المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/06/2013 06:00 AM GMT
"إن مت يا وطني، فقبر من مقابرك الكئيبة أقصى مناي" - السياب 1
يتجدد الشاعر، حتى بعد غيابه، بمرور الأيام، أي لا ينزلق إلى العتمة فالنسيان إذا مرت الشهور والأيام أو تتالت السنوات، هذا الألق الذي يكتسبه الشاعر الغائب ناتج بالدرجة الأولى من الصدق الذي تتصّف به نصوصه الشعرية، وناتج أيضاً من لحظات القراءة النقدية التي نفتقدها، لذلك نبحث عن هذه النصوص لنعاود قراءتها، لعلنا نستعيد تلك اللحظة التي تحفز على استعادة أو محاولة لاستعادة الشاعر الغائب نقدياً. يضعنا العراق اليوم أمام درس مهم، لقد قدر لنا أن نعيش عصراً عصياً على التفسير . عصرنا هذا لا يصنع أمواته، بل الأموات هي التي تصنعه، ولأن العراق صار يسلك سلوك العصر فإنه هو الآخر يساهم في صناعة موتنا، ففي ظل المذابح والحرائق والمصائب المتكررة يظهر جلياً المعنى العميق للكتابة الحقيقية الصادقة، أو المعنى العميق لفعل القصيدة المغايرة في بلد ما زال يرزح بين أخبار الموت والحرب، في بلد يفتقد فيه المواطن حزام الأمان. في البداية دعنا أيها الشاعر نكتب مقالاً واحداً من صفحتين لا غير سيتكفل نصيف الناصري بشتم الموت في وجهه أو بطريقته التهكمية الخاصة وسوف أشتمه أنا من الخلف ثم نكتب نصاً آخر في هجاء عزرائيل وآخر لأحد حراس الجنة لكي نثبت للملائكة وللعالم يا (أسعد رجل في العالم) أننا شعراء عراقيون يمارسون حق الحياة والكتابة والحلم وحتى الموت، ففي الأزمنة العصية هناك ما يكفي من الميتات ولربما يكون نصيبنا من امكانية تفادي ارتكاب الموت في أدنى مستوياته إذا ما احتكمنا إلى التوقع والواقع والوقائع مقياساً، آخذين بنظر الاعتبار حالات الموت في أماكن أخرى وفي ظل ظروف غير طبيعة، فالموت هنا أو هناك لا يحدث آلياً، فهل يمكن اعتباره شرطاً جزائياً من شروط الحياة؟ ما ينبغي التأكيد عليه هنا أن الحاجة إلى الموت ترتبط بجوهر القيمة الكونية للشاعر، هذا ما يجب أن نعترف به دائماً. إن موت الشاعر حقيقة لا بد منها كي تبدأ أعماله الشعرية دورة حياتها غير أن هذه الدورة لا يمكن أن تجري إلا بحضور الشاعر وموته، في آن، ذلك لأنه مسؤول عن اتمام القصيدة بمعنى أنه أستطاع أن يصل بالفعل الشعري والحياتي والرمزي والجمالي إلى مستقره.
