المقاله تحت باب في السياسة في
09/03/2013 06:00 AM GMT
لم تدخل قصائد شاعر من الشعراء الى ورش النقد مثلما أدخلت قصائد السياب، ولم تتوان هذه الورش عن اجتلاب مناهج نقدية تعمل بمعزل عن مذاق هذه القصائد، فأخذت تفكك وتركب وتفترض وتقوّل القصائد وتحمّلها ما لم تحتمل وما لم يرد منها الشاعر ذلك المراد. على ان هذا الطرح لا يستثني الجهود القليلة التي قرأت ونقدت قصائد السياب لأنها قصائد وليست لأنها أطروحات تحتمل الفرضيات بأنواعها. فالمناهج السياقية ممثلة بالمنهج الاجتماعي والتاريخي والنفسي والأسطوري، والمناهج النصية كالمنهج الفني والمنهج البنيوي والمنهج الأسلوبي، إضافة الى المنهج التكاملي والمنهج المقارن، هذه كلها تبنت قصيدة السياب وأجرت عليها ما عندها من مقولات وإجراءات وتطبيقات هي أضعف من تنظيراتها. لكنها أفصحت عن أمور، منها: ـ عزل القارئ الذي يشكل ركنا كبيرا في قصيدة السياب جريا على جميع القصائد، والمقصود بهذا القارئ، ذلك القارئ الذي يصاب بعدوى القصيدة ويدخل مناخها وتضاريسها وهو على إحساس عال بزلازل القصيدة وهديرها، لا يحمل مساطر ولا مقاييس ولا أحكاماً مسبقة، وإذا صح لنا أن نسميه، فهو القارئ الفطري الذي ما زالت رادارات القراءة والتلقي ومجساتها عنده قادرة على الالتقاط البكر الصافي. والأمر الآخر، أن الخطاب النقدي طغى على موجة الإيصال التي طمح فيها الشاعر لأن توصل قصيدته عذراء الى القارئ، تحمل كل أوجاعها وجمالها وقبحها أيضا، بلا عمليات تجميل وترقيع وإخفاء عيوب وإبراز مفاتن غير موجودة في جسدها. وأمر آخر، هو أن السياب بذاته دخل برضاه الى مسرح إعلامي ليبشر به رائدا من رواد الشعر الحر بإجراء شكلي أزاح فيه وحدة البيت والعدد الثابت من التفاعيل (والتعبير السائد في الدراسات حطّم بدل أزاح) مسبوق به لأكثر من عقدين، (خليل شيبوب، وأحمد زكي أبو شادي...) ولم يثبت هذا الادعاء حول أسبقية السياب أو نازك الى ريادة الشعر الحر أمام الدقة البحثية، فتاريخ الشعر العربي الحديث يقول إن أول قصيدة منشورة تحت عنوان أو مصطلح (الشعر الحر) هي قصيدة محمود حسن اسماعيل في رثاء أحمد شوقي في شباط 1933. وتثبت القراءة الفاحصة أن قصيدة (هل كان حبّا) للسياب، وقصيدة (الكوليرا) لنازك، المكتوبتين في نهاية الاربعينيات من القرن الماضي، تكشفان بجلاء عن صدور كلتا القصيدتين/تجريبياً عن قصيدتي أنور شاؤول المنشورة في جريدة العراق سنة 1929 وقصيدة محمود حسن اسماعيل المذكورة آنفا. يضاف الى ذلك أن اعتراف السياب ونازك بتأثرهما بالشعر الغربي قد غلب على اعترافهما بالتأثر بشعراء المهجر وحركته أبولو خاصة، ولا سيما في التوجه الرومانتيكي لدى شعرائهم ومنهم محمود طه المهندس وأحمد زكي أبو شادي. لهذا أُنتج الخطاب النقدي حول السياب وكأنه مرافعات نقدية تحاول استحصال وثيقة ابتكار، وكلما اتسع البحث ظهرت منافذ وثغرات مهمة وأصبح القطع بالأحكام والدلائل بعيدا. فعدد التفاعيل في السطر الشعري أُنجز عليها كثير من النماذج الشعرية منذ الرابع الهجري، كذلك التدوير، ثم ما جرى على السطر الشعري في الموشحات الاندلسية خاصة، إذ كان منها ما يخضع للعروض ومنها ما هو نثري نغمي، تجد كثيرا منه في (دار الطراز في عمل الموشحات) لابن سناء الملك. هذا النتاج أو الخطاب النقدي بكل تفرعاته وإنجازاته، أثبت أننا نفهم الحداثة في مقصورات تشكيلية أو وزنية أو نثرية، لا من حيث هي أولا وقبل كل شيء تجربة جديدة عن رؤية جديدة للإنسان والعالم، في مقاربة جديدة للأشياء بلغة شعرية تجدد أشكالها وطعومها. ولذلك ضاع السياب الشاعر وقارئه المصاب بالعدوى في خضم الدراسات والتعليقات والمرافعات والبحث عن إنجاز (يحطم) البيت الشعري العربي أو يستثمر الوزن بصرفة ما أو يجد تصالحا بين النثر والوزن على الأقل. مع أن ناقدا مثل أبي حيان التوحيدي قال قبل ما يزيد على الألف سنة: إن خير الكلام ما كان نظماً في ظل نثر أو نثراً في ظل نظم وسماه (الانتثار) بالثاء.
