المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
06/05/2015 06:00 AM GMT
بلسان بصراوي فصيح "البصرا" تحتفي بي فيالهناءتي.. مساؤكم "حبوبي" قلتُ، في شهادات - روائية سابقة لي في موضوعة الاحتفاء ومبرراتها: تبدو شهادةَ الروائي، في صورتِها الأولى الخدّاعة، وكأنها ما تتطلبه نصوصُهِ من حواشٍ أحيانا. وفي صورتها الثانية، تنشغلُ الشهادةُ بقراءةِ نصوصِ الروائي ومخلوقاتهِ بصورةٍ شفاهيةٍ، وتتكفل بتشريحِ نسجِ الكينوناتِ المتصورةِ للشخوصِ وتفاعلاتِهم، بينما تمنحُ الصورةُ الثالثةُ دورا أخطرَ للشهادةِ، وهو إقرار الروائيُ بماهيةِ أناهِ الناسجةِ، ومساحةِ خريطتِها وتفاعلاتِها وأدواتِها، وتشريحِ بعضِ معالمِ ومسمياتِ مشغلِه، وهذه صورةٌ جديدةٌ، غنيةٌ بالوجوهِ السريةِ لعوالِمهِ وأَبطالِ رواياتِه. هكذا مازلتُ أقرأُ خطابَ الشهادةِ الروائيةِ في صِورِها الثلاثْ، مذُ أضحتْ تقليدا جميلا. في هذه اللحظات الاحتفائية البْصرية اليوم، أشعر وكأنني أقوم برفِّ ذاتي، الريافة ليست ترقيعا أو خياطة فتق، هي علاجٌ بَصْريٌ بارعٌ لكل ما هو تالف مني، علاجٌ تام، من دون آثار جانبية، "طِبْ عَرَبْ"، يأخذ عناصر الدواء من حوادث أزقة هذه المدينة، ثم يمنحها لي بخفَّة ومهارة، فتعود البصرة لي، بصرة ما قبل الخراب، قبل أن تغدو جثة حروب مشوهة، تخطف دموعنا في كل لحظة، لإدامة نوبات رثائها الماكر، نواحها المزمن العقيم، الذي أمسى يجترح ثنائية باطنية خفيَّة، لا يُبصرُ وجهَ طرفها المتكسر على مياه "شط العرب" إلاّ أمثالي، أولائك الذين جرى ضياعهم جملة في أسفل طبقات هذه المدينة. في البصرة، هناك دائما "لا فرق" تتصادم من فرط تداولها، مثلما تتشابك النُشُج من كثرة التعكز عليها، كل نشيج في أزقة هذه المدينة هو اليقطين للسُقماء المنبوذين من أمثالنا، أولئك المرعوبين من ظلهم، المتعثرين بخيبتهم، الهاربين من لوم أنفسهم، لا فرق دائما هنا، بوعي أو من دون وعي، فكل شيء في هذه المدينة لا يكلِّف الردّ عليه أكثر من لا فرق.. لا فرق أن تحمل معنى أو تتبرّأ من كل شيء، أن تغدو ذاتا أو تمسي أقل وثوقا بها، أن تتمسك بدرجة قرابة مع أي شيء أو تُلفظ غريبا، ما من قانون هنا أكثر معنى من لازمة الـ "لا فرق" وضراوة أحكامها. الآنْ، وأنا أُعاينُ البيضةَ الروائيةْ التي خرجتُ منها، أرقب بدهشةٍ كيف تم ترحيلي للمخلوقات والحوادث والمتواليات الحسيّة من خارج السرد الى رحِمه، وأشعر بحاجتي إلى تشريعٍ روائي يُبرِّئ مساحتي السردية من جدوى هذا الترحيل، ومن خشيتي من الاكتفاء بإنصاف هؤلاء، وماهية نظرتي التي اصطادت واجتهدت، وهذا أمرٌ لا ينبغي الاستخفاف به بعد الآن، لابد أن أقر بارتباكي الحسي في موجات الضياع العديدة التي مررتُ بها، لم يعد العقل أعدل الأشياء توزعا بين الناس يا "ديكارت"، العقل، هنا، في هذه المدينة الشطيّة النخلاوية، هو أساس الضياع، بيت الداء المسكون بالجن، النخل الذي "شاص" مبكرا، وبات، في أعنفِ نوباتِ شكوكك يا "ديكارت"، مسؤول على أول ضربةِ معولٍ في فوضى هذه الحواس. كانت أمي، طيلة حياتها تصفني بـ "مْسودَن ومْضَيْع المَشيْتين"، وكلما كانت تستيقظ من قيلولتها القلقة في ظهيرات الصيف الحارة وتجدني منبطحا على الحصيرة وأرسم كعادتي، تهزّ بكفها، وتردد لازمتها الشهيرة التي كنت أرددها معها ساخرا:"مال البلابوش، چِلْ، هِيدْ، بعيونك ملح، لا والحظ الأگشر"، وعلى اثر ذلك يستيقظ والدي فيتحالف معها على الفور، وينحي باللائمة المشفوعة بالغضب علي ويقرعني:"يُبا، چا انت شِنْهي غَضيتك!؟، لا تنام بليل، ولا تنام بنهار، ولكْ حتى لو ملچ من الملايچه، چان هم نامله ساعه ابهالظهيريه، اللي الحْمار بيهه يبول دم"؟. ولكنني لن أنام، أكثر ما كنتُ أكرهه، مذ كنتُ طفلا هو حلول الظهيرة الثقيلة في فصل الصيف، واستسلام أسرتي الجماعي إلى النوم، تحت "اليوشا"، المروحة الهندية الوحيدة المعلقة بسقف الهول، تلك "البنكه" الثقيلة التي كانت بالكاد تدفع الهواء الساخن نحو الجثث الهامدة، مرفقا بضجيج محركها الصدئ، كان أبي، يحرمني من الخروج من البيت في تلك الظهيرات، ومشاركة أصحابي في ألعاب "الگاري، أو السفَّط، أو الطوبه، أو السباحة في النهر الآسن"، فأعكف مجبرا على جلب قلمٍ ودفترٍ مدرسي قديم، أنبطح في زاوية "الهول"، وأشرع برسم أفراد عائلتي النائمين فردا فردا، أرسم أبي أولا، وبجانبه عصا الخيزران التي طالما عاقبني بها، وتركت خطوطا حمراء على ظهري وزنديَّ وفخذيَّ، فأعمد إلى تشويه صورتها، أرسمها بهيئة خرطوشة مدفع، لها رأس ثور ضخم، بقرونه المتفرعة العديدة، ثم أشطر وجه أمي إلى نصفين، نصف بهيئة وجه قطتي الوديعة "ريمه"، وآخر أكثر شراسة من ملامح وجهها الصارمة، ثم أرسم شقيقاتي وأشقائي بهيئة أسماك صغيرة ميتة، وحين أصل إلى جدتي التي لم أكن أميل لها كثيرا، أحدق في وجهها طويلا، ثم أرسمها كما هي، كتلة سوداء "بفوطتها ونفنوفها"، لكنني أضع لها ذيلا طويلا يلتف حول رقاب النيام، وأظافر طويلة معقوفة، ورأس أفعى، من نوع ذات الأجراس، بارزا من فمها الفاغر!. في أزقةِ الحيِ الذي حلَّقتْ فيه أعوامُ طفولَتي، تبزغ الجدّات الطيبات، اللائي تربَّعن على عَرشِ مؤثراتي الحياتيةِ الأُولى، "أم فاخر، وهذه حكايتي معها طويلة، وهنيديّه، وسلهابه، وأم امتاني، وجلعه، وأم محمد عبود، وأم خزعل، كما تشرق الأمهات الحنونات، أمي، وأم رياض، وأم خليل، وأم شهيد، وأم عبدالأمير، وغيرهن كثير، كما يهدر صوت التمرد، أصوات سامي أبو الثلج، وأبي حزامين، وامتاني، وصينخ العبد، وسنافي وغيرهم. أهم جدة مغرية هي أم امتاني، كانت تجلسُ، عصرَ كلِ يومٍ في نهايةِ الزقاقِ، قُبالةَ قِدرِ الباقلاءْ، وكنتُ أحرصُ على تناولِ كاسة باقلاءٍ من قِدرِها الكبيرْ، وأَتنعمُ بشمِ عِطرِها المصنوعِ من "المسكِ والزعفرانِ والقرنفل"، عطرٌ مميزٌ كان ينبعثُ من ثيابِها السوداءِ دائما، كنت أحسب دقائق الظهيرة دقيقة قاسية بعد أخرى منتظرا حلول "العصرية"، لا لكي أشارك أسرتي احتساء الشاي العراقي المنعنع مع "الجرك" وانما لألقف الخمسة فلوس "يوميتي المحببة" وأهرع صوب العجوز الطيبة، جدتي أم امتاني، التي كانت تجلس الى جانب شقيقتها العجوز "جلعه" في أقصى الزقاق. ذات يوم حصلت على يوميتي الشحيحة عصرا كالعادة وعدوت باتجاه الجدة فلم أجدها، لا هي ولا شقيقتها، اندهشت وعدت الى البيت حزينا، سألت أمي عن سبب اختفائها فأجابتني ببرود: اذن ذهبت لزيارة ابنها امتاني. ولكن من هو امتاني!؟، حملت جواب أمي الذي بدا وكأنه ليس جوابا وسألت أبي فأجاب: انها تذهب برفقة شقيقتها جلعه الى سجن نقرة السلمان من حين لآخر لزيارة ابنها، شيوعي ومعتقل هناك!. ازدادت حيرتي وتلبسني الاندهاش من جواب أبي الذي بدا أكثر تعقيدا من جواب أمي بعد أن أضاف عليه "نقرة السلمان والشيوعي"، فاندفعت صوب شقيقي الأكبر لفك ألغاز هذا الطلسم. كان أخي محافظا، غير ميال للسياسة ومخاطرها في ستينيات القرن الماضي، ولذلك بدا متضايقا من أسئلتي والحاحي، لكنه لم يجد بد من اجابة طفل عنيد مثلي، قال: امتاني شاب طيب ويحمل أخلاق عالية، ولكنه انتسب الى حزب سياسي اسمه الحزب الشيوعي العراقي، وهذا الحزب تحاربه الحكومة وتمنعه من ممارسة نشاطاته... "يعني اشلون يا الهي... بابا انت صغير، اترك هذه الأسئلة وانتظر ام امتاني لحين عودتها...". بعد عودة الجدة شعرت بفرح غامر ورحت أحاصرها بأسئلتي المتشابكة عن امتاني ورفاقه المعتقلين معه والحزب الشيوعي وسجن نقرة السلمان، وكانت تجيبني بلهحة بصراوية عماراتيه محببة عن مشاهداتها خلال رحلتها الشهرية للأحياء والقرى والصحراء والسجن وحياة المعتقلين ونضالهم. كنت أطالبها ببراءة طفل ان تحمل سلامي الى "عمو امتاني" الذي أوقد في مخيلتي شعلة السياسة من وقت مبكر، فظلت كلما تعود من رحلتها المضنية تشمني وتقبلني وهي تردد:"هاي بوسه وشمه من امتاني حملني ذمه". مُذْ ذلكَ الوقتْ اكتظتْ مُخيلتي بغرابةِ ودهشةِ عشراتِ المفرداتِ الصاعِقةِ: صحراءُ السَماوةِ، والسجونْ، والمعتقلاتْ، والتعذيبْ، والنضالْ، وعِشقِ الوطنْ، والشيوعية، والحرسِ القومي والانقلابات!. تحترق البصرة بلا نيران ولا دخان. فتأريخها الطويل كان يحترق بصمت دائماً، إنها رأس إبليس، لا يعرف أسرارها إلا السابقون وحفدة نساكها ومواليها وصعاليكها، ولا يدرك طعمها إلا أبناء ملحها و"شرجيتها" وعسر مائها. هناك صورتان بصريتان تسللتا الى "فوبيا"، الصورة الأولى، جملة يقولها شاب مغترب، يعود للبصرة بعد غياب طويل: - الشاب: كارثة بشرفي، مدينة اشطولهه اشعرضه، صارلي نص نهار دايح بيه، أدوّر على بطل عرگ!.. ، ماكو هيج كارثة بشرفي!. الصورة الثانية عن مكتبة أسسناها في فورة الحراك السبعيني وانتهت بقرار مديرية أمن البصرة. - الجلاد: ولك علينه قشمر؟