"توستالا" عبد الهادي سعدون: قصص الأسماء المنتحلة!

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
12/11/2014 06:00 AM
GMT



يفتتح عبد الهادي سعدون مجموعته القصصية «توستالا» الصادرة عن دار سنابل، القاهرة 2014، بواحدة من حكايات الهنود الحمر، ماضياً نحو سؤال التسمية، حيث تفتح الأسماء خزانة الحكايات وتُضيء دروبها لتكمّل حريّةُ الاختيار مواثيقَ السرد وتمضي بها لما هو أبعد من أطياف القصة القصيرة وخفي ظلالها، «سأله وهو يراقب طقطقة الجمر في الموقد: لماذا يسمونك توستالا؟ تنفس (الشامان) طويلا ولم يجب قبل أن يدخن من غليونه الخشبي. لأنني حكواتي أسرد القصص كما يحلو لي». إنها حكايات «لا تشبه حكايات الآخرين»، يغترفها حكواتي حرٌّ في مساءات الهنود البعيدة، حيث تتقاطع أصداء مروياته مع أصداء حكايات ثربانتس وخورخي لويس بورخس مقرّبة بين الحقيقة والخيال مرّة، مطابقة بينهما مرّات وهي تجعل الحكّاء نفسه، حسب تصوّر بورخس، وليد مروياته وخازن أسرارها، لتؤمّن عتبةُ المجموعة مساحةً للنظر في الصلات الخفيّة والعلاقات غير المرئية بين الكتابة والحياة.
مع قصة «بلد متنقل»، فاتحة قصص المجموعة، تواجهنا صلة الحقيقي بالمتخيّل وأثرها في بناء القصة وآليات كتابتها، فلن يكون التخييل، في مثل هذه الصلة، ضرباً من الإيهام بالواقع أو وجهاً من وجوه الخداع والتزويق، بل تجتهد القصة القصيرة في سبيل كشف الواقعي وإدراك ملابساته من خلال قدرة التخييل على اضاءة مناطق قصيّة في التجربة الانسانية؛ ثمة صلة بين كتابة رواية بعنوان «بلد متنقّل»، يواصل راوي القصة كتابتها، ونزيف أنفه المفاجئ، كلُّ كتابة استمرار نزيف يتوقّف عند توقّفها ليعاود جريانه مع تواصلها من جديد. يتحكّم الخيالي بالواقعي، يوجّهه ويعمّق أثره، لتكون كتابةُ الرواية (حديثاً عن رواية غير مكتملة)، لكن الخيال لا يكتفي بوضع حدٍّ لمشروع الرواية، بل يغيّر طبيعة العلاقة بين الراوي وروايته، ويعدّل سماته الشخصيّة مقترحاً سماتٍ تمكنه من الانتقال بين المدن بالخفّة التي ينتقل بها من حكاية إلى أخرى، فكلُّ مدينة في حكايته تفتح باباً لمدينة جديدة، لكنها جميعاً تقود لمدينةٍ تقع في صلب قصص المجموعة وجوهر مروياتها، إنها مدينة بغداد «بشوارعها وناسها وقنوطها الذي لا يشبهه حزن آخر في العالم». إن الانتقال بين المدن والانشغال بحكاياتها لن يعني انفصالاً عن المدينة الأولى بهواجسها الموجعة وذكرياتها «التي خرجت بما يشبه الطلق لتنفجر وتتمدّد ماسحةً بيدٍ نزقةٍ زوايا المدينة»، إنما تعمل قصص المجموعة على تجديد العلاقة مع المدينة الأولى باستعادة بعض من تفاصيل حياتها ورواية جوانب من حكايتها. سينشغل الحكّاء بحكاياته التي لا تنضب، صارخاً مع كلِّ قصةٍ ببئر الحكايات العميقة، لتكون كلُّ قصة من قصصه صدىً بليغاً لقصة أولى، وتعادل حريّته الحريّة التي تحرّك القصص، تبنيها وتهدمها، وهي تنتقل بين المدن والهواجس والأوهام، لتحافظ الكتابة على دورها في بناء القصص والانتقال بها بين مساحتي الواقع والخيال. ثمة فعل كتابة، في مجمل قصص المجموعة، يواجه إشكالاً ما، يعطّله أو يحرفه عن مساراته وأهدافه، وفي كلِّ انحراف تجد القصص مؤدياتها وتنظم طبقاتها. بين الكتابة وتمثيلاتها تنشأ قصص المجموعة وتحافظ على خصائصها، ذلك ما