الروائي عبد الخالق الركابي :عندما تغدو الأسطورة تقنية تكسر الإيهام بالواقع |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات حوار
(غالباً ما تثير أعمال الروائي الكبير عبد الخالق الركابي عراب الرواية العراقية، كما يحلو للكثيرين أن يدعوه، الجدل الدائم في الأوساط الأدبية والثقافية، وتحوز أفضل التقويمات بوصفها أعمالاً تتناول سيراً وأحداثاً لا يمكن أن تمر بدون أن يكون لها تاثيرها الكبير الذي يستحق التسجيل والتدوين.
في مسيرته التي تعج بالكثير نقف لتصفح التاريخ الابداعي لهذا الروائي الذي غدا علامة بارزة في سفر العراق وتاريخه الحديث، فهو الذاكرة الحية التي تؤرشف لأحداث الماضي والحاضر بكل ما فيها، فيضعها بين يدي القارئ ليجعله يتيه في ثنايا القص بعيداً عن السفسطة والحشو.. فلكل حدث مساحته في السرد، وكل مرحلة من تاريخ العراق تناولها بأسلوب خاص في رواياته.. معتمداً أرشيفه الخاص ومخطوطاته وقراءاته التي هيأتها له مكتبته العامرة بآلاف العنواين... (المأمون) كانت في ضيافة الركابي ليحدثنا عن سفر أوجاعه التي انعجنت بآلام العراق، فكانت أعمالاً إبداعية كبيرة اتشحت بها مسيرته الطويلة). 1 - بدأتَ حياتك الأدبية شاعراً وأصدرت مجموعة شعرية بعنوان (موت بين البحر والصحراء)، بعدها انتقلتَ إلى كتابة القصة القصيرة والمسرح والرواية: فاصدرت روايتك الأولى (نافذة بسعة الحلم). وتوالت اعمالك الروائية فأصدرت (من يفتح باب الطلسم) و(مكابدات عبد الله العاشق) و(الراووق) و(قبل أن يحلق الباشق) و(سابع ايام الخلق) و(أطراس الكلام) و(سفر السرمدية) و(ليل علي بابا الحزين)، فضلاً عن مجوعة القصص القصيرة (حائط البنادق) ومسرحيتيك (نهارات الليالي الألف) و(البيزار)، لماذا هذا التحول من الشعر الى الرواية إلى القصة القصيرة إلى المسرح؟ • للجواب على هذا السؤال هناك جانبان موضوعي وذاتي, أما الجانب الأول فيتعلق بفترة زمنية تسيدت فيها الساحة الثقافية "موجة صاخبة" من الشعراء (بحسب عنوان كتاب الصديق الشاعر سامي مهدي)، تمثلت بعدد من الشعراء الذين اشتهروا على مستوى العراق والوطن العربي ولاسيما بعد اصدارهم مجلة بعنوان (الشعر 69) التي تصدرها البيان الشعري والذي حمل أسماء فاضل العزاوي وسامي مهدي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم. من هنا كان محكوماً على تجربتي الشعرية المتواضعة التي كانت لا تزال في بدايتها بأن تدرك حجمها الحقيقي فتضمر. هذا ما يخص الجانب الموضوعي، أما ما يخص الجانب الذاتي فقد مارست الشعر على الطريقة التقليدية المعروفة وأنا طالب اعدادي ليحصل عندي التحول عند التحاقي بالجامعة (إذ كان السياب ملء الأسماع والأبصار)، فأخذت اكتب على طريقة شعر التفعيلة، وكان أن نشرت لي مجلة الآداب البيروتية آنذاك أولى قصائدي، وكان النشر في هذه المجلة يعد انجازاً متقدماً ولا سيما لشخص مثلي لم يتخط مرحلة دراسته الجامعية بعد، لكن الغريب أن هذا الحدث الذي ملأني نشوة دفع بي إلى التوجه إالى المكتبة المركزية التابعة لجامعة بغداد لاستعارة عدد من الكتب والانصراف إلى قراءتها بشكل جدي، فهل تظنونني اخترت دواوين شعرية انسجاماً مع نشر قصيدتي؟ أبداً... فقد تمثّلتْ المفارقة بأن ما استعرته يومذاك اقتصر على الكتب المعنية بالرواية، ولا أزال أتذكر أن ابرز تلك المجموعة المختارة من الكتب كان كتاب (القصة السيكولوجية) لليون إيدل ترجمة د. محمود السمرة، فضلاً عن إحدى روايات دستويفسكي وأظنها كانت (الجريمة والعقاب)!..... إنها لمفارقة حقاً هذا الذي حصل، ولعل اللاوعي هو الذي قادني إلى ذلك الإختيار، فأيقظ الروائي الكامن في داخلي! 2ـ في أحد لقاءاتك الصحفية تقول: (إن رواية "نافذة بسعة الحلم" ورواية "من يفتح باب الطلسم؟" تبقيان من أفضل رواياتي)... هل يعود ذلك لاستخدام "الكثافة الزمنية " في الأولى و"الأسلوب الملحمي" في الثانية؟... نريد توضيحاً لهذه التقنية في العملين. • من المؤكد أن الصحيفة التي نقلت عني هذا الكلام قد جانبت الصواب تماماً؛ ذلك لأن هاتين الرواتين تمثلان على التوالي الرواية الأولى والثانية في تجربتي الروائية؛ وبذلك فهما مثقلتان بكل مثالب الدخول في عالم جديد على جانب كبير من التعقيد مثل عالم الرواية. أما سؤالكم عن الكثافة الزمنية والأسلوب الملحمي فيبدو أن هاتين التقنيتين كانتا وليدتي زمن كتابتي تينك الروايتين: ففيما يخص رواية (نافذة بسعة الحلم) فقد كنت آنذاك رازحاً تحت تأثير رواية عظيمة تتداولها الأيدي وهي رواية "فوكنر" "الصخب والعنف" التي كان جبرا إبراهيم جبرا قد ترجمها منذ أعوام، دون أن أنسى رواية فرجينيا وولوف "إلى المنار" التي ظهرت مترجمة آنذاك - أظنها كانت بترجمة شفيق مقار - ضمن سلسلة "روايات الهلال" المصرية. كما كنا نقرأ آنذاك الكثير عن رواية محورية لم تكن ترجمت بعد إلى اللغة العربية وهي رواية جيمس جويس "يوليسس"، وهكذا كان من البديهي التأثر