تجلّيات الشخصيّة الاستحواذيّة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات حظيت الشخصية الرئيسة في الرواية الحديثة بمصطلحات سرديّة متنوّعة بحسب دورها في بناء الحدث وتشكيل الهيكل السرديّ على نحو عام، ومنها (الشخصيّة المركزيّة) و (الشخصيّة المحوريّة) و (الشخصيّة الأساسيّة) وغيرها، وثمّة دلالة محدّدة لكلّ مصطلح بطبيعة الحال، ونضيف في قراءتنا هذه مصطلحاً جديداً في هذا السياق هو (الشخصيّة الاستحواذيّة) على نحو يلائم شخصيّة معيّنة من شخصيات رواية (الظلال الطويلة) لأمجد توفيق، وهي شخصيّة (انتصار)، ودلالة الاستحواذ هنا كما نراها دلالة مركّبة تتأتى من فكرة الاستحواذ الحضوريّ الروائيّ للشخصيّة على مساحة الحدث في واقعه الكتابيّ، ومن الهيمنة السلطويّة على الشخصيّات الأخرى المتفاعلة معها، فهي شخصيّة تستحوذ على مساحة كتابيّة هائلة في الرواية، وتطغى على بقيّة الشخصيّات وتتعالى عليها إجرائيّاً في قدرتها على إيجاد الحلول التنويريّة لأزمات الشخصيّات الأخرى المجاورة لها والمتفاعلة معها. تبدأ أولى ملامح هذه الشخصيّة بالظهور مبكّراً منذ مطالع السرد في الرواية، وتشكّل هذه البداية مرجعيّة الشخصيّة الاجتماعيّة والثقافيّة، وبداية تشكّل الخطّ السرديّ الصاعد نحو تعميق فكرة الاستحواذ النابعة أساساً من طبيعة المرجعيّة وتأثيرها النفسيّ على فكر الشخصيّة وطريقتها في إدارة وضعها السرديّ الخاصّ: كانت تعيش في هذا البيت مع شقيق صعلوك مخمور يتلقى الصدقات والإكراميات من الراغبين في المتعة مع شقيقته .. في أمسية نيسانية ، عندما كانت بغداد تحتل ، خرج هذا الشقيق المخمور من البيت وهو يحمل كيس دقيق فارغا .. كان يبحث عما يملأ به الكيس من سرقات بعدما أصبحت عمارات ودوائر شارع الرشيد مهجورة .. اقترب من البنك المركزي ، وثمة أحوط به رجال مسلحون ، وانتزعوا الكيس الفارغ من يده، وأخذوا يعبئونه برزم الدولارات ، وهو يساعدهم في ذلك .. ما أن أظلمت السماء، واقتربت رشقات الرصاص حتى غادر الرجال المسلحون بعد أن رمـوا برزمة من الدولارات مكافأة له.. أخذها وهرول عائدا إلى البيت.. رأت انتصار رزمة النقود الخضراء، فعرفت القصة.. طلبت أن يقاسمها المبلغ، رفض، ثم دخل غرفته وأوصد الباب.. فكرت أنّ الفرصة لا تتكرر، وعليها أن تفعل شيئا يخلّصها من حياة الذل والفقر التي تحياها.. جمعت أكياسا فارغة، والتقطت عباءتها ، ثم غادرت البيت.. ثمّة مساران أساسان هنا شكّلا الصورة الأولى الابتدائيّة لشخصية (انتصار)، المسار الأوّل يتمثّل في (كانت تعيش في هذا البيت مع شقيق صعلوك مخمور يتلقى الصدقات والإكراميات من الراغبين في المتعة مع شقيقته..)