2 في المدن الفقيرة والقرى النائية والشوارع والمطر يمتلئ قلبك شعراً، يقفز مثل نورس نزق ويمتلئ شعراً وتظل القصيدة تؤلمك طوال البعد حتى تتمنى لو كان بوسعك أن تجعلها تكف عن الدوران . تحرق مزيداً من التبغ وتجادل صاحبة الحانة لكي تفوز بكأس من الخمر إضافية، تشتم الحرب والطغاة والغزاة وتبصق على الفقر والجوع ولكن، كل ذلك لا ينقذك من قلبك، أعني من شكل الكلمات الشعرية العائمة في الفضاء. يا كزار: كل الطرق مغطاة بالورد، والعصافير وصلت لتوها من أقصى الجنوب، وطفقت تذرع سماء مدينة الديوانية بحثاً عن طائرة ورقية ذاهبة إلى الله. أيها الشاعر: هل كنت تعرف أن الشمس تبزغ من الديوانية؟ هل يستطيع الشاعر أن يكون ما يشاء؟ ماذا يصنع الموت بالشاعر؟ حاول أيها الديواني الرائع أن تكتب إذا شئت، ولكني سأقول لك إن الناس هناك لايعرفون القراءة ولا يهتمون بها، فالشوارع متشققة والصراع الطائفي المفجع ينمو في كل ركن وقطعان الكلمات الكريهة تمزق عذرية القصيدة مثلما تقتل جمالية المعنى وتعبث بالدلالة وإذا كنت لا تصدقني فدعنا نتحدث عن الغموض وعن الوجه الآخر للكتابة. ما الذي تفعله المعاني بالنص؟ أو ماذا تصنع فيروز بالشاعر؟ فيروز والصباح صنوان، ما الذي صنعته بغداد بنا؟ بغداد والقصيدة صنوان، هل كنت أكثر ثباتاً من لحظات الشعر المجنونة؟ إننا جميعاً غرباء جداً رغم كل التواصل والاتصال وكلمات الحب المطفأة، كنت تقول: (لولا بغداد وفيروز ورسمية ما اقترنت ضفدعة بي والقى العنز عليّ الفضلات) هي حيلة موفقة من جانب الشاعر ولكنها مليئة بالألم، هل نسيت ما قاله الشاعر (ت.س.أليوت) ذات قصيدة: (اذا كان ثمة امرأة فهناك وردة في السماء) إن ذلك يحتاج إلى حفنة من الميتات، ما الذي يمكن لتلك الكلمات البيضاء أن تفعله حيال تداخل ملايين مروعة من لفائف الموت والحقيقة، لا شيء فالكلمات غير قادرة، أحياناً، على نقل المعنى أو الاحساس.
3 كثيراً ما تبدو الكتابة الشعرية للشاعر العراقي كزار حنتوش قريبة من الكلام الشفهي، أعني من حديث الناس، كأن القصيدة لديه في مثل هذه الحال ضد اللغة أو البلاغة ولكنها في ذات الوقت قريبة جداً من حرارة التخاطب الوجداني ويمكن القول إن لغته الشعرية هي بشكل عام لغة بلا كلفة تميل أحياناً إلى المباشرة، وقصيدته تتلون وتتعدد وتعيد إلينا في ذات الوقت أصداء الموال أو الأغنية الشعبية وهي تروي على مسامعنا حديثاً إليفاً يغمره الشجن، لنقرأ هذه المقاطع من قصيدته المسماة الجذور: (في الليل يعود ابي مهموماً/آثار الجص على دشداشته دوماً ويمسينا بالخير) وفي مقطع آخر من قصيدة بعنوان قصائد رسمية يقول: (قوديني كخروف ضال نحو ربيعك/خليني أرعى بين بساتينك/أنت الطين الحري وأنا الماء فلنمتزج الآن قيمر معدان) لم يكتب شاعرنا الراحل الشعر بطريقة الفذلكة لكن القارئ المتعاقد معه بميثاق النص المغاير الذي يكتبه يجتاحه نفس الخوف الذي ضيَّق عليه مساحة الكلمات ولتكملة تلك المسافة من رحلته الغامضة بخرائطها المرئية واللامرئية يحرص دائماً على تلك الخاتمة، لأن الخاتمة هنا هي أشبه بالتعويذة ونحن هنا لا نشير إلى التعويذة السحرية بل إلى التعويذة الشعرية الجمالية التي أصبحت سمة شعرية مميزة لديه وعليه نتساءل: اعطانا الشاعر كزار كل ما عنده من أزهار وقصائد ومحبة، فماذا سنعطيه في نهاية القصيدة؟ لقد سجل تجربة عذابه وقسوتها على نفسه فرسم لنا هذه الصور عبر هذا المقطع، فبالرغم من ركام القهر تفيض هذه المقاطع جمالاً ولوعة لنقرأ: (الدمع نشف والنسيان قتاد/لا كأس التيزاب نفع/لا عض الشفتين أفاد) بهذه اللوعة يبدو النص الشعري وكأنه بساط عراقي تعاونت أصابع الشاعر على غزل خيوطه، فلغته الشعرية تتمثل في أن كل شيء فيها يبدو متاحاً، الحياة، البلاد، الخمرة، الحبيبة، المدينة والأصدقاء، إنها عوالم الشاعر وتجلياته وتجاربه ومن حيث أن هذه تقول الأشياء كما هي وبشكل جمالي متكامل بحيث يعيد الفضاء الخاص بكلماته ولكي لا تبدو صياغاته الشعرية بلا رنين أو دلالة وكأن الكلمة، لديه، روح متحركة لا يبتدعها غير الشاعر العاشق، ذلك هو كزار وتلك هي قصيدته.
