متعقبا سركون بولص في سان فرانسيسكو:

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
21/08/2013 06:00 AM
GMT



حين جلستُ بعد ساعات من التجوال على كرسي في مقهى أمبوريو رولي بساحة يونيون سكوير، ناظرا جهة هذه البناية المذهلة لفندق سان فرانسيس، حيث الحمام يطير من مكان لآخر باحثا عما تبقى من حلوى على الطاولات، أدركتُ أول الأسباب التي جعلت قدميْ سركون بولص تعلقان بشراك هذه المدينة طوال هذه السنوات.
إنها الحرية، سان فرانسيسكو مدينة الحرية بشكل مذهل، أكثر مدن أمريكا تحررا و انفتاحا و تسامحا مع الآخر و مع ما يريده و يحلم به هذا الآخر، و هذه الحرية هي ما يجعل الأدب و الفن ينموان و يتسامقان تماما مثل أشجار السكويا العملاقة التي لا مكان لها إلا في كاليفورنيا، يقول في حوار مع مارغريت أوبانك: ‘سان فرانسيسكو مركز الإبداع في أمريكا، بل مركز أمريكا’.
لعله جلس هنا مرارا و رفع عينيه إلى تمثال النصر العالي الذي يتوسط الساحة، متحسسا ما يحمله في جيوبه من هزائم ومن حنين و من قصائد كانت تسير معه حيثما سار في شوارع و أحياء هذه المدينة هو القادم إليها من كركوك الضاربة في التاريخ و في المعارك أيضا:
‘كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ علي
أسوار أوروك
تحتَـهُ يعبُرُ النهر، يتقـلّبُ فيهِ
الأحياءُ و الموتي’.
هذه هي سان فرانسيسكو المدينة التي هدأت بعد تاريخ من الزلازل، كتب عنها سركون قبل أن يصل إليها في أواخر الستينات، و حين وصل إليها وجدها شبيهة بما تخيله و تصوره عنها آنذاك: الموسيقى في كل مكان، القصائد المتمردة، الياقات العريضة و الشعر الطويل و الملابس التي يحركها الهواء مثل رايات تدل على الزمان، زمان الهيبيين بأحلامهم و جنونهم، أولئك الذين انضم إليهم و رقص معهم على أغاني بوب دايلن. ربما تغيرت المدينة الآن مثلما تغيرت معظم مدن العالم، الأجيال التي عاش معها بالأبيض و الأسود ليست هي الأجيال التي تدب الآن في شوارع المدينة و أحيائها، عبر جسر البوابة الذهبية أو في حافلات الكابل أو مشيا على الأقدام في توين بيكس و في شارع لمباردو المتعرج بشكل غريب و لافت.
هذا هو حي فلمور الذي كتب عنه في ‘حانة الكلب’ في منتصف السبعينات، لكني لا أعرف أين يوجد دكان صديقه الفلسطيني المسيج بالقضبان، ألا يزال حيا؟ ألا يزال دكانه مسيجا منذ ذلك العهد؟ فلمور يضج بالزنوج و الجاز و بالآسيويين الذين تجدهم في كل مكان، جاء بهم الذهب حين تم اكتشافه هنا في منتصف القرن التاسع عشر. الحي الصيني أو البلدة الصينية على الأرجح هي أكبر تجمع آسيوي ليس في سان فرانسيسكو فحسب، بل في أمريكا برمتها، فعدد سكانها يتجاوز هنا المائة ألف. على مقربة من هذه العيون الضيقة استأجر سركون غرفة رخيصة في أول عهده بالمدينة التي وصل إليها هاربا من ناطحات السحاب في نيويورك و من حياتها التي بدت له حياة غير شعرية.
اللاتينيون أيضا يعيشون هنا خصوصا المنحدرين من المكسيك التي لا يفصلها عن سان فرانسيسكو سوى التحليق لفترة قصيرة فوق المحيط الهادئ. لم يكن في سان فرانسيسكو قبل 1848 سوى ألف من الساكنة، لكن هذا العدد سيتضاعف عشرات المرات بدءً من العام الموالي مباشرة بعد اكتشاف الذهب، و هؤلاء الصينيون و اليابانيون و اللاتينيون و الأوربيون بطبيعة الحال جاء أجدادهم إلى هنا من أجل الذهب، لكن سركون بولص جاء به ذهب آخر، إنه الشعر.