، وهو مسار تقليديّ يرسم الصورة الأولى للشخصيّة في سياقها السرديّ المتعلّق بالحكاية، ويتمثّل المسار الثاني في (فكرت أنّ الفرصة لا تتكرر، وعليها أن تفعل شيئا يخلّصها من حياة الذل والفقر التي تحياها.. جمعت أكياسا فارغة، والتقطت عباءتها، ثم غادرت البيت ..)، إذ شرعت الشخصيّة بعزيمة قويّة بحثاً عن خلاص ما، على نحو يؤكّد قوّتها وعدم استسلامها لمصير ثابت في صورة وضعها الراهن، بل جاء قرار البحث عن خلاص بوصفه توكيداً لارتباط الشخصيّة بحلم يتناغم مع طموح ذاتيّ يدرك ما تنطوي عليه من إمكانات مخزونة، لأنّ الجرأة هنا تمثّل علامة من علامات استغلال ما يتاح من فرص لتغيير المصير (فكرت أن الفرصة لا تتكرر)، وهذا مفتاح مهمّ من مفاتيح قراءة الشخصيّة وفهم جوهر الحدث على نحو يرسم إصرارها على التغيير، وفتح مجال آخر لحياة أخرى ورؤية أخرى. التحوّل الأوّل الذي رسم للشخصيّة مساراً جديداً أشبه بالخلاص تمثّل في تفجّر الرغبة اللصوصيّة الهائلة حين توافرت الفرصة، فاندفعت في سبيلها إلى الاستحواذ على ما أمكن من النقود من البنك الذي فتح أبوابه على مصاريعها أمام السرّاق في استعادة لثقافة (الفرهود) في التاريخ الشعبيّ العراقيّ، واستعانت بصبيّ لتنفيذ خطّتها في تحويل نقود البنك إلى بنكها الخاص: عند الباب وجدت صبيا صغيرا غالبا ما كانت تعطف عليه، وهي لا تعرف أهله، لكنه من سكنة المنطقة ذاتها.. نادته، فركض باتجاهها، فطلبت منه مرافقتها.. عندما وصلت البنك المركزي، كان الرصاص قـد توقف تقريبا، والمنطقة غارقة في الظلمة، والباب موصد.. تلمست الحائط، فوجدت نافذة مكسورة وحديدها محطم.. قدح خاطر في ذهنها، فعملت على تنفيذه.. أرسلت الصبي إلى البيت لجلب مصباح يدوي موضوع على جانب سريرها.. انطلق الصبي، فجلست أسفل النافذة تنتظر وتحلم.. وصل الصبي حاملا المصباح، رفعته نحو النافذة، وطلبت منه النزول إلى الداخل.. ما أن أصبح الصبي في الداخل حتى ناولته المصباح، وأمرته أن يبحث عن رزم النقود، ويسلمها لها.. في أقل من نصف ساعة، كان كيسان كبيران من أكياس الدقيق ممتلئين برزم الدولارات والدنانير..الصبي يعمل، وانتصار كتلة متفجرة من طاقة ونشاط وأحلام ومساحة توقع..كما لو أنها تحمل ريشة، تناولت انتصار جسد الصبي، وأخرجته من النافذة إلى الخارج..حملت كيسا على كتفها، وطلبت من الصبي مساعدتها في سحب الكيس الثاني.. هكذا في وقت محدود للغاية تحوّلت شخصيّة (انتصار) من امرأة بائسة تستعين بجسدها من أجل حياة لا تليق بالبشر، إلى سيدة مجتمع قادرة على تغيير مجرى الأحداث خارج كيانها الشخصيّ في هيمنة استحواذيّة عبّرت عن ذكاء مخزون وشخصيّة طاغية، ذلك أنّ المال الذي حظيت بها من سرقة البنك كان السلاح الأمضى لدحر الماضي التعيس بمجمله. أمّا التحوّل الثاني في حياة الشخصيّة الاستحواذيّة فهو غياب الأخ الذي كان ربّما حجر عثرة أمامها من أجل