بهذه التقنية التي تتمحور حول تكثيف الزمن الروائي، فكان أن جعلت زمن (نافذة بسعة الحلم) نهاراً واحداً مقسماً إلى ثلاثة أقسام هي (الصباح) و(الظيرة) و(المساء) يستعيد الشخص المحوري فيها حياته كلها التي سبقت فاجعته. أما رواية "من يفتح باب الطلسم" فقد جاءت على النقيض من الرواية الأولى: فضفاضة غير معنية بالزمن الآني قدر اهتمامها بالحقبة التي جرت فيها الأحداث. إنها تنتمي إلى ما يسمى بـ(الرواية النهر) حيث الأحداث تتلاحق تلاحق المياه المتدفقة في النهر، وهي بذلك وليدة تأثري بالرواية السوفيتية آنذاك ولا سيما رواية شولوخوف (الدون الهادئ) التي ترجمها علي الشوك وزملاؤه فصدرت بأربعة أجزاء، وقبلها رواية تولستوي العملاقة "الحرب والسلم" التي صدرت بدورها بأربعة أجزاء. 3ـ سبق لرواية (سابع ايام الخلق) أن ترجمت إلى اللغة الصينية ضمن مشروع الإتحاد العام للكتاب العرب باختيار افضل مئة رواية عربية كتبت في القرن العشرين، ثم ترجمت إلى اللغة الإيطالية وأخيراً إلى اللغة الإنكليزية، فضلاً عن أنها حظيت منذ صدور طبعتها الأولى سنة 1994 وحتى طبعتها الرابعة سنة 2012 بأكثر من مئة دراسة نقدية - ضمنها كتابان مستقلان ألّف أولهما د. قيس كاظم الجنابي، والثاني الأستاذ حسن كريم عاتي، فضلاً عن رسالة ماجستير لم تطبع بعد للدكتورة ماجدة هاتو المالكي - كيف ترى انت هذه الرواية؟؟ • أضيف إلى الكتب والأطاريح المذكورة عن (سابع ايام الخلق) أطروحة دكتوراه باللغة الإنكليزية للدكتور زيد ماهر بعنوان (بين مأزق التاريخ ومنفذه: دراسة مقارنة لرواية "المحرقة الشاملة" لروبرت كوفر و"سابع أيام الخلق" لعبد الخالق الركابي) وقد نوقشت هذه الأطروحة منذ أعوام في مدينة كولمبيا ولاية مزوري الأمريكية، كما سجلت مؤخراً إحدى الباحثات في جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد اطروحة دكتوراه عن الميتاقص في تلك الرواية فضلاً عن روايتي الأخرى التي تجري في هذا السياق. أما عن رؤيتي لهذه الرواية بعد مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة على صدورها وطباعتها أربع مرات فقد سبق لي أن تطرقت إليها أكثر من مرة ضمن مشروعي الروائي: فهي تمثل النقلة الأساسية التي حلمت بها مطولاً؛ فجاءت في هذا السياق الذي أراه يرضي طموحي كثيراً؛ ذلك لأنني حاولت أن استثمر فيها شغفي بالتراث - ولاسيما الجانب العرفاني منه - دون أن أغفل عن انتمائي إلى واقعي الفكري المعاصر، وهكذا حاولت أن أحقق فيها حلماً طالما راودني تمثّل بتقديم نص يطمح إلى أن يستلهم بساطة كتاب (ألف ليلة وليلة) وسحره مع تعقيد عالم التصوف بما ينطوي عليه من رياضات ومجاهدات وحروفيات سعياً مني إلى كسب المتلقي البسيط المأخوذ بسحر الحكاية فضلاً عن المتلقي المعني بالجوانب الفكرية والفلسفية... ذلك ما طمحت إلى تحقيقه دون أن أعني بذلك أنني نجحت في طموحي ذاك أم لم أنجح. 4ـ يرى النقاد أنك بلغت في روايتك (سابع ايام الخلق) إلى مستوى الأعمال الإبداعية المتميزة على الصعيدين الخاص والعام. والرواية بعد ذلك هي نوع من الأعمال التي تعادل حياة، وهي أيضاً رواية بحث عميق في المعرفة الشرقية ودقائقها، تمتع هندستها بعمليات خلق مرئية وغير مرئية.. هذه الرواية كتبت سنة 1992 ، وطبعت سنة 1994، ووزعت سنة 1997، وهذه الفترة بين الكتابة والطبع منحتك كما قلت في احدى المقابلات، فرصة اعادة النظر في النص اكثر من مرة وهو امر لم يحصل في اعمالك الاخرى؟ • تبقى رواية (سابع أيام الخلق) أثيرة لديّ؛ وذلك لكونها مّثلتْ النقلة الأساسية في فهمي للرواية المعاصرة؛ فقد جاءت هذه الرواية نتيجة تشبّع عميق بالتراث العربي الإسلامي؛ إذ إنني في واقع الأمر أطمح، منذ فترة مبكرة، إلى تبني الأساليب التراثية في كتابة رواية معاصرة سعياً مني لترسيخ سمات تضفي على الرواية جمالية خاصة تزيد الأساليب المطروقة تنوعا وثراء. وأنا هنا لا تفوتني الإشارة إلى أنه سبق لأكثر من روائي عربي أن استلهم التراث - أساليب المتصوفة، السير الشعبية، المقامات، الحكاية العجائبية، قصص الشطار والعيارين...الخ -ـ وكانت المحصلة نماذج روائية متميزة بطابعها الخاص، بيد أن هناك روايات أخرى لم تستطع البرهنة على نجاحها في معالجتها الإبداعية تلك؛ فأقصى ما تحقق فيها توقف عند استنساخ الأساليب التراثية وإحالتها إلى قوالب صبت فيها مضامين روايات غلب عليها الجانب الشكلي، فأضحت رتيبة، غير مقنعة، مما أفقدها التواصل مع القارئ المعاصر لكونها أدارت ظهرها له وانحازت إلى الماضي وحده. إن استلهام التراث لا يعني الوقوع في أسره باستنساخ أسلوب الجاحظ أو التوحيدي أو الحلاج أو النفري أو ابن عربي... الخ، بل يعني استقراءه وتمثله وصولاً إلى صيغة فنية تحمل خصوصية الذات العربية الإسلامية دون التفريط بحداثة هذه الذات ومعاصرتها. حاولت في هذه الرواية استلهام كتب التراث بجانبيها الرسمي والشعبي: فإجلالي لمؤلفات الجاحظ والتوحيدي مثلاً لم يحل بيني وبين شغفي بألف ليلة وليلة وسيرة سيف بن ذي يزن. كما أن استلهامي لكتب المتصوفة - المواقف والمخاطبات، وكتاب الطواسين، و منطق الطير، و حكمة الإشراق، و الفتوحات المكية، وفصوص الحِكَم، والحكمة المتعالية، والمبدأ والمعاد - لم يمنعني من عشقي حكايات الشطار والعيارين. إلا أن المشكلة التي جابهتني تمثلت بأن عملية القراءة هي غير عملية الكتابة؛ فما يسهل التوفيق فيه في الأولى قد يغدو أمراً غير ممكن التحقيق في الثانية؛ إذ في الوقت الذي أستطيع أن أشغف فيه بقراءة حكاية (الحمال والبنات) في كتاب ألف ليلة وليلة إلى جانب شغفي بفصل (في معرفة الحروف) من كتاب الفتوحات المكية، فأنه لا يسعني الجمع بينهما في نص كتابي واحد؛ فهنا يستحيل علي التوفيق بين الحكاية الشعبية بتلقائيتها وبساطتها، والنص العرفاني باصطلاحاته الصوفية الصارمة. كان لا بد لي من الوقوع على مصدر ثالث يوفق بين ذينك القطبين المتنافرين، وقد تمثل هذا المصدر بكتاب (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) لعبد الكريم الجيلي، إذ يعمد هذا العارف الكبير إلى تطوير بعض أفكار ابن عربي-ـ ولاسيما فكرة وحدة الوجود التي أثارت الكثير من اللغط-ـ مضفياً عليها المزيد من خياله الخلاق، ليتوصل بالمحصلة إلى أن السالك طريق العرفان يمر بثلاث مراحل في عروجه صعوداً قبل أن يفنى في الحق، وهذه المراحل هي: إشراق الأسماء، وإشراق الصفات، وإشراق الذات. وفي الوقت نفسه يتنزل الحق ليلتقي بذلك السالك ماراً بدوره بمراحل ثلاث هي: الأحدية والهوية والإنية. وقد شفع الجيلي تلك المراحل الست - صعوداً ونزولاً - بشروح مسهبة أنا هنا في غنى عن التطرق إليها؛ فما يهمني إيضاحه هو إظهار كيفية استثمار تلك الأفكار روائياً. كان عليّ منذ البدء ألا أنسى أنني روائي معاصر ولست عارفاً يستلهم المعرفة (اللدنية) من مصدر غيبي، فكنت ملزماً بإبعاد ذلك الجاني الميتافيزيقي المتعلق بالحق والخلق مستبدلاً به علاقة الروائي بشخصياته الروائية: فهو بدوره (خالق) شخصيات من خياله تعيش وتتنفس في (كون) حروفه وكلماته المحصورة بين غلافي روايته. وهكذا تبلورت لدي (ثيمة) روائية تستند في خلفيتها إلى فكرة الخلق. تتألف رواية (سابع أيام الخلق) من قسمين أساسيين يتفرعان إلى ثلاثة عشر قسماً ثانوياً على امتداد فصول الرواية. يتكون القسم الأول من حكاية إطارية تحمل عنوان (كتاب الكتب) تتوزع إلى سبعة فصول، يتكرر في أولها ذلك العنوان، يعقبه عنوان فرعي باسم حرف من حروف الأبجدية تشكل بمجموعها في ختام الرواية اسم (الرحمن). ولهذا الاسم موقع خاص لدى المتصوفة؛ إذ إنهم يقولون إنه قبل البدء بخلق الكون كانت الأسماء الالهية موجودة بـ(القوة) فرجت الله سبحانه وتعالى أن يوجدها بـ(الفعل) فرحمها، وعن طريق اسم (الرحمن) أوجد الكون. يتمحور موضوع هذا القسم حول معاناة الروائي في خلق روايته وذلك بالوصول إلى الصيغة الصحيحة والكاملة لمخطوط باسم (الراووق) اعتوره الكثير من التزييف والحذف - بحسب الأهواء والمصالح والمشارب - على مدى قرون. أما القسم الثاني من الرواية فيمثل المتن الحكائي، وموضوعه مضمون مخطوط (الراووق). ويتألف هذا القسم من ذينك المعراجين الصوفيين الذين سبقت الإشارة إليهما: أولهما عروج الشخصيات الروائية صعوداً نحو المؤلف، وثانيهما تنزل المؤلف هبوطاً نحو الشخصيات الروائية، ليحقق الطرفان وحدتهما بـ(الفعل) في الرواية بوساطة الحروف والكلمات. وقد تمكنت من تجسيد عمليتي الصعود والنزول بطريقة (الإسناد( التراثية المعروفة: فالصعود يبدأ بأول رواة المخطوط، في حين أن النزول يبدأ بسادس الرواة، فمتن المخطوط في عملية الصعود يبدأ بالصيغة الآتية: (حدثني شبيب طاهر الغياث في ما كتب به إلي قال: وجدت بخط ذاكر القيم عن بعض القيمين على المزار عن السيد نور قال: سمعت عذيب العاشق قال: سمعت مدلول اليتيم قال: سمعت عبد الله البصير قال: .......) أما متن المخطوط في عملية النزول فيبدأ كما يأتي: (حدثني شبيب طاهر الغياث في ما كتب به إلي قال.....) وهكذا تتكرر هذه الصيغة في مفتتح كل فصل من فصول المتن، حاذفاً في كل مرة اسماً من أسماء الرواة - في عملية الصعود - ومضيفاً اسماً من أسماء الرواة - في عملية النزول - ليحقق الطرفان وحدتهما في سفر النون من الحكاية الإطارية، وذلك ما سأتطرق إليه لاحقاً. ولكون رواة عملية الصعود يمثلون الشخصيات الروائية فقد جاء أسلوبهم في سرد الأحداث "شفهياً" يدور حول "مطلق" بطل الرواية المحوري.. في حين أن رواة عملية النزول يمثلون أقنعة للروائي، فجاء أسلوبهم في سرد الأحداث "كتابياً". تلك هي أبرز خطوط الرواية، وثمة عشرات من الأمور التي لا يسعني ضيق المجال ذكرها. إلا أن ما يهمني الإشارة إليه في هذا الموضع هو أن أحداث الرواية تجري في مدينة خيالية مفترضة تحمل اسم "الأسلاف" أتتبع تاريخ نشوئها من قرية صغيرة إلى مدينة معاصرة تضج بصخب