تؤكده قصة «نصيحة وتنشتاين» وهي تستعيد علاقة الراوي مع الكتابة وإشكالاتها بين التفكير والقول «إذ إن كلَّ ما نستطيع التفكير به، نستطيع التفكير به بوضوح، وكلَّ ما نستطيع قوله، نستطيع قوله بوضوح، لكن ليس كل ما نستطيع التفكير به نستطيع قوله». تمنح جملة وتنشتاين الراوي إدراكاً لرؤية ما يقع بين التفكير والقول، ما يُبنى ويتشكّل في طبيعة الكتابة، أفكارها ومقولاتها، وهي تتحوّل من نوع إلى آخر، ومن آلية قول إلى أخرى تتضمّن حلاً سحرياً باقتفاء أثر الكتابة وإضاءة عوالمها بما تتوفر عليه من طاقة وصلابة تعبير. «يجب أن ترضى بما أقصّه عليك، لأنني لا أجد مخرجاً مُحكماً غيره»، إنه سبيل القصص الذي لا سبيل سواه ومخرجها الذي يقترحه الراوي مُجدِّداً، مع كلِّ قصةٍ، مواثيقه مع قارئه في تعدّد أدواره وتبدّل مواقعه، فالراوي يؤسس روايته على موقع القارئ، معنياً بقناعته وآلية تلقيه، إنه يعيد سرد حكاية سبق أن رويت على مسامعه، ذلك ما يشير إليه عنوان القصة الثالثة «حكاية الرجل الذي قصَّ عليّ حكاية يعتقد أنها تهمني»، حكاية تختزن حكايةً، مقترحةً طريقاً لسواها، لتتعدّد طبقات القصة وتتسع عوالمها، كلُّ طبقة منها تحمل قصتها وتُشير لزمنها وهي تمضي في مغامرة الكتابة نحو مساحة تشهد القصة القصيرة فيها رحابة وحياة. ثمة حرية محكومة بنظام تحياها قصص المجموعة، ثمة أنهار تجري تحت القصص ومخلوقات تتنفس معبرةً عن أزماتها، لتتقارب قصص «توستالا» العشر على الرغم من تعدد موضوعاتها وتباين آليات كتابتها في اعتماد ثيمة جوهرية تجد تنوعاً ماهراً وصياغة لا تخلو من دأب، وهي تلمس كلَّ مرّة دواخل الانسان مضيئة وحدته وانفصاله عن أرض لم تعد أكثر من ذكرى موجعة، غريبة أحياناً، حزينة وموحشة. إن التنوع في صياغة الثيمة وتكرارها أسهم بتقديم المجموعة حـــقــلاً سردياً ثري العلاقات، تحيا القصة القصيرة فيه واحداً من اختبارات وجودها وتعزّز قدرات كتابتها.
في زيارته بيت صديقيه بمناسبة حفل تكريم نُسيت أسبابه يقدّم الراوي نفسه لضيف اسباني باسم مزيّف، «من أسماء عديدة مزيّفة أستخدمها بمناسبة وغيرها»، كما لو كان يحتمي بتزييف أسمائه من غربة مهدّدة، «اذن أنت من طاجكستان.. أسماؤكم تعجبني ففيها رنة غريبة نفتقدها نحن الإسبان»، يقول الضيف ذو الحكاية ناقلاً الراوي لغربة جديدة تُخترع فيها البلدان بسهولة، ليهديه بالمقابل حكايته التي لن يكون فيها اسبانيا، كما لن يكون، هو الآخر، ذا اسم واحد، «جرّبت العديد من هذه الأسماء المنتحلة حتى صدقت أنني اسباني بالفعل، ولصقت بي الأسماء أكثر من اسمي أو هويتي الحقيقية»، تتعدّد الأسماء لكل من شخصيتي القصة، وفي تعدّدها تتعدد الحكايات والبلدان. تذوّب الأسماء المبتكرة الاسم الأصلي، تغيّبه في غابتها المتشابكة الأغصان، إنها لعبة الغربة القاسية: أن تتلبسنا الأسماء المنتحلة، تمحو أسماءنا وتذوّب هوياتنا. تمضي حكاية الضيف لكشف دواخل الراوي والحديث عن أسراره وهو يسرد حكاية هارب من العراق أوصلته قوارب المهرّبين من المغرب لاسبانيا. يتسلّم عراقي الحكاية مقاليد السرد هارباً من الموت الذي أصبح لصيقاً بالعراقيين منذ حرب الثماني سنوات، «لم أكن ساحراً، ولكنني فهمت أن مهمتي في الحياة لم تكن مثل الآخرين، كان لي مهمة واحدة هي البقاء على قيد الحياة».