التمظهر السرديّ الجديد لها، فالحصول على المال بهذه الكثرة الجنونيّة، وموت الأخ بهذه الطريقة، أتاحا الفرصة الكافية ـ وربّما المثاليّة ـ كي تستعين شخصيّة (انتصار) بإمكاناتها الذاتيّة النوعيّة الكامنة، وقد تفجّرت على حين غرّة، من أجل استكمال تشييد الطاقة الاستحواذيّة لشخصيتها في سياق الهيمنة شبه المطلقة على مقدّرات الحدث السرديّ في عموم الرواية: وصلا البيت .. اندفعت تحتضن الصبي وتقبله ، وترجوه أن يأتي كل يوم لزيارتها .. ملأت جيوبه بالهدايا والحلويات ، وأكدت عليه ألا يتحدث عما فعلاه في هذه الليلة لأحد حتى وإن كان أبوه أو أمه لأن ذلك معناه الموت للجميع .. أقسم الصبي بأنه لن يتكلم، وخرج مودعا بالقبل والدعوات.. بعد أيام أصبحت سرقة البنك على كل لسان، وتداخلت الحقائق بالأكاذيب.. عرف سكان المنطقة أن انتصارا وشقيقها ساهما بنصيب في السرقة دون أن يكون لأحـد القدرة على التأكيد، وعندما حوصر شقيق انتصار: ذكر حقيقة ما يعرف عن الرزمة التي رماها اللصوص إليه.. لم يصدقه أحــد، ومات مقتولا برصاصة مجهولة..رربما كان مقتل الشقيق ثمنا لفسحة من الزمن استطاعت انتصار أن تخفي أموالها، وتفكر في أساليب لاستثمار المــال، وتغيير حياتها.. تركت الحي بصورة سرية، واختفت أخبارها، حتى ظهرت بشكل جديد: سيدة محترمة تسكن دارة فخمة في المنصور.. لا بدّ أن يتغيّر المكان حتى ينفتح المجال السرديّ الأوسع لتمثيل صورة التغيير الكليّ المطلق للشخصيّة، في انتقالها نحو عالم آخر يجعل منها شخصيّة باهرة على الأصعدة كافة، إذ حين توافرت الإمكانات الكبيرة أمامها سعت إلى صنع صورة جديدة لها تتشبّه بفضاءات الطبقة الراقية وقد أصبحت بديلاً لها، وبما أنّ مكان السكن يعدّ واجهة إشهاريّة من واجهات الثراء والرقيّ والتميّز فقد ذهبت الشخصيّة في هذا الاتجاه بقوّة: اشترت انتصار الدارة التي تسكنها الآن من ثري ترك العراق قبل الحرب، يقال أنه أحد حيتان أسواق الشورجة، وينحدر من أصول إيرانية، وقد تمت عملية البيع في مكتب محام يعمل وكيلا للثري .. استحوذت الشخصيّة أولاً على المكان المناسب بما ينطوي عليه من مرجعيّة تتسّم بالثراء الكبير والسُمعة الراقية في المحيط المكاني، ومن ثمّ راحت تعيد إنتاج المكان على وفق المقصديّة المشتغلة في سياق تمثيل حالة الثراء والرقيّ والرفعة: بعد تسلم الدارة عملت انتصار على ترميمها بالكامل وصبغها، وكلّفت مجموعة من الفلاحين بالعناية بحديقتها، وزرع أصناف نادرة من الزهور وشتلات الزينة فيها.. وهنا حقّقت شخصيّة (انتصار) ما اجتهدت في السعي إلى تحقيقه لتوكيد جمال البناء الخارجيّ، وإرغام الناظرين المتأمّلين على امتداح ذوق المالك، في السبيل إلى إنجاز فكرة محو ماضي الشخصيّة وابتداع حاضر جديد مختلف ومغاير كلّيّاً: لم يمر وقت طويل حتى أصبحت الدارة بناءً جميلا لا يستطيع أن يمر أحد أمامه دون أن ينظر إليه ويتأمله ويثني على ذوق مالكه .. لم تكتفِ الشخصيّة بالاستحواذ على المكان بل زحفت رغباتها للاستحواذ على الإنسان، بوصفه المكمّل الجوهريّ الفعليّ لمنح المكان القيمة المطلوبة كي تؤول الأشياء كلّها في النهاية نحو أسطرة الشخصيّة ضمن المركز المكانيّ والماحول الإنسانيّ، وصولاً إلى فرض الهيمنة الشخصيّة بما يسهم في تصميت الذاكرة وتشغيل طاقة العين الرائيّة بأعلى كفاءتها: اكتملت الدارة، فنصبت انتصار قدورا عملاقة، وطلبت من طباخين مشهورين أن يعدوا طعاما كافيا لإشباع ألف شخص .. وكان لا بدّ من إكسسوارات إضافيّة تتعلّق بالملبس والحضور المؤثّر الضاغط مصحوباً بالهالة المطلوبة لإتمام أسطرة الشخصيّة وتفعيل عنفوانها وتألّقها: نفذت أوامرها، فظهرت انتصار.. كانت ترتدي زيا هاشميا مسروقا من أحد القصور.. هلل الحاضرون للخاتون الصالحة التي ترعى الفقراء، وتبذل أموالها لفعل الخير لإرضاء الله.. استقبلت انتصار تهليلات الحاضرين بابتسامة عريضة.. غمرها الإحساس بالرضا على لقب الخاتون الذي منحه الجياع لها، فوقفت أمام المائدة الأولى، وأخذت ملعقة، وهتفت بالحاضرين: ـ قولوا: بسم الله الرحمن الرحيم. كرر الحاضرون البسملة، وبدأ الأكل.. انسحبت إلى الداخل، ووقفت أمام نافذة تطل على الحديقة، وأخذت ترقب ضيوفها، وهي ممتلئة بالإحساس بالرضا والانتقام من الأيام الخوالي.. بعد المأدبة العملاقة شاع خبر الخاتون الصالحة بيـن سكان الحي، واستغلت هذا الاعتراف لتظهر كرمها وشكرها وكفاءتها أيضا في السيطرة على مجموعة من العاملين والخدم والسواق، اختارتهم بعد طول تفكير من أقرباء بعيدين يسكنون ضواحي بغداد، أعدتهم لأن تكون الطاعة مقياسا لا تحيد عنه في رضاها وكرمها.. إنّ تحوّل التسمية نحو (الخاتون الصالحة) يمثّل انتصاراً ساحقاً على التسمية القديمة العالقة في الذاكرة الموبوءة (الفقيرة المومس) ودحراً إجرائيّاً لها، وهو ما جعلها تهمس لنفسها لاقتناص الفرصة بعيداً عن (التخاذل) وقريباً من (القوّة والعناد) من أجل الانتصار المطلوب: لا وقت للتخاذل، ولا بد من الاستمرار بقوة وعناد، فالفرص تبحث عن مستحقيها.. هكذا حدثت انتصار نفسها.. تتداخل ثلاث حكايات في منطقة الشخصيّة الاستحواذيّة (انتصار)، وتسهم في إغناء تشكيلها وحيويتها داخل الكيان السرديّ العام للرواية، الحكاية الأولى هي حكاية المسؤول الحزبيّ (أبو صهيب) مثالاً للمسؤوليّة الارتجاليّة بعد الاحتلال، حين تقرّر انتصار إذلاله بعد أن تستحوذ على اهتمام رئيس حرّاسه وتجنّده لصالحها: قالت الخاتون: ـ إنني حزينة لسماع هذه القصة، ولو أنني أعرف الرجل لساعدته.. قال رئيس الحراس: ـ أنت أشرف من رئيس حزبنا، ولا