المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
04/03/2016 06:00 AM GMT
عن دار التنوير للطباعة والنشر بيروت صدرت رواية (منازل الوحشة) للروائية العراقية المغتربة (دنى غالي) الطبعة الاولى 2013 م ، حيث نلتقي بكاتبة لم تضع كيانها الأنثوي إزاء العالم بانتظار إيجاد حلول له، إنما راحت تنغمس ككائن انساني يتوقع أن يصادف واقعه بإشكالياته، إشكاليات الخوف مقابل إشكاليات الوحشة، في تقابل فريد ومأساوي ، حيث تعتمد ثيمة الرواية على مكمن الخوف. لا شك أن الروائية دنى غالي تتحمل العبء الأكبر في تضخيم صورة الوحشة وتمديد مكامن الخوف، فهي وحدها التي تعرف بالضبط أين تضع الخوف وأين تجد منازل الوحشة! في الأمكنة الصامتة والمظلمة، حيث أن ثيمة المخاوف آتية من انصرام الماضي الجميل وانحداره إلى الحاضر الطافح بالوحشة للعائلة العراقية التي اختارت الكاتبةعائلة (سلوان) نموذجاً لها، لتفرض عليها فكرة الأثر الامبيريقي في التحول في الزمن مقابل الثبات في المكان، ليكون الزمن مرئياً، إذ تخضع أفراد العائلة (الجد | الجدة | الابنة | زوجها وولدها و طبيب العائلة و زوجة الابن) لجملة اختبارات يمكنها أن تطبق على الفئران والقطط، ليكون سلوك العائلة إلى الموت والانفصال والتغرب والجنون، أي أن الكاتبة وهي تكتب الرواية أخذت بنظر الاعتبار الفاصلة الزمنية التي وضعتها بين عامي (2006ــ 2008) لإدانةمرحلة بعينها يمر بها بلدها الأصلي الذي انسلخت منه مجبرة، فالرواية بالنسبة لرؤيتها عبارة عن استعادة مشوهة لهذا الانسلاخ الاضطراري، وكانت كثيرة التجريب في طرح رؤيتها من زوايا الشخصيات الروائية واضحة تماماً،لتضع نبوءتها في إهدائها للرواية، في تقسيم المساحة الزمنية (ثلاث سنوات) التي استغرقتها لكل سنة (بداية و نهاية و أحياناً منتصف) للتدليل على هيمنة الزمن الذي هوالثيمة المطلقة على عالم الرواية إزاء المكان (بغداد) الواقف، لكنه المتحول(البصرة| العمارة |عمان| دمشق| الشوارع المحيطة ببيت العائلة (مناطق بغداد))وترسم الكاتبة المؤثرات الثقافية لثلاثة أجيال عاشت في المنزل، الجيل الأول الذي كان من حصة الجد، الجيل الماضي الميت، والجيل الأوسط الذي تقع عليه أعباء الحاضرالذي يعيش في كنف الاحتلال الامريكي وضغوطات الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي المتذبذب بين رفاهية الماضي واضطراب الحاضر وقلق المستقبل، والجيل الثالث المشوه والمضطرب الذي يعاني العزلة والمرض والتغرب. ولعل هذا التقسيم في الأجيال قد أعطى للرواية ميزة التجريب، لأننا نرى الكاتبة من أجل الضغط باتجاه تكثيف السرد وجعله ملائما للجو العام المختل تعمد الى خلق شخصيات نموذجية قد نجدها بالضرورة بيننا نحن العراقيين الآن وهي تتأهب للانقضاض على سرد سيرها اليومية في وسط نكد الحاضر وهول المستقبل، والروائية تدفع بالشخصية الرئيسية إلى أتون العزلة التي تلتهب خوفاً وفزعاً من كل ماهو مرئي وغير مرئي وتداري خيبتها بالافراط الزائد بالحرص على ولدها سلوان والهروب معه من الخوف الذي يملأ الرواية بمزيد من العزلة مع أقراص المنوم وشرب الويسكي تدفع بها نحو كل أنحاء الامكنة التي تعطي للزمن بعده المأساوي بحيث تصبح الصورة المضطربة للإنسان في هذا البلد، وهذا ما تريد أن تقوله الكاتبة، وهو الهاجس المفرط الذي ينتابها في عملية المقارنة بين الأزمنة، وبالتالي توجيه الإدانة للاشكالات التي تواجه تساؤلاتها، في كمية الخيبة التي تعصف بعالم كانت تريده أن يكون أجمل لكن لم تجرالرياح بما تشتهي. 