يوسف الخال الذي قال له ‘مكانك يا سركون في بيروت’ هو الذي سيساعده حتى يصير له مكان آخر في أمريكا، في نيويورك أولا، ثم في سان فرانسيسكو، بعد أن حجزت له إيتيل عدنان التي كانت تقيم بسان رفائيل في كاليفورنيا تذكرة الطائرة من نيويورك إلى مدينة الذهب:
‘طوال سنوات، تجرني اليقظة من ثيابي
إلى أماكن لم يرها أحد
إلا نائما او مخمورا
أكتب باليد التي هجرتني
و لكي أرى هذا المصباح الذي وجدته
مليئا بالرمل في إحدى أصعب رحلاتي
يضيء حتى مرة واحدة’.
و عبر هذه البوابة ذات السقوف الخضراء التي يعلوها تنينان و سمكتان كان حامل الفانوس في ليل الذئاب يمر يوميا خارجا من غرفته بالفندق عابرا البلدة الصينية باتجاه ‘سيتي لايتس′ منجم الذهب الخاص به. حين تجتاز الدرجات الثلاث للبوابة سواء من ناحية اليمين أو اليسار أو عبر الشارع الذي يتوسط الطرفين ستجد نفسك تحت الرايات الحمراء و بين ‘الأنتيكيات المزيفة’ كما سماها سركون، لكن وسط عالم يضج بالحياة و بالحركة و بالأصوات و بالروائح و بكل السحر الذي يملأ سماء الشرق الأقصى، و هناك كان يتناول الطعام الذي يخيل لآكله أنه على حد تعبيره- يشارك في مأدبة جديرة بالآلهة.
يترك الصينيين خلفه متجها إلى ‘أضواء المدينة’ حيث سيلتقي على مدار سنوات في هذه المكتبة الرائدة بأولئك الذين كانوا بمثابة المغناطيس الروحي الذي جذبه من كركوك إلى ‘الساحل الشمالي’ تحديدا حيث تشكل هذه المكتبة زاوية هامة ليس في شارع كولمبوس فحسب، بل في جغرافية الأدب الأمريكي عموما: ألن غينسبرغ، جاك كيرواك، بوب كوفمان، غريغوري كورسو، غيري سنايدر و غيرهم، إضافة بطبيعة الحال إلى لورنس فيرلنغيتي مالك السيتي لايتس. هنا في الطابق الثاني و في ‘غرفة الشعر’ تحديدا قدم له زعيم البيث ألن غينسبرغ في أول لقاء به قصيدته الشهيرة ‘عواء’ و قد أسعده كثيرا أن هذا الشاب الآشوري ترجم له من قبل نصوصا أخرى.
هذا هو الحيز الخاص بأدب البيث، لم يتغير منذ ذلك التاريخ، فقط الطبعات تتجدد عاما بعد عام، و من هذا الرف أخذ غينسبرغ قصيدته ‘عواء’ و قدمها لسركون الذي استغرق وقتا طويلا في ترجمتها، نظرا لتشابكها المركب مع المكان ومع حياة و تصورات جيل البيث، وهذا النوع من النصوص لا ينقله إلى لغة أخرى إلا من عاش قريبا من السياق الذي أُنتج فيه، سركون لم يكن قريبا فحسب، بل كان داخل الدائرة.
كانت السيتي لايتس هي الإقامة الحقيقية لسركون، غيّر مكان سكنه مرارا، لكنه كان ساكنا على مدار سنواته هناك في الطوابق الثلاثة لهذه المكتبة، و في معظم الوقت في ‘غرفة الشعر’، حيث يمكن لأي زائر أن يختار كرسيا و يفتح أي كتاب يشاء و يجلس هناك برفقته دون أن يقول له أحد ‘يُمنع أن تقرأ الكتب’، فهذه المكتبة التي ارتبطت بكتّاب البيث مثلما ارتبطوا بها تطبع الكتب و تبيعها و تتيح أيضا للجميع قراءتها بالمجان.