أقول ذلك وحدي، فكل الحراس يعرفون كرمك وطيبتك.. استدرجت الخاتون رئيس الحراس لمعرفة تفاصيل دقيقة عن أبي صهيب تتضمن معلومات عن موعد نومه ومغادرته للمقر وتحركاته وزواره واتصالاته وأمواله.. سمعت معلومات كثيرة، استمعت إليها بإصغاء شديد، بعدها أمرت بتكريم رئيس الحراس، فخرج مسرورا.. استعانت بأصدقائها القدامى وقد مثّلوا ما يشبه مافيا صغيرة تعمل بقوّة تحت إمرتها لتنفيذ ما تريده مهما كان صعباً وخطراً، وكلّفته بمهمة اقتحام قصر أبي صهيب وإذلاله بعد أن زوّدتهم بالمعلومات المطلوبة لنجاح عملية الاقتحام: دخلت انتصار، فقال عباس الحربة: ـ حدثت الرجال عن المشعوذ جارك، وهم جاهزون.. متى تريدين أن يتم الأمر؟ سألت انتصار: ـ هل عرضت المعلومات عليهم؟ ـ نعم.. ـ لم تبق سوى الخطة.. فتحت باب خزنة في الجدار، وأخرجت ورقة فيها ما يشبه خريطة الدارة، وبدأت تحدثهم عن الغرفة التي ينام فيها أبو صهيب، وأين يكمن الحراس، ثم قالت: إن أفضل طريق إليها هي اجتياز السياج الخلفي لدارتها ثم النزول إلى الحديقة الخلفية لدارة أبي صهيب، وحدثتهم عن رغبتها في أن يتم الأمر بهدوء.. سأل جبار عن محتويات الغرفة، فقالت إنها تضم خزنة كبيرة وسريرا مزدوجا وكرسيين.. عاد، فسأل عن حجم الأموال في الخزنة.. قالت: إنها تحوي الكثير، وهي ليست متأكدة من الرقم.. عقب جبار قائلا: ـ سنحصيها، ونقتسمها.. قالت: إنها لهم وهي غير معنية بالأموال.. حصتها في تقييد الرجل وتكميم فمه.. ولم يكن ذلك سوى فعاليّة انتقام من الماضي بتحقيق نصرٍ كفيلٍ بتشييد صورة أخرى لا تمتّ بصلة إلى صورة الماضي، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من تفجير طاقة الحقد الكامن في أعماق الشخصيّة وهي تبحث عن فرصة مواتية لإطلاق حممه البركانيّة، وكانت وسيلة الانتقام من الآخر أفضل طريقة لبعث الراحة في نفسٍ مدمّرة تحت سلطة الذاكرة: أصاب (انتصار) نوع نادر من حــمى الرغبة في إذلال الآخرين.. كانت تنتقم على طريقتها الخاصة من كل سنة وشهر ويوم وساعة ودقيقة في حياتها السابقة التي عاشتها في الـذل والفقر والحرمان والعهر.. الحكاية الثانية هي حكاية المجنّدة الأميركيّة التي تمّ اختطافها مصادفة من مجموعة عصابتها، وقد حملوها إلى دارة الخاتون (انتصار) للنظر في أمرها، وحين تفجّرت الرغبة الأيروتيكيّة الكامنة في جسدها سألت صديقها (جبار الأسود) إن كان يرغب في النوم مع الأميركيّة فأجابها فوراً بأنّه يفضلّها على الأميركيّة مئة مرّة: ـ حدثني أيها الأسود.. لماذا تفضلني مـائة مرة على الأميركية؟ بوغت جبار بالسؤال.. قال: ـ لا أدري إلى أي حد سيكون كلامي مفهوما.. إنني أشعر بأنك لست امرأة تثيرين شهوتي.. أنت جميلة وذكية.. والأهم إن ثمة معنى كبيرا في النـوم معك، وكنت أعـدّ ذلك شيئا من الماضي وإنه لن يتكرر، حتى.. قاطعته انتصار: ـ أي معنى كبير؟ ـ ثمة فرق في النوم مع أميرة أو النوم مع شحاذة.. ـ إذاً أنت تعتبرني شحاذة أصبحت أميرة.. ـ لا أقصد ذلك، أنا لا أجيد الحديث.. تقدم منها.. شعرت أنه يعتصر صدرها، ويطبق على فمها، ثم يحملها بخفة ورشاقة ليضعها على الســرير، وهو يهمس في أذنها.. ـ جسدي يتحدث أفضل من لساني.. كان صادقا.. شعرت انتصار إنه يفترسها قطعة إثر أخرى، ويمتص خلاياها التي تنبض بأكثر من قدرتها وتتحسس حركة الجسم وتتماهى مع ندائه الأصيل.. ها هو جبار يعيدها إلى أنثى متعطشة، وينفض غبارا كثيفا خلفته سنوات وسنوات من الممارسات المرتبطة بوظيفة أو هدف.. إنها الآن أنثى تحتفل بأنوثتها.. إنها تريد أن تستمتع وترتوي.. أما جبار فإنه يعتبرها جائزة صعبة المنال حصل عليها في لحظة لن تتكرر، وعليه أن يقوم بالفعل وكأنه المرة الأخيرة.. جسدان لم يهدءا، وإرادتان اجتمعتا على المتعة، وفورة أحالت الجسدين إلى مساحة مفتوحة لمباهج الغريزة، وضرباتها التي تكاد توقف القلب وتفجر الخلايا.. يتحرّى هذا المشهد الإيروتيكيّ استنهاض الرغبة في شخصيّة انتصار والعودة بها إلى الماضي الحسيّ اللذّوي العابر للحدود، فمنحت صديقها القديم جبار الأسود عودةً جنسيّة إلى الذاكرة الحافلة بهذا النوع من الممارسات التي كانت تسير على خطّ الفقر والعوز، لكنّها الآن تجري في ظروف الثراء والبذخ والغنى المفرط، ضمن فعالية تندرج في سياق الانتقام من الماضي الحافل بالحاجة والحلم، ولعلّ الراوي كلّي العلم صاغ هذا المشهد بحساسيّة سرديّة مفعمة بروح التواصل المجرّد من الأشياء كلّها والمخلص لخطاب الجسد فحسب. الحكاية الثالثة هي حكاية شخصيّة (بشار) البعثيّ الذي اختلف مع قيادته وهاجر إلى فرنسا، ثمّ قرّر بعد لأيِ العودة إلى بغداد تحت إلحاح زوجته، وتعرّض ابنته (أمل) للخطف، واللجوء إلى الخاتون لمساعدته في العثور عليها: نظرت الخاتون إلى محمد مستوضحة، فأخبرها بالتفاصيل المتعلقة باختطاف أمـل، وما فعلوه وقاموا به من إجراءات أخفقت في الوصول إلى شيء .. ـ اسمها أمـل وهي ابنة جيراني، واختطفت قرب بيتي.. هذا لا يصح، ولن يكون.. صمتت قليلا، ثم ابتسمت. إنّ تبنّي انتصار لموضوع العثور على أمل المخطوفة واسترجاعها لم يكن سوى مراهنة على قوّتها وسطوتها، وإثبات سلطتها وهيمنتها على الوضع مهما كان صعباً، لذا فحديثها المشحون بالثقة، وإيمانها بقدرة عصابتها على تنفيذ أوامرها وتحقيق ما تريد، إنّما جاء في سياق تمثّل فريد للأشياء تمتّعت به الشخصيّة الاستحواذيّة ضمن رؤية عميقة ومتكاملة، وحتى توظيف طاقة بشار ليقوم بدور المترجم بينها وبين المجندة الأميركيّة المخطوفة لم يكن أكثر من توليد شعور بالمباهاة في تسخير ثقافته وأكاديميته لهذه