، اعترف - الشاب، (يحمي رأسه بكفيه): آاااخ، والله، كتب اشتروهه من السوك - الجلاد: (يصفعه مرددا): اطرااااك، انجب ولك، كتب، احجيلي من البدايه طرطرور، (اطراااك) - الشاب، يحمي جسده: آاااخ، حاضر، حاضر، فد يوم كعدنه ابكهوه - الجلاد: (اطرااااك)، منو ومنو، واشكم واحد؟ - الشاب: سبعة، خمسة، تسعة، يمكن ثمانية - الجلاد: (اطرااااك)، لك هي حزوره، ابن ال... (اطراااك) - الشاب: آاااخ، ثمانية، ثمانية، أي بس تسعة - الجلاد: يعني اجتمعوا مووو؟، يعني هيئة تحضيرية، مؤتمر تأسيسي، القيادة العليا، كمّل، اطراااك - الشاب، آااااااخ، والله بس كعدنه، اتفقنه كل واحد يدفع درهم، كل أسبوع، ايه كل أسبوع - الجلاد: شفت؟، هذا بدل اشتراك، كمّل (اطرااااك) - الشاب: آاااخ، ايه، وخليل، خليل صديقنه هوه صار مسؤول على شراء الكتب، ايه الكتب - الجلاد: هااا، خليل، خلاوي أبو الخل، هذا القائد المؤسس مالكم موو؟، كمّل، (اطرااااك) - الشاب: آااااخ، ايه هوه يجمع الدراهم ويشترينه كتب، بعد ما نتفق عليهه - الجلاد: (اطراااك)، وانتم منو؟، اشسميتو حزبكم فدوه؟، (اطراااك) - الشاب: آاااخ، مكتبة، هيه مكتبه - الجلاد: هااا، حزب المكتبة العراقي، تقدمي مووو، ليبرالي لو اسلاموي، كمّل، (اطرااااك) - الشاب: آااااخ، ايي، ايه، والله بس كتب، بس كتب - الجلاد: (اطراااك)، اسكووووت كلب، عميل، خائن، اعترف منو كان يدعمكم؟، يا دولة اتمولكم؟، اشكد عدكم اسلاح، ووين خافينه؟، اشكم عملية سويتوا؟، أريد أسماء الجناح العسكري مالكم؟، (اطراااك)، اعترف - الشاب: آااااخ، ايه أعترف، اعترف، والله بس كتب - الجلاد: اسكت، انتم تتآمرون على الوطن، انتم جزء من المخطط الامبريالي الصهيوني، (اطرااااك).... - الشاب: نتمادى في أحلامنا الطرية، وهم يتمادون في طغيانهم، نحلم، نعشق، نحب، وهم يتجبرون.. لكنهم كانوا يخشوننا، يخشون حلمنا، تحولنا إلى فئران كتب، ورحنا نستنسخ ونقرأ، نستنسخ ونقرأ سرا، نستنسخ ونحلم... نستنسخ و... ننتظر. أختتمُ شهادتي بخاتمة روايتي "الذباب والزمرد": أصبحت حراً منذ الآن، منذ انسحابي المخزي من حلبة قلب الأشياء، من ذلك الخلو الذليل القابع بين مزدوجين لا يحميانه من أف. سأحتفل بشفائي إذن بعد انتهاء عقوبة المواطنة الصالحة، أو ما أطلقُ عليها أحيانا عقوبة عشق البلاد، بلادي التي أكرمتني القميص!
شهادة روائية ألقاها الروائي "العبيدي" في جلسة الاحتفاء به التي نظمها ملتقى جيكور في البصرة، جنوبي العراق يوم 30 نيسان 2015
|