كان يخرج من السيتي لايتس و يتحرك بضعة أمتار قليلة جهة اليمين حيث مشرب فيزوفيو الذي كان المكان الأثير لشعراء البيث و لمحبيهم، كان أيضا بمثابة مضافة لأصدقائهم الكتاب الآخرين القادمين من داخل و من خارج أمريكا. سألتُ النادل الذي يبدو أنه تجاوز عقده الخامس عن مكانين فدلني عليهما: كرسي كيرواك و طاولة كوفمان حيث كان يجلس صامتا حزنا على اغتيال كنيدي و طالبا من سركون أن يضع قطعة نقدية في الجوك بوكس ليسمع الموسيقى. ربما يكون هذا النادل قد عاش زمن البيث، و ربما يكون قد سمع عنه من أسلافه هنا، فحكايات كيرواك و غينسبرغ و الآخرين صارت متداولة و معروفة لدى سكان سان فرانسيسكو و تحديدا لدى رواد شارع كولومبوس.
و إضافة إلى شعراء البيث كان بولص يتردد على رمز آخر يُنظر إليه باحترام كبير هنا، إنه رائد نهضة سان فرانسيسكو كينيث ريكسروت، الشاعر و الكاتب الذي قال عنه: ‘ لقد كان عبقريا و رجل معرفة بامتياز′.
كان سركون يرى أن سان فرانسيسكو جمعت في تركيبتها بين باريس و برلين و لندن و روما و الصين أيضا، و أن كتابها حقيقيون وليسوا مثل كتاب نيويورك، و أن هواءها يختلف عن هواء المدن الأخرى، فهنا يمكنك أن تتنسم حريتك بجرعات أكبر. هذا هو حي الهايث أشبوري الذي عرف أكبر موجات الهيبزم حيث كان بإمكان الفرد أن يفعل ما يشاء في أي وقت يشاء و بأي شكل يشاء، لا زالت رسوم الهيبيين تملأ جدران الحي، هذه الفتاة التي تتدلى من شعرها الأحمر الثعابين منذ عهد بعيد على هذا الجدار المقابل للشارع فمها مفتوح بشكل مخمور كأنها لا تزال منتشية بتلك الذكريات القديمة التي كان الهايث أشبوري مسرحا لها، لا زال الهيبيون يفدون إلى هذا الحي من داخل و خارج أمريكا و يجلسون على الأرصفة و في المقاهي بقيثاراتهم مستعيدين صور أسلافهم الذين ملأوا المكان بأغانيهم و بفوضاهم أيضا خلال الستينات و السبعينات . لم تكن الهيبيز هنا مجرد قرط في الأذن أو شعر مسدول أو سحابة ماريخوانا أو قيثارة على الظهر، كانت فلسفة حياة تلتقي فيها الفكرة بالشكل و بالشعر و الموسيقى و الجنون.
هذه هي مقهى بوينا فيزتا التي تمر أمامها حافلات الكابل الفريدة، و من هنا رأى سركون جزيرة ألكتراس التي ذهب إليها لاحقا مع إيتيل عدنان و مع الهنود رفقة ‘فالو’ الفتاة ذات الضفيرة الطويلة التي كتب عنها قصيدته ‘قارب إلى الكتراس′. كانت هذه الجزيرة سجنا فدراليا لأكبر و أخطر المجرمين، و صارت منذ 1963 مزارا سياحيا يعبر إليه الزوار عبر المراكب، و يجب عليك إذا أردت الذهاب للكتراس أن تحجز تذكرتك قبل أيام. فثمة طوابير تنتظر. من ساحل سان فرانسيسكو أو من الضفة الأخرى التي يقودك إليها جسر البوابة الذهبية ستبدو لك منارة الكتراس التي تعتبر أول منارة على سواحل المحيط الهادئ. ذهب سركون عبر القوارب إلى ألكتراس مع الهنود في تظاهرة من أجل أن تكون هذه الجزيرة ملكا لهم، لا لأحد آخر.
من هذا المرتفع يبدو جسر الباي الذي يربط سان فرانسيسكو بأوكلاند و من تم ببركلي، المدينة التي سار فيها سركون مع الطلاب المناهضين للحرب على الفيتنام، و من تم عقد صداقته مع الهيبيين الذين أخذوه معهم إلى حيث يعيشون قريبا من سوساليتو، و عاش معهم لفترة في سفينة مهجورة.