المهمّة: قبل وصول بشار إلى دارة انتصار ليلا، كانت استدعت كلا من عباس وجبار، وأخبرتهما بشكل جاد وصارم إن أمامهما فرصة لتسوية وضع المجندة الأميركية المختطفة، والحصول على أموال أيضا، وذلك يتوقف على قيامهم بتتبع قضية اختطاف أمـل، وشرحت لهما وضع أبيها الخاص وإمكاناته وعلاقاته، وظروف الاختطاف.. أخبرها عباس بأنهم سيفعلون المستحيل ويجدونها ويعيدونها إلى دارتها، والخاتون ليست بحاجة لتقديم شروحات تسوغ فيها أوامرها أو رغباتها ، يكفيها أن تشير وهم ينفذون.. قالت انتصار إنها فكرت أن توضح أهمية الموضوع ودقته، وهي واثقة من قدرة رجالها على تحقيق ما عجز عنه الأميركيون ورجال الشرطة.. لم تكن تنتظر الحصول على معلومات من المجنّدة يمكن أن تضيف لها شيئاً في إطار وضعها الخاص، وهو ما ينتظم في سياق استكمال الصورة الاستحواذيّة التي عملت على تشكيلها في الاتجاهات كلّها، وربّما تكون الجملة الأخيرة (هي واثقة من قدرة رجالها على تحقيق ما عجز عنه الأميركيون ورجال الشرطة..) خير دليل على رغبتها في تكوين سلطة تتفوّق على سلطة الأميركيين ورجال الشرطة، وتحقيق ما أخفقوا هم في تحقيقه. وفي خضمّ هذا التجلّي النوعيّ الذي تتمظهر فيه شخصيّة انتصار وهي تستحوذ على كلّ ما يحيط بها، تحصل مفارقة سرديّة لم تكن في الحسبان، حين يقتحم الأميركيون منزلها ويتمّ تقييدها وتقييد ضيفها بشار في عملية بدت وكأنّها خارج الفضاء السرديّ: طلبت فنجانين من القهوة، وجلست تنتظر كملاك برئ.. رشقات الإطلاقات الأميركية تضفي على جو المكان توترا يحس به ولا يلاحظه على وجه انتصار أو حركاتها.. وقع خطوات راكضة.. أحد الخـدم يصيح أن الأميركيين على سطح الدارة.. نظرت انتصار من خـلال النافذة، وتمتمت إنهم في الحديقة أيضا.. حاول النهوض، فأجلسته بإشارة من يدها.. نظر باتجاهها، كانت عيناها تحرقان وجهه.. عرف على الفور أنها تفكر في خيانة محتملة.. قال: لست أنا من يعض يدا امتدت نحوه بالخير.. قالت: هذا ما أتوقعه منك.. اقتحم ضابط ومجموعة جنود الصالة.. أوثقوا أيديهما، ووضعوا كيسين أسودين علـى رأسيهما، واقتادوهما إلى الخارج، وأجلسوهما على (نجيل) الحديقة.. غير أنّ عصابتها تثبت مرّة أخرى ولاءها للخاتون وتتمكّن من إجبار الأميركان على إطلاق سراحها، ولاسيّما بعد أن تبيّن لهم بعد التحقيقات أنّها ليست مطلوبة، وكان عليهم إطلاق سراحها بأسرع وقت لضمان إطلاق الأسيرين اللذين اختطفتهما عصابة الخاتون، ضمن عملية تبادل مخطوفين بين الطرفين: درست لجان خاصة نتائج التحقيقات، وتوقفت هذه اللجان عند الطريقة التي سوغت بها انتصار مقترح إطلاق سراحها، ووجدوها متفقة مع المنطق، فمن يعرض نفسه إلى أخطار لا يتنازل عن هدفه.. وعلى الرغم من هشاشة منطق انتصار في إنكـار معرفتها بأفراد