الأحداث السياسية.
إن النظرية السياسية القائلة أن الزعماء الكارزماتيين إنما ينشطون ويتحركون فقط بفعل خصائصهم الذاتية الاستثنائية الجاذبة والمحركة لعواطف الجماهير وعقولهم، باتت تلاقي صعوبة جدية في إثبات صوابيتها الدائمة، بحكم التطور الذي أحرزته دراسات علم النفس السياسي في حقول السلوك الجمعي والسيرة الذاتية للسياسيين والتأثيرات الموقفية القادحة للسلوك الاجتماعي.
فمفهوم "صناعة الزعيم" سواء كان عادلاً أم ظالماً، بات يخضع بدرجة أساسية للتشريح عبر البحث في دوافع الجماهير وصورها الذهنية. أما خصائص الزعيم نفسه فتشغل مكاناً ثانوياً في التحليل بالرغم من أهمية تفاعلها الجدلي مع العامل الأول.
وفي حالة التيار الصدري، وبسبب ديناميكية العلاقة بين مكوناته الثلاثة المشار إليها سابقاً، وقدرته المستمرة على تكييف بنيته الداخلية مع البنية العامة للحدث السياسي في العراق، فإن المعادلة بين زعيم التيار (أي السيد مقتدى الصدر) وأتباعه يجب أن تفهم بالشكل الآتي: 
إن وحدة التماهي النفسي العميق بين الطرفين لا تتيح لأي منهما أن يتصرف – سيكولوجياً- بمعزل عن الآخر، أي أن كليهما يمارس في الآخر تأثيراً مماثلاً في القوة، إذ يتخذ الزعيم قراراته وخططه وخطاباته بتأثير المواقف الضاغطة عليه من الأتباع الذين ينتظرون منه أن يكون ملبياً لتوقعاتهم في استرجاع العدل والكرامة والأمن، ما داموا قد منحوه تفويضاً بالقداسة. وفي الوقت ذاته، يبدي الأتباع انصياعاً قوياً لخيارات الزعيم الذي سبق أن فوضوه سلطة الإنابة عنهم، ليكون "الأيقونة" التي تمنحهم كبرياء الهوية الجمعية الكاسحة بمواجهة بؤسهم وضعفهم ويأسهم النابعين من هوياتهم الفردية المبعثرة.
فزعيم التيار الصدري، لا يستمد سلطته "المطلقة" من ذاته أو من قدراته الخاصة أو من التاريخ الاستشهادي لأسرته فحسب، بل يستمده أساساً من التخويل اللاشعوري الذي منحته إياه الجماهير العاجزة، التي تحتاج منه أن يكون المحرّكَ "المقدس" لفعلها الاحتجاجي باتجاه "تحقيق" دوافعها العزيزة المعطلة، ما دامت (أي الجماهير) لا تجرؤ على فعل ذلك بمفردها. إنه يحركها لأنها تريده أن يحركها. إنه هو من يتبعُ دوافعَها موضوعياً، ليكون زعيمَها ذاتياً، وليس العكس.
 أما عجز الجماهير هذا فمسألة لا تطال الصدريين فحسب، بل عموم العراقيين ومنهم الشيعة، إذ ينبع هذا العجز تعلّمياً من اتجاهاتهم الدينية القدرية المرتكزة إلى فكرة انتظار الفرد المنقذ كلي القدرة من جهة، وإلى ثقافتها السياسية الخضوعية بتأثير تغوّل السلطة وساديتها على مدى الخمسين عاماً الأخيرة من جهة أخرى.
هذه الوظيفة التبادلية بين الطرفين (أي الزعيم والأتباع)، جعلت كليهما  يلبي – في الإطار العام- توقعاتِ الآخر منه ضمناً، حتى وإنْ لم يتضح ذلك علانية، أو اتضح عكس ذلك في حالات قليلة. وهنا يكمن سر التماسك العاطفي الشديد بين الطرفين، إذ أن التركيبة النفسية لكلٍ منهما، الفردية للزعيم والجمعية للجمهور، تجد أقصى إشباع لها في تركيبة الآخر. فيحدث تزامن في التوقعات، وتبادل في الإشباعات، وتماهٍ في الوظائف.
وهنا تبرز الزعامة الصدرية الكارزماتية الفردية بوصفها تعبيراً ناطقاً عن دافعية يساروية جمعية مكبوتة، ومحركاً لها في الوقت ذاته. كما يبرز الحراك الصدري بوصفه تعبيراً سلوكياً عن وعي احتجاجي ودافع إصلاحي يساروي مؤجل، يحتاج أن تقدحه كلماتُ الزعيم وأوامره.
أما الرابط الديني الولائي الذي تبدو عليه العلاقة بين الطرفين، فلا يشكّل إلا تمظهراً ايديولوجياً تعويضياً للتنفيس عن دوافع عميقة مستترة تتصل بحوافز الكبت والحرمان والإذلال، إذ يمنح – أي الرابط الديني- الجموعَ شعوراً بالأمان والعزاء في عالم ينتهك آدميتهم كل يوم. فالايديولوجيا تنبع من السيكولوجيا في مثل هذه الظواهر، وليس العكس.

الممارسة معيار الأحكام
إن ساحة العمل السياسي المدني عموماً واليساري خصوصاً يجدر أن لا تبقى منعزلة ضمن "محميات" ايديولوجية تنادي بفكرة "إما كل شيء" أو "لا شيء"، خصوصاً في بلد كالعراق ينزلق إلى هاوية سحيقة.
ولأننا نتحدث عن عمل سياسي شاق وطويل النفس ومحفوف بالاحتمالات والاجتهادات والمخاطر، فإن أي انفتاح أو تقارب بين المدنيين وبين أي تيار ديني ذي قاعدة اجتماعية يساروية يعدّ احتمالاً سياسياً واقعياً لا يجوز تجنبه أو معاداته، إذ قد يفتح أبواباً لحراك سياسي يدفع باتجاه ايقاف التدهور وحقن دماءٍ مرشحة للهدر في ضوء الانهيارات المستمرة في جدران الدولة المتداعية.
هذا التقارب أو التنسيق السياسي لا ينطوي على تحالف مصيري أو تفريط مفاهيمي أو قيمي من أي طرف، لكنه يتطلب بالضرورة أن يحصل المدنيون – بوصفهم الجهة الأكثر استهدافاً والأقل حصانة أمام استئساد الأسلمة السياسية- على ضمانات سياسية وتطمينات فكرية من الصدريين، بأن هذا التقارب ليس جسراً لتحقيق منافع سلطوية على حسابهم، بل هو تجميع لإرادات مجتمعية تتجه مرحلياً نحو تحقيق إصلاح جذري في مجمل الكينونة السياسية للعراق.
 وعندها قد يوفر هذا التقارب شرطاً نفسياً مهماً لمعالجة أزمة الثقة التاريخية بين العلمانيين والدينيين في العراق، عبر تحقيق خطوة منتظرة واحدة على الأقل باتجاه دولة وطنية متماسكة، نظراً لارتكازه على مقدمات عقلانية. وبذلك فهو يمثل خياراً فكرياً وسياسياً قابلاً للإثبات أو الدحض بحكم نتائجه ومآلاته، دون أن يستلزم وضعه مسبقاً في خانة "الفضيلة" أو "الرذيلة".
أسترشدُ هنا بواحدة من أعز مقولات ماركس الواردة في "أطروحات عن فيورباخ":
«إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة واقعية ليست مطلقاً قضية نظرية، إنما هي قضية ممارسة؛ ففي الممارسة ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره ووجوده ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن الممارسة إنما هو قضية كلامية بحتة".