عبر هذه الشوارع و الأحياء وسط من يسميهم ‘جيش المستهلكين’ كان يجول متعقبا قصيدته، باحثا عن سيدوري التي سماها ‘ربة الظروف العارية’:
‘أنت
هذه الغنيمة التي عدتُ بها
من أسفاري المتقطعة
 وثني المسروق من غابة البرابرة’.
أسئلة كثيرة طرحها سركون هنا حول الشعر الذي يحلم به و الذي ذهب إليه متخففا من كل شيء إلا من حياته التي وضعها بعناية كبيرة على الورق. هذه المدينة هي الورشة الكبيرة التي كان يشتغل فيها على قصائده، لست أدري متى كان يكتبها، الراجح أنه كان يختار الليل، ذلك ما تقوله كلماته:
‘في الليل وحده أستطيع أن أنادي
من أريدهُ أن يُنادمَني، إلى هذه المأدبة الصغيرة في عَراء أيّامي’.
ربما كان ينادي كلماته فحسب، فهي النديم الذي يجعله أكثر تيهانا في ممراته و معابره الملتوية و المخمورة، ربما في نصه ‘تحولات الرجل العادي’ يبدو الجواب مغلفا باستعارة :
‘ أنا في النهار رجل عادي
يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي
كأي خروف في القطيع لكنني في الليل
نسر يعتلي الهضبة
و فريستي ترتاح تحت مخالبي’.
في ‘عظمة أخرى لكلب القبيلة’ يأتي الجواب واضحا: ‘أسهرُ في قصيدتي حتى الفجر، كلَّ ليلة. ‘
في الليل إذاً، في ليل هذه المدينة كتب الكثير، الكثير من كلماته القليلة، بعد كركوك و بغداد و بيروت، و قبل لندن و برلين. هذه هي المدينة التي سحرت سركون بولص، لا زال الشعر يسري في هوائها عاقدا صداقته الأبدية مع الموسيقى، كأن سركون لم يمت، كأنه لا زال هناك نائما في مركب نوح أو جالسا في فيزوفيو يسمع أغاني البيتلز، و يفكر في قصيدة جديدة، كأنه لا زال يجوب بسيارته الكابريس ليل كاليفورنيا و نهارها، ويقف في شارع الكامينو ريال الذي عبره كهنة المكسيك فيما مضى مشدودا إلى تلك اليافطة التي جعلته يعود إلى الشعر، اليافطة التي كتب عليها بخط واضح ‘حانة الكلب’. و كأنني كنت برفقته من حديقة البوابة الذهبية إلى الجسر الأحمر الذي يحمل الاسم نفسه، و من ميرينا و ميشن و بيير و ماركوس و الحي الصيني و مقاهي الساحل الشمالي إلى الهرم الأمريكي الشاهق.
ترك سركون هذه المدينة في السنوات الأخيرة من حياته، سان فرانسيسكو التي كان يقول بأنه لم يشعر فيها بالملل و لو لدقيقة واحدة، لكنه غادرها باتجاه آخر مقتفيا أثر الحياة، طريدتَه التي لم يكن القبض عليها أمرا ممكنا على ما يبدو:
‘لا مكان يحلم بوصولي
والحياةُ
طريدتي الخائفة’.
غادر سان فرانسيسكو لأن سؤالا سيرن في داخله، و سيطرحه في آخر كتاب له:
‘أينها؟ أين أميركا التي عبرتُ البحر لآتيها، أنا الحالم؟ هل ستبقى أميركا ويتمان حبرا على ورق؟’
انتهت أيامي هنا و علي أن أعود من حيث أتيت، لكن خطواتي ستبقى هناك تتعقب شاعرا كان يرى أن البضاعة الوحيدة التي تشبه الذهب هي الطريق. أعود و في داخلي تتردد جملته التي تشبهه: ‘ خطانا دلتنا إلى الباب لكن أقدامنا ظلت تسير’.

* شاعر و كاتب من المغرب
khassar@gmail.com
عن (القدس العربي)