1- الراوية ومكمن الاضطهاد الأبوي: لا يمكننا أن ندفع بالتهمة التي توجه للراوية باستغراقها في عالم الأبوية، وطغيان المد البطريركي على مفاصل المكان الذي ترتاده خاصة في زمن الرواية، وإن روح الأب تحفل بالأمكنة و الأزمنة الروائية وتتلاعب بمصائر الشخصيات وتحركها وفق مشيئتها، فلا شك إن وحشة الحاضر كانت نتيجة غضب الأب ورفضه المتغيرات التي قدمت بعد رحيله على تضاريس المكان ففي (بغداد مطلع 2006) حتى (نهاية 2008 ) ظلت هيمنة قبضة الأب واضحة في تقمص الراوية لروحه حيث هي (أتسلل من دون أن يشعر،أزيح الستارة من منتصفها لأحشر نفسي بين طياتها الثقيلة في الصالة بمواجهة الحديقة اليابسة، مازال السياج الخارجي الذي زدنا ارتفاعه بسبب الأوضاع غريبا علي ص 9) وإدارة المشاهد السردية على انها حوادث مستعادة في زمن يتقهقر وهي تحكم خطوات زوجها (أسعد) بين الحضور والغياب بين السجن أو الاختطاف أو الاعتقال بتهمة الشيوعية و الثقافة والأدب والموسيقى والخمر، بين الحرمان من الوظيفة في الجامعة والجنس والمنزل أو العودة المؤقتة إليها، كما تسيطرعلى أوضاع ابنها (سلوان) في مرضه وعزلته وثقافته التي تدهشها حيث تفوق الوصف وتخرق التوقع، في تعامله الفوضوي مع العالم الخارجي و الداخلي، مع المنزل الخرب المليء بالأتربة والقذارات، بحبه للموسيقى الكلاسيك، شوبان وشوبرت والبيانو الذي اشتراه الأب، و أخيراً تعلقه بالأرملة البصرية (أسل) وتتسلى في دوران الدكتور حسام الفلسطيني الأصل المقيم في العراق في فلكها وفلك سلوان حيث يصطدم هؤلاء الرجال بالتحولات المزاجية القلقة والحادة للراوية في اجتذابهم إلى شرك الأبوية وفضح سرائرهم حيث الحرمان الجنسي والاغتراب في الزمان والمكان، والاضطهاد الابوي، فأسعد مثلاً تقصيه بعيدا حيث يقول إنه يعيش على الذاكرة التي تقتحم حياته وتفسد عليه الرؤية الصحيحة الأمور ص196، ويظل سلوان شغلها الشاغل بعد انفصاله عنها وسفره مع أسل إلى دمشق لطبع ديوانها الشعري الذي كتبه هو لها قبل زواجهما، فسلوان كان يريد ان يعثر على نفسه فترك حتى الحبوب - - ( تقول) لم يشأ أن يسمع صوتي خلالها من شأن صوتي أن يضعفه، كان بحاجة الى الاختلاء ، بحاجة أن يسترد طاقته ص 191 لكن موقفها من الدكتور حسام كان الأسوأ، فهي تدرك أنه مثلي فلم تستغرب فضحه من قبل سلوان، وهو ما يفسر الزيارات المتكررة له لمنزل العائلة واختلاءهما بسفر أسعد وعزلة ومرض سلوان لدرجة المبيت في المنزل، فتقول (الراوية عن حسام) : أخبرني أن مقتنياته سرقت من البيت خلال سفراته الأخيرة الى بيروت وهوبحاجة لينسى قليلا ص 198،لكن تعاملها مع المرأتين (أمها وأسل) ظل مختلفاً وهو يقوم على فكرة التراتبية في المفهوم الأبوي من التفاوت الطبقي بينهم خاصة أيام ذاك (عائلة الأب من الخضيري وعائلة الأم من السواعد من العمارة) وتتكرر تلك التراتبية مع الأرملة (أسل) ذات النسب العائلي البسيط في البصرة، بيد إن نظرة الراوية إليهما انتقلت من الأب حيث تراهما لعوبتين أنانيتين مزواجتين وتفضلان الطلاق لأهون الأسباب، ثرثارتين فضوليتين، تتدخلان في شؤون الآخرين، اجتماعيتين وشعبيتين، تسافران كثيراً وتحلان مشاكلهما عشائرياً، تسيطران بفظاظة على أمور المنزل حتى التافهة منها، الأم ظلت بعيدة ولم تتمكن من زيارة المنزل إلا بعد وفاة الأب، ولما عادت جلبت معها الأخرى (أسل) وبقيتا تترددان بكل لجاجة، وانتهت معركتاهما، الأولى في الهيمنة على المنزل و محاولة إعادته لنظافته ورونقه االسابقين بالأمس التليد بتحييد ابنتها بالحاضر، والأخرى بالسفر مع سلوان إلى دمشق لطبع ديوان شعري وتطويح المستقبل الذي يمثله سلوان ورميه في علم الغيب، لكن كل محاولات الراوية في ترميم المنزل وما تهدم من طابقه العلوي (غرفة سلوان التي تحتوي كتبه و موسيقاه واختراعاته و سرياته) واستخراج رزمتي ورق أسعد التي تضم قصصه بفضائحها الجنسية من خزانة سرية في المنزل وترقب عودة سلوان لا يمكنها أن تبعد مكامن الخوف من منازل الوحشة التي تضاعفت ليس في بغداد وحدها، بل بالعالم أجمعه مادام هناك محتل جاثم.
|