العصابة، فإنهم وجدوا أنفسهم في مأزق حقيقي تتوقف عليه حياة عسكري أميركي ومترجم متعاون معهم، فاتخذوا قرار الموافقة على إطلاق سراح انتصار، ووضعها تحت مراقبة مشددة للتأكد من التزام الطرف الآخر بالاتفاق.. جاء الخبـر الخاتـون في بيتـها فقررت العصابة إطلاق سراح أسيريها بعد منتصف الليل.. ما تلبث شخصيّة انتصار الاستحواذيّة بعد إطلاق سراحها أن تعود إلى موقعها وسلطتها وهيمنتها كي نمارس لعبتها في التحكّم بالأشياء، ولم يكن أمامها سوى زيارة أهل بشار لطمأنتهم على مصيره، فضلاً عمّا تحققه هذه الزيارة من بُعد إنسانيّ يُكمل تشكيل الصورة الاستثنائيّة لها أمام الآخرين: استدعت انتصار في اليوم التالي أبا ستار، وطلبت منه مرافقتها إلى بيت أهل بشار.. هناك، تعجبت انتصار كثيرا وهي تنظر إلى وجه أمـل، وتتأمل جمالها، كيف يمكن أن تتحمل عذابات لا تستحقها.. همست في أذنها بأنّ أباها سيخرج قريبا.. توهج وجه أمـل، فاحتضنت الخاتون وهي تقول بأن ذلك سيكون أجمل هدية تتلقاها في حياتها.. كانت نسرين تراقب انتصارا وتقارن بين المعلومات التي سمعتها عنها وبين لطفها ورقتها وطريقة تعاملها مع ابنتها.. قالت نسرين: ـ عندما يخرج بشار سنعود إلى باريس على الفور، فأنا المسؤولة عن كل ما جرى له ولابنتي.. وهنا تتكامل الطاقة الاستحواذيّة لشخصيّة (انتصار) بعد أن سُخّرت كلّ الشخصيات الأخرى لتنوير هذه الشخصيّة، وتمظهر تجلّياتها الفعليّة الإجرائيّة في الميدان السرديّ على المستويات كافة، وكأنّ الرواية بأكملها كُتبت لصالح شخصيّة ظلّت في فصول الرواية كلّها تقريباً مهيمنة وطاغية وفاعلة في مسيرة الأحداث الروائيّة. رواية (الظلال الطويلة) تشتغل ابتداءً من عتبة عنونتها على توسيع الفضاء السرديّ من الفضاء القصصيّ إلى الفضاء الروائيّ، فالحادثة الروائيّة بعنقود حكاياتها المترابطة، وعناصر التشكيل السرديّ الأخرى كالشخصيات والمكان والزمن، كانت تعمل جميعاً في سياق محدود نسبيّاً على نحو يحيل على الفضاء القصصيّ أكثر من الفضاء الروائيّ، إذ كان المجال السرديّ المهيمن على الحراك الفنيّ والجماليّ يسير في أروقة سرديّة متقاربة ومتجانسة كثيراً، لا تسمح كثيراً بتحوّلات كبرى تمتدّ بالحكايات نحو فضاء روائيّ متشابك وغزير، على نحو جعلها تدور ضمن فضاء قصصيّ تتمظهر فيه عناصر التشكيل السرديّ تمظهراً قصصيّاً أكثر منه روائيّ، على الرغم من أنّ شخصيّة (انتصار) تتفتّح على مسارات روائيّة كان يمكن إشباعها بسلسلة من التداعيات لماضيها الغابر بإزاء راهنها المزدهر، وهي شخصيّة سرديّة نوعيّة تكشف الكثير من خبايا المجتمع العراقيّ ما بعد الاحتلال الأميركيّ، وقد عرضها الراوي بطريقة سرديّة عادلة يمكن تلقّيها في مجتمع القراءة بنوع من الحياد، أو حتى التعاطف أحياناً. |