قاطنيها، محاولاً أن أجعل منها رمزاً لمدن العراق كلها؛ فهناك أكثر من سوق وشارع يشبهان أسواق بغداد وشوارعها، فضلاً عن وجود مواضع أخرى تكاد تنسخ مواضع من بعض المدن العراقية المعروفة مثل الموصل والبصرة وكربلاء وواسط وأهوار العمارة بالإضافة إلى مدينتي الصغيرة "بدرة". كما أن "مطلق"، بطل "السيرة الشعبية"، يمر على امتداد حياته بأطوار متعاقبة حاولت بها اختصار تاريخ البشرية: فهو في البداية يقترن بالإنسان الأول وتوزعه بين محوري الخير والشر الذي يحسم بخروجه من جنة "الأمان" إلى جحيم "القلق"، أي أن نعيمه وجحيمه يبقيان حالتين وجدانيتين أكثر من كونهما واقعين ماديين. وكذلك الأمر معه حين يمر بدور قابيل و هابيل؛ فقد جسدت الأمر بانتصار حرفة الزراعة على الرعي. وهكذا تستمر التحولات: الطوفان والقحط و وباء الطاعون، إذ بعده يغدو "مطلق" بشراً سوياً كالآخرين، فيموت تاركاً للرواة من بعده مهمة تأليف سيرته التي تظل تنمو على مدى مئات السنين، يضيف الرواة عليها ويحذفون منها بقدر ما تسعهم مخيلتهم - شأن رواة كتاب ألف ليلة وليلة - لتغدو في آخر الأمر نصاً مفتوحاً لا يعرف التوقف عند حد، وتتعدد نسخه بعدد كتّابه - وإحداها رواية سابع أيام الخلق نفسها - مستثمراً في ذلك فكرة عرفانية على جانب كبير من الأهمية في الفلسفة الإسلامية وهي فكرة "الكمال والنقص" التي تطرق إليها ابن عربي في موسوعته الكبرى الفتوحات المكية غير مرة، فعد العلم بالكمال والنقص في الوجود النوع الرابع من علوم المعرفة، قائلاً في ذلك: "اعلم أن كمال الوجود وجود النقص فيه، إذ لو لم يكن لكان كمال الوجود ناقصاً بعدم النقص فيه"، وذلك ما يعقب عليه أحد المفكرين العرب المعاصرين بقوله: " من كمال الإنسان إذن أن يعلم عجزه وفقره إلى الله...وكمال العالم يتطلب وجود النقص فيه حتى تتحقق حكمة الله في الكون". لقد أفادتني هذه الفكرة في فصول الحكاية الإطارية (كتاب الكتب): فحروف اسم "الرحمن" السبعة تمثل لدى المتصوفة الصفات الثبوتية السبع (السبع المثاني): فالألف من اسم "الرحمن" يرتبط بصفة الحياة - وكذلك الأمر في فصل الرواية الذي يحمل ذلك العنوان: ففي أثنائه تسري الحياة في الشخصيات الروائية - وحرف اللام يقترن بصفة العلم - وفي ذلك الفصل يجري تأكيد علم المؤلف بأحداث روايته - وهكذا الأمر مع بقية الحروف: حرف الراء وصفة القدرة، وحرف الحاء وصفة الإرادة، وحرف الميم وصفة السمع، وحرف الألف المحذوفة وصفة البصر، لتنتهي بحرف النون واقترانه بصفة الكلام؛ إذ آخر أسفار "كتاب الكتب" الذي يحمل عنوان "سفر النون" ليس أكثر من صفحة بيضاء، وكأن ذينك المعراجين اللذين تداخلت فصولهما على امتداد صفحات الرواية يتوحدان في تلك الصفحة البيضاء "الناقصة" التي تستدعي التدوين والتسطير. 5- كتب الدكتور مهند يونس عن (سابع ايام الخلق) في مقال له: (في سابع ايام الخلق هناك بحث لاينتهي، وهناك رواية داخل أخرى ولكن بتقنية خاصة تختلف كثيراً عن روايات أخرى من هذا النوع ونذكر في هذا المجال رواية جيد "مزيفو النقود" حيث نعثر من بين الشخصيات على كاتب روائي يكتب روايته المستقلة داخل رواية جيد الكبيرة..) هذا الأسلوب يطلق عليه النقد بـ(التداخل الاندماجي).. حدثنا عن هذه التنقية؟ • تنتمي رواية "سابع أيام الخلق" إلى تقنية ما باتت تعرف بـ"ميتافكشن" أو ما وراء الرواية أو الرواية النرجسية، وهي تقنية روائية تسعى إلى كسر الإيهام بالواقع والحرص على "تأمّل" الروائي لروايته أثناء سعيه إلى إنجازها، إنها طريقة في الكتابة قد تبدو على غرار ما سعى إليه المسرحي "برشت" الذي حاول كسر القوانين "الأرسطية" والعمل على ازاحة الحدود بين خشبة المسرح والجمهور. والحقيقة أن هذه الظاهرة قديمة قدم عمل "ثربانتس" "دون كيخوته" ولاسيما في الجزء الثاني منه حين يعمد المؤلف إلى مناقشة عمله في الجزء الأول. في ما يخص دراسة د.مهند يونس عن الرواية فقد خصها بأربع دراسات أخرى تشكل موضوع كتاب كامل لو قيض له تجميعها، والدكتور مهند يونس، كما هو معروف، قضى عشرة أعوام كباحث في "السوربون" في باريس حصل على أثرها على دكتوراه الدولة بدراسته المعمقة لرواية بروست (البحث عن الزمن المفقود)، وقد تناول روايتي بشكل متفرد حتى أنه خص إحدى دراساته بـ(ما الذي جرى في كواليس سابع أيام الخلق) وبذلك فاجأ المتلقي بدراسة جانب من الرواية كان غائباً عنه شأن أية مسرحية تعرض على المسرح أمام انظار المشاهدين الذين يجهلون عادة ما يجري في الكواليس.
