المقاله تحت باب منتخبات في
15/06/2015 06:00 AM GMT
في ظل غياب رواية رسمية تشير إلى الكيفية التي أنسحبت فيها القوات العراقية من مدينة الرمادي ، وكيف سلّمت الى أحضان الدواعش ، لا يتبقى لنا غير تداول الإشاعات والتفوهات العارضة ، وقبل ذلك التأويل الطائفي الذي بات يتسيد الساحة السياسية . لم يعد هناك من وصف غير البلبلة التي تضفي على المجاهيل المتكاثرة جوا قاتما وحالة من عدم تصديق لا تتناسب مع حالة حرب وتعبئة. أولئك الذين اعتادوا اقتراف الأخطاء ، اعتادوا "ديمقراطية" الفوضى : الكل يتحدث من حولهم وهم صامتون ، تاركين الأمر الى الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي وقادة المليشيات . بهذا تتضاعف البلبلة بأشباه الروايات ، بإنشاء يحلّ محل الخبر ، بالإسقاط النفسي الذي يحل محل الحقائق والأرقام ، بالصمت المذنب أو تهريج السياسيين والصحفيين والقادة الشعبيين. ولسوف نُتخم بقصص التآمر والخيانات ، ونتخاصم على مجموعة أكاذيب بمجموعة مثلها. لكن غياب رواية رسمية معقولة لا يعدم إمكانية أخرى للسلطة الصامتة، وهي أن تومئ الى جانب محدد من الرواية، أي أن تقوم باستبدال بلاغي للبيانات العسكرية أو تصريحات الناطق الرسمي. هذا ما حدث ، فالقائد السياسي ألقى خطابا غير سمعي وضّح فيه ما هو غير قادر على صياغته بصراحة ، فسافر الى موسكو بحثا عن الأسلحة والتأييد السياسي ، فكأنه قال ، وبأفضل من خطبة عربية عصماء ، إن الاميركان خذلونا في معركة الرمادي! إن أساليب الحرب الباردة تنقسم الى فئتين : علاقات قوى فعلية ممسوكة بيد الأقطاب الكبار، وألعاب الصغار التي تثير الشفقة. هل خذل الاميركان النظام حقا؟ لكن من يصدّق الامريكان يخذل نفسه زيادة على خذلان القيادة السياسية لنفسها في أكثر من قضية منذ تشكيل أول حكومة بعد 2003. على أية حال عوّض خطاب هذه القيادة عن الثرثرة الخطابية بأبسط الطرق ، وذلك بالاكتفاء بركوب طائرة الى موسكو والعودة منها بسرعة ، وكأنه قال : تأخرتم عن نجدتنا فذهبنا الى موسكو . ما دمتم خنتم تعهداتكم لاتلوموننا إذا ما أدرنا ظهورنا . قتلتم "ابو سياف" في عملية نوعية بينما لم تقصفوا أرتال الداعشيين المتوجهين الى الرمادي في العراء! نذكّر هنا أن موسكو كانت قد خذلت النظام السابق ، لكن ما كان هناك أمر تفعله غير هذا ، فعندما لا يستطيع نظام إنقاذ نفسه ، ولا يستطيع تغيير سياسته وعاداته السلوكية لمصلحة شعبه واستقلاله الوطني ، فلن نتوقع أن يبقي له صديقا وفيا الى النهاية . هذا ما ينطبق على النظام الحالي الذي فقد خلال عام واحد مدينتين مهمتين ومساحات هائلة من الاراضي بسبب شذوذه وإهماله . إن بعض الصداقات أكثر كلفة من العداوات! والحال لست أدري كيف يمكن أن ينفع هذا التذكير فرسان الدعوية الرسالية ؟ فقد جاؤوا على ظهور الامريكان ، فراحوا يشهرون بآخرين هللوا لقدومهم ، قائلين أنهم عملوا على تنظيم علاقتهم بالأميركان بمعاهدة مثلت الحد الأدنى ثم غادروا تصحبهم اللعنات ، مع وجود تثقيف داخلي في الحزب وبعض الاوساط يفيد أنهم غضوا الابصار عن المليشيات التي رفعت السلاح ضدهم ! ثمة أقوال صامتة ترتكس قليلا أو كثيرا على نظرية المؤامرة . في الكلام أو الصمت الغامز امتلك سياسيو 2003 معيناً لا ينضب من نظريات المؤامرة يستعينون بها ، لكي يعفوا أنفسهم عن التفكير ، ويحافظوا على القليل من ماء الوجه ، ظاهرين أمام المواطنين بلا ذنوب وطاهري الذيل. لكن الأحداث المشؤومة ، من مثل سقوط المدن ، لها تاريخ موضوعي يشير الى حقيقة لا يمكن إنكارها واللعب عليها وهي أن نفس الأحداث تتكرر ، وأن "المؤمن " يلدغ من نفس الجحر مرتين وثلاث. إن حادث سقوط الموصل نفسه راح يتمشى علنا أمام أنظار حرّاس الرمادي وكرّر نفسه واثقا من أن عدوه ليس سوى هجين طوائفي وعشائري بلا عقيدة سياسية ولا عقيدة قتالية وغاطس في تناقضات شنيعة. تعالوا نتذكر ، فحتى هذه اللحظة ، أي بعد مرور عام على سقوط الموصل ، لا توجد رواية رسمية تصف هذا السقوط الذي لم يطلق فيه جيش الحكومة إطلاقة واحدة . توجد إسقاطات ، اتهامات ، حكايات لا تصدق ، خرافات ، لكن لا توجد رواية رسمية يعوّل عليها. (رفض أبطال 2003 من السياسيين الارستقراطيين الشهادة أمام البرلمان) إزاء ذلك لم نسمع – رسميا - ومنذ ذلك الحين بوجود أخطاء سياسية ، حتى ولا أخطاء في اختيار عسكريين فاسدين ، مع وجود إجراءات إقالة وإحالة الى التقاعد بين صفوفهم . طبعا ما دامت هي معركة بالأسلحة فوحدهم حملة السلاح من يتحمل المسؤولية ، وقليلا أصحاب الرتب العسكرية الذي راح أحدهم يحلف بالقرآن . وبالطبع سينجو سياسي بلا رتبة من المسؤولية حتى إن حمل صفة القائد العام للقوات المسلحة ، وهذا يشمل الجماعات السياسية المتنافسة داخل القوات المسلحة التي حولت الجيش الى حوانيت ارتزاق. في تلك الأيام كان القائد العام للقوات المسلحة في عز نضالاته وغضبه ، فراح يتهم الكرد ورئيس الجمهورية والامريكان بالتآمر عليه شخصيا . الآن ، بعد عام ، وقد سُحب من العجين كالشعرة ، وهدأت جراحاته ، ما زال يحمل رتبتين سياسيتين ، الأولى الأمين العام لحزب الدعوة الحاكم ، والثانية نائب رئيس الجمهورية ، وهو يستطيع أن يفخر أنه صاحب نظرية الحشد الشعبي. ومن المؤكد أنه ما زال يحتفظ برتبة المناضل حتى بعد أن أفرغ خزينة الدولة ، فالمناضلون في العراق اعتادوا تكليف الدولة أكثر مما تكلفه عشرة وزارات . أشير هنا الى مناضل سابق كلفت عنترياته القومية استقلالنا الوطني ! إن رواية حسن نصر الله القائلة إن سقوط الموصل بيد داعش جاء لإفشال التجديد لولاية ثالثة تزيد الطين بلة ، وبالرغم من أنها ضرب من الأخوانيات الطائفية ، بيد أنها تذكرنا بواجب إضافة تكاليف ذلك السقوط الى تكاليف المناضلات التي خاضها رئيس الوزراء السابق والتي أجهزت على خزينة الدولة . لقد توهم الناس عندما تواشج سقوط الموصل بخروج المالكي من رئاسة الوزراء وعدم التجديد لولاية ثالثة ، فاعتقدوا مستبشرين بحصول تغيير في الإدارة السياسية. لكن ظهر أن هذا الطاس من ذاك الحمام ، وتكرر سقوط الموصل في الرمادي . ما الذي حدث في الرمادي من حيث الوقائع؟ وقبله ما الذي تغير منذ سقوط الموصل؟ لاشيء . فالفضائيون الذين أمسك بهم العبادي بعد واقعة الموصل ملأوا جيشه في الرمادي. هذا الجيش اعتاد عدم تسجيل الغيابات حتى لا يظهر هناك تمييز بين الجندي الفضائي غير الموجود والجندي الفعلي الغائب. نفهم من التقرير الذي نشرته "المدى برس" وجود رواية أو روايات لحزب الدعوة عن سقوط الرمادي تشير الى وجود 15 الف مقاتل من القبائل السنية تركوا سلاحهم وفروا من المدينة. نواب الحزب تحدثوا عن خيانات في الجيش وارتباط بعض الضباط بعناصر "داعش"، وبعضهم نقل معلومات "غير صحيحة" الى القيادة في بغداد ، وصدرت عنهم أوامر انسحاب للعناصر المقاتلة من دون علم العبادي، كما أشاروا الى أن بعض الفرق العسكرية في الانبار شهدت غياب اكثر من نصف عددها الحقيقي، مؤكدين أن قادة عسكريين قاموا بإخفاء العتاد والاسلحة التي "تكفي لمعركة تدوم عاماً كاملاً"، ويقال أن "داعش" استولى عليها. حتى الان يبدو أننا إزاء حكايات وأقاويل ما دامت لا تحمل اسما صريحا . لكن تقرير المدى يستند الى شهادة قيادي في حزب الدعوة اسمه جاسم محمد جعفر وصف سقوط المدينة بالأمر الطبيعي ، إذ أن" 70% من أراضيها تحت سيطرة المسلحين، وكان احتلالها بالكامل مسألة وقت". (لاحظوا الواقعية المتأخرة.. أتساءل : من أخّر وصولها كمعلومات عن سلطة كانت تطمئننا بشأن الرمادي؟) . جاء في تصريحات القيادي ما يأتي : - من المفترض وجود فرقتين عسكريتين لا يقل عددها عن 20 الف عنصر ، بينما الموجود كان لا يزيد عن خمسة آلاف.. "هناك فساد وفضائيون وعدد كبير من الجنود غير الملتحقين". - فرّ 12 الف منتسب للشرطة المحلية وترك سلاحه لـ"داعش". وهناك احتمال أن الجيش وباقي التشكيلات العسكرية ترك آليات واسلحة ثقيلة وراءه يوم سقوط الرمادي. - سلحت الحكومة قبل شهر 3 آلاف من مقاتلي العشائر، بعد أن قدمت القبائل قائمة بعشرة آلاف اسم، لم يسلح منهم سوى ربعهم.. و "انسحبت تلك القوات الى الحبانية وتركت السلاح وراءها". ونقرأ عن تصريحات النائب عن حزب الدعوة عمار الشبلي للـ"مدى" :"وصلتنا تقارير من ضباط هناك بان بعض القادة العسكريين لديهم ارتباطات مع المسلحين ونقلوا لهم احداثيات المعارك وما يجري هناك". الشبلي قال أيضا إن بعض تلك القيادات اعطت أوامر "عشوائية" بالإنسحاب، حتى بدون علم القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي. النائب يستغرب من وجود سلاح وعتاد في قيادة العمليات ومقر اللواء الثامن يكفي لقتال "عام كامل" لم يتم استخدامه. في غياب "موقف" رسمي ، من أين لقيادي في حزب الدعوة ، ونائب برلماني عن الحزب ، هذه المعلومات؟ إذا ما عرفا هذه "الوقائع" بعد سقوط الفأس ، فقد عرفا ، أو نتوقع أنهما عرفا ، شيئا قبل سقوط الفأس، وكان من الواجب الاخلاقي والوطني أن يمنعا الكارثة او يقللا من الخسائر. بيد أنها معلومات تغمز طائفيا ، وبهذا فهي تتمم الحذلقات التي نعاني منها بعد كل حادث جلل. ما قالاه ، في النهاية ، هو نفسه ما قيل بعد سقوط الموصل : مؤامرة! ولأنه لم يجر التحقيق في المؤامرة الأولى حتى الآن ، فلن نتوقع أن نعرف شيئا عن المؤامرة الجديدة . نحتاج الى خيالي وملفق مثل الصحفي المصري مصطفى بكري لكي يكسي المؤامرتين بالتفاصيل والاكسسوارات ، لكن كلا من السياسة والصحافة عندنا ينقصهما الخيال ولا ينقصهما الكذب ! إن غوامض سقوط مدينتين سنتين مهمتين بطريقة سهلة بات يغذي حكاية عن تآمر دولي اقليمي لتفليش المنطقة .. لكن تلك حكاية ما زالت تنسج على يد ناسجي الأقدار. ثمة حكاية أخرى في هذا السياق تشير الى أن المالكي الغائب الحاضر كان وراء انسحاب القوة الضاربة الرئيسية .. من يدري؟ لغياب رواية عاقلة أقترح عليكم أن تقرأوا مقالة الزميل مصطفى الكاظمي المنشورة في "المونيتور" والتي تكشف ما حدث في الرمادي بالاستناد الى حقيقة نزوح عشرات الآلاف فرارا من داعش . يعود الكاظمي بنا الى لحظة نزوح 114 ألف من سكان الرمادي حسب بيان الأمم المتحدة ، في 19/4/2015، أي قبل سقوط المدينة بنحو شهر، والتي واجهتها السلطة بالشكوك والنقد ، ثم قامت جماعات ديماغوجية وصف هذا النزوح بـ"حصان طروادة" الداعشي . بسبب الخجل ، وضغط الناس ، تقرر قبول النازحين في العاصمة بشرط الكفيل ، ومحافظة بابل لم تستقبلهم أصلا ، ثم جرى قبولهم بصمت خشية الفضيحة . لقد تشكل موقف يثير الخزي بعد نزوح جماعي لمواطنين التجأوا الى عاصمة بلادهم من خطر خبروه ، فإذا بهم يجدون انعدام الكرم والإنكار والاتهامات. بعد شهر واحد من هذا النزوح ، سقطت الرمادي بيد داعش من دون قتال في 17/5/2015 ، وحدث نزوح آخر ، وتأكدت معلومات النازحين ، وانكشفت السلطة وادعاءاتها. كان هناك شهر تستطيع فيه السلطة أن تتأكد من النازحين بدلا من التشكيك بمخاوفهم ومعلوماتهم - شهر كامل لتستعد فيه وتبادر ، لكنها ظلت تجادل وتداري وتكذب وتغطس في إدارياتها العقيمة وانعدام يقظتها. لا تصف هذه القصة كامل ما حدث في الرمادي .. لكنها قصة قوية ، وقوتها أنها لا تشكك بالنازحين ، ولا تعاملهم الا كمواطنين اختاروا عاصمتهم على العيش تحت مظلة داعش الإرهابية. هذا النزوح غير المداهن داخل الوطن ، يمتلك طاقة رمزية هائلة لم تستخدمه السلطة في توحيد المعركة الوطنية ضد داعش ، بل ظلت عاجزة ، بلا خيال اجتماعي ووطني وإنساني ، تاركة للديماغوجيين الطائفيين من السنة والشيعة مادة دسمة يلوكون بها.
|