تنتقل الحكاية من حرب إلى أخرى، كلُّ حرب منها تقود إلى هرب جديد من الموت، وكلُّ هرب يؤدي إلى اسم وحكاية جديدين. «يمكنك أن تعتبرني الوحيد الذي لم يهزمه الموت، الآن أعيش وحسب بلا خوف من ملاحقته. انتهى كل شيء، أنا حرٌّ!»، إنها الرحلة الصعبة لاستعادة (توستالا) راوية حكايات الهنود الحمر بمروياته الطليقة وحريّته التي لا تحدّها حدود. تكمل قصة «مأتم عراقي» متاهة السرد وهي تُفتتح بنهاية الحكايات جميعها، «مات منذ سنتين رجل عراقي في مدريد»، موسعةً من طبيعة الصلة بين القصة القصيرة والنص الشعري عبر إفادتها من قصيدة «الجنازة» للشاعر أحمد يماني، مقدمةً انشغالاً سردياً يمضي بعيداً في استثمار إيقونولوجيا العلاقة بين كتابتين، مؤاخياً بين موتى الغربة على اختلاف أسمائهم وهوياتهم، لتحمل المقبرة هذه المرّة سمة المتاهة وعلامتها مثلما هي بيت المؤاخاة بين الأموات، لقد مات العراقي «وحيداً في غرفة في مستشفى مدريدي. أخبرني أيضاً ان الوحيد الذي صلى على روحه، قس عجوز كان هناك بالمصادفة وظنه مسيحياً، لكن القس كما حكوا له (أقصد طارق نقلاً عن آخرين، وبدوره أخبرني بذلك) لم يجب الممرضة بشيء، بل هزَّ رأسه وبقي بصلاته خاشعاً لخمس دقائق قبل أن يربّت على صدر العراقي ويمضي خارجاً». مثلما يواصل القس صلاته يمضي العراقي في متاهته حاضراً مأتم ميت لا يعرفه. كلُّ ميّت جديد يدعونا لنلبس معطفنا الأسود ونمضي إلى الجنازة، حتى لو لم يكن صديقنا، وعندما نعود إلى البيت سنبتسم لأنفسنا لأننا لم نعد غرباء، ذلك ما تقوله قصيدة أحمد يماني مجسّدة شعورنا بالفقد والغربة، وما تسعى «مأتم عراقي» لبلورته على نحو دقيق غير مكتفية بأن تعيش على حافة الشعر، بل توغل في عوالمه. مع «حكاية حقيقية» تؤكد المجموعة واحدة من أكثر خصائصها صمتاً وتكتماً وهي تطوّر هاجساً كافكوياً يتجلّى مع تسلّم الراوي رسالة مسجلة في البريد السريع، على عنوان بيته الذي انتقل إليه قبل أسبوعين ولم يعلم به أحد بعد، تؤكد عودة مرسلها (أو مرسلتها) للقائه بعد الحصول على الفيزا ومغادرة العراق. تتضمن الرسالة رقم الرحلة وموعد وصول الطائرة، لكنها، للغرابة، لا تحمل اسم مرسلها (أو مرسلتها). رسالة بلا اسم تأخذنا لمتاهة من نوع جديد، فما حدث في المطار يزيد من غرابة الواقعة، إذ ان «الرحلة المطلوبة معلن عنها على الشاشة مع وقت وصولها، لكن لا إشارة للبلد القادمة منه»، فضلاً عن وجود منتظر آخر للرحلة نفسها قد تسلّم لأكثر من مرّة رسالة شبيهة، وهو ينتظر، في كلِّ مرّة، مرسلها دونما أمل بلقاء. إنها رحلة خيالية تحكي (سيرة الطريق الذي يمضي بنا بدون هدف)، طريق تقودنا إليه رسالة مبهمة. ثمة رسالة أخرى، مبهمة أيضاً، تنتظر الراوي في قصة «مكالمة هاتفيّة»، قادمة من هاتف مشفّر لا يُشير لأحد، لكنها محملة بقصة يسميها صاحبها «الزانية والضحيّة»، وهي تقدّم تنويعاً مهماً في بناء القصة القصيرة وتأمل قابلياتها السرديّة، إنها برهان آخر على حياة القصة وحيويتها. صوت حائر ملتاع يحكي حكاية هجران، مانحاً المجموعة بحرارة صوته وبداهة لغته زاوية أخرى للتعبير عن هواجس إنسانها. إنها «حكاية بديعة» أخرى لحكاية أصليّة كثيراً ما بدّدتها الحياة فصعُب تدوينها. لتؤكد قصة «كتاب بأوراق ممزقة» عدداً من الأفكار الأساسية في المجموعة، كما لو كانت خلاصة سرديّة تعمل على بلورة هاجس آخر يلوح في سماء القصص مثل جناح ملاك حائر فنحن لا نأخذ من حياتنا، التي نظن أهميتها وامتلاءها، سوى صفحتين صغيرتين بحجم ورقتي كتاب، إحداهما لتوثيق عناويننا والأخرى للاعتذار عن هذا الهذر، وهي حصتنا كلها من حياتنا المجحفة. إنها بلاغة القص القصير الذي لا يكتفي بمراقبة الحياة بل يسعى لابتكار طرائقه في التأمل والكتابة ليكون بمستطاعه التعبير عن ريب الوجود، لتقف مشاريع القصص القصيرة معادلاً دقيق الصياغة أمام مشاريع الحياة، وهي تواصل دأبها بين حياة وموت.