6- الا ترى أن هذا النوع من الروايات تقترب من تجربتك مع تجارب عربية أخرى كتجربة الروائي المصري جمال الغيطاني في روايته "الزيني بركات" وتجربة الروائي المغربي سالم حميش في روايته "مجنون الحكم" وهي تتحدث عن فترة حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وهي شخصية مثيرة للغرابة والتنوع والفرادة، ورواية حميش الاخرى "العلاّمة" عن ابن خلدون التي فازت بجائزة نجيب محفوظ.. ألا ترى اقترابك او مجاورتك من هذه الاعمال؟ • كما سبق لي أن تطرقت إلى ذلك في اجابتي عن أحد أسئلة هذا الحوار: تعد تقنية "الميتافكشن" إحدى التقنيات الأساسية على مستوى الرواية العالمية المعاصرة؛ وبذلك لا يتطلب الأمر مني التأثر بهذا الروائي أو ذاك لأكتب روايتي بهذه الطريقة قدر ما يعود الأمر إلى تقنية روائية عالمية شائعة لا مفر لأي روائي من أن يتأثر بها، وليس من باب المكابرة لو صارحتك بأنني لم أقرأ أية رواية من الروايات المذكورة، مع التذكير بأن إحداها - وهي "العلامة" - صدرت بعد نشر الطبعة الأولى من روايتي بأعوام. 7- كانت الف ليلة وليلة - ولا تزال - أول وأهم كتاب واضبت على قراءته حتى الآن، ما الذي شكله لك هذا الكتاب التراثي العظيم بين هذا الخليط الموزع بين الياذة هوميروس وملحمة كلكاكش والكوميديا الالهية ودون كيشوت وروايات اخرى... الخ؟؟ • يبقى "الف ليلة وليلة" الكتاب الأثير إلى قلبي لسببين أولهما أنه أول كتاب امتلكته: ففي إحدى سفراتنا الموسمية إلى كربلاء اقتنى لي شقيقي الكبير هذا الكتاب بطبعته الشعبية الصادرة بأربعة أجزاء عن مطبعة محمد صبيح وأولاده قرب الجامع الأزهر، ليغدو منذ ذلك اليوم البعيد وحتى الآن رفيق العمر الذي ما مللت رفقته قط، أما السبب الثاني فيتمثل بالقيمة الذاتية التي يحملها هذا الكتاب بحكاياته الغرائبية المدهشة والمتعددة في تنقلها بين عوالم السحر والواقع والتي تروى على ألسنة البشر والحيوان والطير والجن والشياطين، والمستقاة من مدن الشرق العريقة على امتداد التاريخ ولاسيما بغداد والقاهرة وخراسان والهند والسند وصولاً إلى ممالك الخيال: جبل قاف وجزائر الواق واق وجبل المغناطيس. كل هذا العالم المتلاطم نراه مؤطراً بحكاية شهريار وشهرزاد: حكاية الملك المعصوب والموغل بقتل النساء وحكاية شهرزاد العبقرية التي تحاول علاج الملك من عصابه عن طريق الكلمة. لقد بلغ عشقي لهذا الكتاب أنني انطلقت منه في كتابة روايتي (سابع أيام الخلق) فضلاً عن أنه ألهمني في كتابة مسرحيتي الطويلة (نهارات الليالي الألف). ولا أكتمكم أنني لا أزال مأخوذاً بهذا الكتاب: أحرص على تجميع مختلف طبعاته فضلاً عن تتبع كل كتاب مكرس له، مع اعادة قراءته من حين إلى آخر. 8- تقول إن رواية (الصخب والعنف) لفوكنر يظل لها المذاق الأبقى في الذهن؛ فهي عمل صاعق لم تقرأ لها مثيلاَ.. ما الذي يستدعيك لهذا القول؟ • من المؤكد أن رواية الصخب والعنف إحدى روايات القرن العشرين العظيمة. وهي رواية تنطوي على ابرز سمات الحداثة من كثافة زمنية وترميز وأسطورة. إنها رواية تدهور الجنوب الأمريكي وما رافق ذلك من أجواء تراجيدية عرف فوكنر كيف يلتقطها ليحولها الى اسطورته الشخصية مستثمراً فيها حكاية أسرة تعيش تدهورها وانحدارها النهائي الذي يترسخ على وقع نحيب الشقيق الأصغر بنجي. ويبقى الكلام الذي ذكرته آنذاك عن هذه الرواية وليد وقته بطبيعة الحال؛ لا أعني بذلك أنني أقلل من شأن هذه الرواية الآن، بل ما أرمي إليه أن ذائقتي الشخصية في تغير وتبدل مستمرين: فأنا الآن أعود إلى دستويفسكي ولا سيما إلى رواياته الأربع الكبرى "الأخوة كارامازوف" و"الأبله" و"الشياطين" و"الجريمة والعقاب"، أعود إليها لأتوقف عندها ملياً متأملاً عصارة فكر هذا الروائي العملاق التي تجسدت في هذه الروايات الأربع: إذ أرى أنه من الصعب بمكان بل من العبث مقارنة أي روائي على امتداد تاريخ الرواية بدستويفسكي. إنه يمثل استثناءً يقف وحده أشبه بقمة جبل متفردة مثله تماما مثل شكسبير بعظمته وشموخه. لا أعني بذلك التنكر لما وصلت إليه الرواية المعاصرة من تقنيات مبهرة، ولكن يبقى السؤال هو مهما بلغ اعجابي برواية (مئة عام من العزلة) مثلاً لكنني لا يحق لي مقارنتها باحدى روايات دستويفسكي؛ ذلك لأنني قد أكتفي بقراءة رواية ماركيز مرة أو مرتين، في حين سأظل أعود إلى روايات دستويفسكي ما حييت؛ إذ إنها تبقى المنهل العذب الذي لا مفر لنا من الاغتراف منه مهما امتد بنا العمر. 9- انت تميل الى استخدام ضمير المتكلم في اغلب رواياتك التي صدرت في الفترة الاخيرة.. كيف يخدم مثل هذا الاستخدام في السرد؟ • استخدام ضمير المتكلم يضفي على الرواية ضرباً من حميمية يجعل المتلقي يعيش وهم المشاركة في الأحداث كأني به يرافق الراوي في تنقلاته على امتداد الرواية، وبرغم تلك الميزة ينطوي استخدام هذا الضمير على عيوب في مقدمتها تحديد الأحداث بوجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الراوي مما يتطلب حضوره الشخصي في مكان الحدث أو السماع عنه من غيره، وهناك عيب آخر يتمثل بالتوهم بتطابق شخصية الراوي مع شخصية الروائي الحقيقي؛ وقد فوجئت - وأؤكد مفردة "فوجئت" - بأحد النقاد في نقده لروايتي الأخيرة (ليل علي بابا الحزين) يطابق بين شخصية الراوي داخل الرواية وشخصيتي أنا الحقيقية، والسؤال هنا هو: أهي أول مرة في تاريخ الابداع يطلع فيها هذا الناقد على نص ابداعي يتبنى هذا التوجه؟ فالرواية الحديثة في غالبيتها، ولاسيما في مجال ما عرف بـ(ما وراء الرواية)، تمضي في هذا السياق إلى نهايته: وهو كسر حدود الوهم بين الخيال والواقع كما هو شأن سلمان رشدي في (آيات شيطانية) وفي (أطفال منتصف الليل)، أو خالد حسيني في روايتيه (ألف شمس ساطعة) و(عداء الطائرة الورقية)، بل إن الروائي الجيكي (كونديرا) يستثمر شخصه ومحنة بلاده جيكسلوفاكيا - سابقاً - في رواياته تباعاً مع ذكر عناوين بعضها دون أن يحد ذلك من حرية خياله الابداعي، وقبله رأينا (بورخس) يتحرك في العديد من قصصه باسمه الشخصي بكامل حريته، كما أن كافكا ألف أن يجعل من شخصه الذي يسميه بالحرف الأول من اسمه (ك) بطلاً سواء في (القضية) أم (القصر)، بل عرف هذا الأمر قديماً؛ وأبرز نموذج يتمثل بدانتي في عمله العظيم (الكوميديا الإلهية): إذ من المعروف أنه أبدع هذا العمل الجبار بعد نفيه من بلاده على أثر انتصار الحزب المناوئ لحزبه؛ فعمد في رحلته بين الجحيم والمطهر والفردوس إلى حشر أعدائه، بأسمائهم الشخصية وبكناهم وألقابهم، في الجحيم، وكافأ أصدقاءه بوضعهم في الفردوس، بل إنه جعل حبيته (بيتاريس) - وقد عرفها شخصاً حقيقياً من لحم ودم - تقوده في إحدى مراحل الرحلة، ولم يسأل أحد في تاريخ النقد كله إن كان يحق لدانتي القيام بذلك ناهيك عن حقيقة هبوطه إلى الجحيم وصعوده إلى الفردوس. وفي مجال التراث الاسلامي القديم - العرفاني منه في الغالب - هناك نماذج لا تعد ولا تحصى مثل (ابن عربي) في تجلياته وارتقائه إلى السماوات السبع ولقائه الأنبياء والأولياء. كما من المعروف أن ثربانتس عمد في الجزء الثاني من (دون كيخوته) إلى إقحام نفسه في الأحداث ومناقشة أحداث الجزء الأول من عمله. لقد عمدت في غالبية رواياتي - ليس في روايتي الأخيرة فحسب - إلى جعل روائي متخيل يروي أحداث الرواية بضمير المتكلم. إنه كائن ورقي متخيل أضعه كشخص روائي وسط شخوصي المتخيلة الأخرى دون أن يعني ذلك تطابقه معي؛ ذلك لأن التطابق ينتج كتاباً في السيرة الذاتية لا الرواية، ثم لا يفوت المتتبع لمعظم رواياتي أن أحداثها تجري في (الأسلاف) وهي مدينة خيالية لا وجود لها على أرض الواقع، فهل يجوز لي القيام بذلك أم أن هذا الأمر يدخل ضمن محظورات النقد أيضاً؟ ولا أكتمكم بأنني فجعت بهذا الضرب من النقد حتى بت أخشى ان يتصدى لي أحد النقاد في المستقبل ليطالبني بأن اجعل الراوي يعتمر "الكاسكيته" ويستند إلى عكاز وصولاً إلى التطابق الكامل معي!!! 10- انت روائي محترف، هكذا يقال، تكتب روايتك بتصور مسبق، وخطة موضوعة، ولكل رواية من رواياتك ارشيفها الخاص ومراجعها المكتوبة.. حدثنا عن هذا الاحتراف.. ولماذا؟ • من المعروف وجود روائيين عالمين ألفوا إعداد ملفات وأراشيف قبل الشروع في كتابة رواياتهم، وأبرز مثال على ذلك هو الروائي العظيم تولستوي: فقبل الشروع في كتابة روايته الهائلة (الحرب والسلم) كوّن مكتبة كاملة عن فترة اجتياح نابليون لروسيا القيصرية ليصل بجيوشه الجرارة إلى موسكو قبل أن ينسحب مخذولاً مطارداً من الجيش الروسي ومن العواصف الثلجية التي كان لها الدور في الاجهاز عليه؛ ذلك لأن هزيمته تلك مهدت السبيل للجيوش الأوربية لتطارده فيما بعد حتى عقر داره في باريس. فيما يخص تجربتي الروائية المتواضعة لم أستعن بالأرشيف إلا في روايتين هما (سابع أيام الخلق) و(مقامات إسماعيل الذبيح)؛ وذلك لاستثمار الرواية الأولى عالم التصوف والفلسفة الاسلامية، وهما عالمان لم تكن لي معرفة متعمقة بهما ولاسيما التصوف المحكوم بمصطلحات دقيقة لا مفر من الالمام بها لمن ينشد التعامل مع هذا العالم. أما الثانية فقد امتدت أحداثها على مدى قرن كامل من تاريخ العرب المعاصر مما تطلب الأمر مني الاستعانة بعشرات المراجع من كتب في التاريخ وسير شخصية ومذكرات وكتب في الفلكلور... إلخ...وبذلك ترى أن اعتماد المصادر لا يتم دائما، بل يحدث ذلك حين تطرقي لأحداث تاريخية لا يحق لنا التلاعب بها: والرواية يفترض بها أن تكون عملاً متخيلاً وليد ذهن الروائي إلا في حالة التطرق إلى احداث تاريخية لا يحق لنا التصرف بها، من هنا يأتي دور التوثيق والأرشفة. 11- اذن لا تشرع بالكتابة الا بعد نضوج الفكرة، وعليه يمكن ان نقول بانك روائي صانع، ربما لديك ورشة.. فماذا تقول.. ؟ • لا مفر للروائي من أن يكون قد أعد في مخيلته الخطوط الرئيسية لروايته قبل الشروع في كتابتها دون أن يعني ذلك التقيد بتلك الفكرة، ما أعنيه بذلك أن الرواية عكس القصيدة التي تكتب الشاعر قبل أن يكتبها، في حين لا تخلو الرواية من جانب الصنعة. 