4 يتراءى لي أحياناً أن شكل الكرة الأرضية تشبه رأس شاعر متعدد الميتات وتأكد لي ذلك عندما رحل عنا إلى الفضاء الفسيح الكثير من شعراء الكون، كان وجه الشبه واضحاً بين شكل قصائدهم وشكل الحياة، هل تبدو هذه الحقيقة خارج الواقع؟ ألا تبدو أنها الرمق الأخير الذي يفجر الكلمات ويجعل الشاعر يصعد إلى السماء، إن غاية الموت هو قتل القصيدة، ترى ماذا تفعل القصائد بعد موت شعرائها؟ ماذا تفعل القصيدة برأس الشاعر؟ إنها اللغة الشعرية ذاتها، فاللغة ليست بديلاً عن الواقع، إنها وسيلة للتعبير عن التجربة والاقتراب من المعنى، هي تسمية الأشياء بأسمائها ودلالاتها، وقصيدة كزار حنتوش تبدأ من إعادة اللغة إلى اللغة، أي بمعنى الانطلاق من حقيقة الحياة إلى حقيقة المعنى وهي في ذات الوقت محاولة روحية متجددة لن يصنعها تفاؤل الإرادة أو الأمل، أعني إرادة الشاعر، مثلما اقترح (غرامشي) بل يصنعها تفاؤل العقل الشعري، أي القدرة على النظر إلى الطبيعة والواقع، العالم والكون وتسميته والأعتراف بحقائقه ومكائده ووقائعه من أجل الكتابة عنه أو تغييره، لنتأمل هذه العبارات الشعرية التي تتحرك في اتجاه ترسيخ لغة شعرية يصنعها الاعتراف والصدق والمكاشفة: (كلما تناولت القلم لأكتب/رسم الألف عود مشنقة/والراء سيفاً/والميم أنشوطة وكلما رفعت رأسي إلى النجوم لأسري عن نفسي صحبتني طيور أبابيل/كأنني اقترضت هذه الحياة من مرابٍ) إن ما يكتبه كزار من شعر يدل على مؤشرات فكرية/روحية متجددة تكشف الواقع مثلما تنصهر معه، من خلال السرد التخييلي والدلالي، وتسمي الأشياء بلغة طازجة سلسة يصنعها الكلام الشعري، بمعنى أن الشاعر يطرح رؤيته الشعرية بإطار فكري بعيداً عن البلاغة المفتعلة حتى وأن اخذنا بمقولة الناقد جوناثان تايلر: (يرتبط الشعر مع البلاغة) وبهذا تشكلت الملامح الشعرية الخاصة بشاعرنا، وهي ملامح ترفد تجربته الشعرية وتتحاور مع آخر مقترباتها، كما هو واضح في هذا المقطع الشعري: (لقد فعل العبوس بملامحي ما لم يفعله أحسن ‘ماكيير’ في سينما هوليوود) . في مثل هذا النوع من الموت يحق للشاعر أن يكتب ويجرب ويقرر أو يقونن ما يشاء من المعاني والإشارات والرموز.
|