12- هل ان روايتك بشخوصها كلية العلم، أعني يكون فيها البطل عالماَ بكل شئ محيطاً بالاحداث.. خاصة وان لديك أرشيف خاص بكل رواية، هذا يعني أن شخصية من شخصيات روايتك لها ملفها الخاص واذا اكتشفت نقصا ما في معلومات عن تفصيل معين من تفاصيها بحثت عن مرجع يوفرها لك. • لا بطبيعة الحال؛ لم يحدث هذا الأمر في أية رواية من رواياتي خلا تينك الروايتين اللتين تطرقت إلى ذكرهما: فالشخصيات وأفكارها وليدة لحظاتها الآنية، وتبقى الفكرة العامة للرواية - خطوطها الرئيسية، الحقبة التي تجري فيها الأحداث - هي التي يفترض بي أن أكون ملماً بها قبل عملية الكتابة، وكمثال على ذلك لنأخذ روايتي الأخيرة (ليل علي بابا الحزين) نموذجاً: ففكرتها العامة كانت حاضرة في ذهني قبل الشروع في كتابتها، أعني أنني كنت أعلم انني بصدد الكتابة عن الإحتلال الأمريكي لبلدنا وما سبقه وما أعقبه - مثل فترة الحصار، أو التطرق إلى الاحتلال البريطاني الذي حصل في أعقاب الحرب العالمية الأولى - أما الأحداث والشخصيات فقد نمت وتشعبت أثناء عملية الكتابة لا قبلها. 13- عموماَ نرى أن ما يسمى بالتخييل الذاتي او السير الذاتي هو المهيمن احياناَ... متى ينتهي فعل السيرة في الرواية ليبدأ الخيال؟ بمعنى الفصل بين التجربة والخيال؟ • المعول الرئيسي على الخيال طبعاً، لكنه يبقى خيالاً مستمداً من واقع الروائي: أحداث مرت به، شخصيات عرفها، أحزان وأفراح وأوجاع سبق له تذوقها وما شاكل ذلك. هذه الأمور كلها هي التي تشكل مفاصل الرواية بتلقائية ودون تخطيط مسبق: فقد أنطلق بروايتي من حدث معين أو شخصية معينة، لأكتشف بعد عشرات الصفحات أن تلك البداية ليست البداية المتوخاة من تلك الرواية؛ فتتراجع تلك البداية لتشكل أحد فصول الرواية اسبقه بفصل أو فصول جديدة، وعلى العموم يبقى الفصل الأول في أغلب رواياتي هو آخر فصل أكتبه!... وهذه مفارقة قد يستغرب منها بعض القراء! 14- البيزار/مسرحية/ 1999 فازت بجائزة الدولة للمسرح، نهارات الليالي الألف/ مسرحية/ 2001.. ماذا يعني ولوجك عالم المسرح؟ • يبقى المسرح أحد منابعي الرئيسية: فسوفوكليس في (أوديب ملكاً) وشكسبير في مسرحياته كلها، وإبسن واستندبيرج وتشيخوف وأونيل وبرخت، تبقى مسرحيات هؤلاء مرجعي الذي أعود اليه باستمرار دون أن أعني بذلك أنني أطمح إلى أن أكون مسرحياً. أما بشأن مسرحيتيّ المذكورتين فدافعي إلى كتابة اولاهما، أعني (نهارات الليالي الألف) تمثل بأمرين: أولهما عشقي لكتاب (ألف ليلة وليلة) والثاني حرصي على أن أقدم لبناتي الثلاث نموذجاً يحتذين به في عالم فظ خشن مثل عالمنا الذي يتحكم به الرجل: إذ إنني حاولت أن أبرهن لهن أن قوة الكلمة لا تقل عن قوة الجسد لإقرار ما نؤمن به، ومن هنا افلحت شهرزاد بقوة الحكاية أن تعيد شهريار الى الطريق القويم لينبذ سيف جلاده إلى الأبد. 15- رواية (ليل علي بابا الحزين) امتداد لرواياتك السابقة او لبعضها على الاقل. فهذه الرواية قراءة خاصة لحقبة معينة من تاريخ العراق الحديث، وهي حقبة الاحتلال الامريكي للعراق ونتائجه، ولها أكثر من سارد، فهل السارد المعلن (الروائي) وسارد آخر هو احدى شخصياتها (بدر) وهنالك ايضا ارشيف يعود اليه السارد المعلن ويستعين به، وزمن الرواية ليس خطياَ بل هو زمن حقبية متقطعة.. ما فكرة هذه الرواية؟ • على الرغم من صعوبة اختصار فكرة رواية تضم، بين غلافيها، عشرات الأحداث والأشخاص، لكنني يمكنني أن أوجزها بتلك الكنية التي اشاعها الأمريكان على الألسن، أعني كنية "علي بابا" التي كانت تطلق على صغار اللصوص والسراق، في حين يتم غض الطرف عن اللصوص الحقيقيين الذين جاءوا في أعقاب الغزاة لا لينهبوا بيتاً هنا أو مخزناً هناك، بل قدموا لينهبوا البلاد طولاً وعرضاً، من هنا بدأت عملي الروائي على طريقة التفكيكيين؛ البدء من الهامش لتفكيك ما يبدو راسخاً من حقائق سرعان ما تتهاوى في النهاية واحدة في أعقاب الأخرى: فمن المعروف أن "علي بابا" في الحكاية التراثية المشهورة يقتص من مطارديه اللصوص بمعونة جاريته "قهرمانه"، لكن الذي حدث، في أعقاب الاحتلال الأمريكي للعراق، هو اقتران هذه الكنية - أعني علي بابا - بصغار اللصوص، وكان للأمريكان دور في ذلك فانعكست الآية: فغدا "علي بابا" رمزاً لكل لص، فعملت في الرواية على فك هذا الإلتباس الحاصل، واضاءة دور "علي بابا" في الكشف عن اللصوص؛ اذن قد يمثّل الراوي في الرواية شخصية "علي بابا"؛ ذلك لأنه يعمل على كشف المخفي خلال روايته فيفضح اللصوص الحقيقيين دون أن يغفر، بطبيعة الحال، لصغار السراق. أما كلمة "الحزين" فهي تشير إلى الاحتلال: فكل احتلال - لأي بلاد على كوكب الأرض - سيكون ليلاً حزيناً على الشعب الذي يقع تحت وطأته ولا سيما حينما يقترن هذا الاحتلال بحرب أهلية ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء. 16- هل من الممكن ان يستلهم الروائي في روايته شخصية من إحدى الروايات السابقة من دون ان يوقعه هذا في فخ السرقة الادبية؟ • أعترف بأن هذا أمر جديد لم أسمع به من قبل: إذ ما جدوى استعارة شخصية من نتاج مخيلة روائي آخر؟ فمن المعروف أن استلهام شخصية ما أو ثيمة معينة يتم عادة من عالم الأساطير التي لا مؤلفين لها في الغالب شأن شخصية أوديب أو فاوست وما شاكلتهما من شخصيات أسطورية، ولا يتم هذا الاستلهام طبعاً بشكل حرفي: أي نقل ما ورد في الأسطورة القديمة إلى عالم الرواية حرفياً؛ لأننا لا نكون بذلك قد أضفنا شيئاً، بل يتم بطريقة مستحدثة يبرهن الروائي بها على جدارة هذا الاستلهام، ولو اتخذنا من رواية جيمس جويس الشهيرة (يوليسس) مثلاً على ما نقول لوجدنا كيف أن هذا الروائي نسج روايته على منوال ملحمة هوميروس (الأوديسة): فمثلما يضيع يوليسس في البحار مدة عشر سنوات عقب سقوط طروادة بأيدي الاغريق، وذلك لكون آلهة الأولمب قد لعنته، نرى بطل رواية جويس (بلوم) يتنقل في أرجاء مدينة دبلن على مدى ساعات ذلك اليوم الذي تجري فيه أحداث الرواية بصفته مروجاً للاعلانات، ومثلما تنتظر بنلوبي في ملحمة هوميروس عودة زوجها يوليسس لينقذها من الخطّاب المرابطين في قصرها - وكل واحد منهم ينشد أن يحظى بها زوجة له - نرى مولي بلوم تنتظر بدورها عودة زوجها لكنها تخونه مع صديقها المغني أثناء ساعات الانتظار.. هكذا تستمر موازاة أحداث الرواية مع الأسطورة: فيكون ستيفن ديدالوس بديلاً لتليماك ابن يوليسس، بل نرى شخصية (المواطن) بعصبيته وانفعاله تتوازى مع شخصية الوحش الأسطوري (السكولب) الذي له عين واحدة في جبهته، وكذلك تتوازى شخصيتا النادلتين الشقراء والسمراء العاملتين في مشرب مع شخصيات (السيرينيات) اللائي يسحرن بغنائهن البحارة في الأسطورة... وبذلك نلاحظ مدى ما أضفاه جويس على روايته من ابتكار جعل تناصها مع تلك الأسطورة مسوغاً وعلى جانب كبير من الروعة والابتكار.. 17- يذهب البعض ضعف الكتاب العراقيين في صياغة العبارة الأدبية فتأتي عبارة جافة تقريرية ناشفة مما يستوجب وجود المحرر الذي لا بد منه لصياغة العبارة. • يعد وجود المحرر على النطاق العالمي أمراً شائعاً تتبناه دور النشر الكبرى حرصاً منها على إخراج الرواية بأفضل صورة ممكنة... وقد أُشيع عن همنغواي أن رواياته كلها تقريباً قد خرجت من بين أيدي المحررين بالأشكال المعروفة لدينا الآن. بيد أن هذا الأمر لا ينطبق على الرواية العربية والعراقية شأن أمور أخرى لا تعد ولا تحصى: فالروائي العراقي أو العربي معني بكل شيء منذ لحظة انبثاق فكرة الرواية في ذهنه انتهاء بطباعتها وإيصالها الى القاريء. 18- عندما استبعدت الكثير من الأعمال الأدبية المهمة من قائمة الترشيح للبوكر، هناك من قال إن الاعمال التي تهتم بالاقليات العرقية والدينية هي فقط من تحظى بالاهتمام وتكون مرشحة للفوز بالجوائز. • من المؤكد أن لكل جائزة سياقاً محدداً لها تسير عليه، وهو سياق قد نجهله نحن كمتلقين، فلا نملك إلا أن نفترض ونخمن، المهم أن الجوائز تأتي بالخير على الإبداع ما دامت تحفز المبدعين على الكتابة. 19- يحسب لرواية (ليل علي بابا الحزين) شجاعتها في كشف المستور والتعرض إلى همجية الاحتلال في تدمير العراق، ويقال إنها استبعدت من ميدان المنافسة على جائزة البوكر لهذا السبب، حيث يجري الاتهام أن الروايات التي تتعرض للحكام العرب من بعيد أو قريب أو الاحتلال تستبعد من ميادين المنافسة على الجوائز، وهذا ما أشار اليه الناقد فيصل دراج الى أن العبث طال جائزة بوكر الأخيرة في استبعادها لأعمال أدبية مهمة من مزاجية لجان التحكيم... فماذا تقول؟؟ • في الحقيقة لم أشعر بوازع أخلاقي يكمن وراء كتابة أية رواية من رواياتي السابقة مثلما شعرت بذلك عند كتابة هذه الرواية، فهي شهادتي على ما جرى، هذه الشهادة التي لو لم أدلِ بها على شكل رواية لما غفرتُ لنفسي ذلك حتى آخر لحظة من حياتي: ففي ذروة احتدام الأحداث، عند نشوب الاقتتال الطائفي على أثر تفجير سامراء، أيقنت بهراء كل ما تلقنته من فكر وفلسفة يتعلقان بالحداثة وما بعدها إن لم أستطع أن أوظفهما في كتابة رواية، لا أعني بذلك أنني كتبتها انطلاقاً من أيدولوجية معينة قدر ما كان هناك واجب إنساني يقتضي مني كشف الحقيقة - أو الحقيقة النسبية من وجهة نظري - لما جرى من فظائع مهولة لم يخطر لي أن العراقيين سيقترفونها بدم بارد .. من هنا جاء قراري بكتابة الرواية ولتكن النتيجة ما يشاء الله، وقد كتبتها على مدى فترة زمنية تجاوزت العامين بأشهر، ولم تواجهني صعوبات تذكر أثناء الكتابة ذلك لأنني كان قد سبق لي أن أعددت مادتها المتعلقة بالحصار اذ إنني كنت مؤمناً بأنني لا بد لي من كتابة هذه الرواية مهما يحصل، كما أنني عايشت الأحداث بدقائقها ومنها هربي بأسرتي من بغداد قبل الإحتلال. 20- في الجوائز يطرح السؤال الأكبر من يكرم من وعلى أي أساس يتم التكريم ومدى فعالية العلاقات الاجتماعية واين هو الكاتب المنسي؟ مع أنه يحسب للجوائز دورها في التحريض الثقافي على الكتابة الروائية. • تبقى الجوائز ضرورية للكاتب لأنها تسهم في الترويج لنصه فتوسع بذلك من نطاق المتلقين، بل قد تصل به إلى مستوى العالمية عن طريق الترجمة، ويبقى المهم أولاً وأخيراً استمرار المبدع في الإجادة في إبداعه سواء فاز بإحدى الجوائز أم لم يفز. |