رحل النهار
منذ القراءة الاولى للسياب وبدون معرفة سابقة به وبمأساته ومرضه وتداعياته، كان في ديوانه (منزل الأقنان) وخاصة منه قصيدة (رحل النهار)، قصيدة قد طغت في تأثيرها على قارئ تلميذ يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما في الدراسة المتوسطة قرأ هذا الديوان بعد قراءته في اليوم نفسه لديوان أوس بن حجر، وكانــت قصيدة (رحل النهار) أكثر مذاقا وطعما ونقــاوة توصيل من قصــيدة (أنشــودة المطر) التي هي امتداد للرجــز العربي وقد فــشي فيها النظم وقيّد العبارة مثلما فــشي عليها إعجــاب المدرســين المتوارث الســياقي فنــقلوه الى تلاميذهــم ليختــصروا السياب بها. لقد كان السياب مفترقاً مهماً جعل هذا القارئ يبحث عن الشاعر الحر وليس عن الشعر الحر، إذ ان الأشكال لم تشكل عائقا أمام الإبداع ولهذا ظل الشعر حرّاً في جوهره يحتل أي شيء شكل يشاء، ومثلما ان قدم الأشــكال لم يعق الإبداع، فإن حداثة الأشكال كما يزعم من زعم لم تنفع كثيراً من التجارب الفجة. لهذا وجد هذا التلميذ القارئ للسياب أن مشكلة الشاعر الحر لم ترس لها حلول أو نظرية على الأقل تقود الى تطبيق يصح على كثير من القمم الشعرية، على أن الشاعر الحر موجود هناك في الــكواليس خلف الواجهات وفي طرقات الإبداع الوعرة التي هي صعبة المرتقى على الباحثين عن الجاهــز والمصطف والمجتلب قديما وحديثا. وعلى هذا القياس البسيط فإن السياب لم يكن شاعرا حرّاً ولا شعره، فهو كان متذبــذبا بين أن يختار أو لا يختار. ولذلك أصبح سهلا هو وشعره علــى الدراسين. ثم أدخله الإعلام المتعاطف الى مصاف الرمز وظل الحكــم الحقــيقي عند قارئه المستبعد الذي تم اغتياله مع الشــاعر، وهو وحده (القارئ) الذي يشم روائح قصــائد الســياب ويتمثل المضيء منها وهذا على قلته فإنه إبداع سيابي لا يندثر باندثار بويب.
الخراف المهضومة
قارئ السياب يؤمن بأن الشعر كلام مقيد غير حر، ويفرّق بين الكلام الشعري والشعر في جوهره المتغلل في الأشياء والأفكار، وهو جوهر لا يختلف عن السحر إلا في الأدوات، وإن كان العرب قد وصفوا البيان بالسحر، كما في الحديث النبوي الشريف. وقارئ السياب يؤمن أيضا بأن لا شيء أكثر ابتكارا ولا أشد شخصية من أن يتغذى الإنسان من الآخرين، ولكن ينبغي هضم هذا الغذاء، فالأسد مكوّن من كباش مهضومة. كما قال بول فاليري. ولقارئ السياب أن يؤمن بأنه لا يوجد شعر قديم وشعر جديد، بل هناك فقط شعر جيد ورديء، مضيء ومطفأ. فلو كان الأمر على الأشكال والتقليعات والقدم لما قرأنا قصائد تعود الى مراحل زمنية قبل الميلاد، وليس لهذا تفسير سوى أن هذه القصائد ما زالت شفرتها تضيء وتنمو، والامثلة كثيرة على ذلك. والعجب ممن أراد أن يطيل قامة السياب بالاعتماد على ما وجده من (ثورة وتحطيم) لشكل البيت الشعري العربي المتوارث، وهو يغفل عن أن الفارق بين الشكلين في إنجاز السياب كان ضئيلا جدا. فقصائد السياب بلغت مئتين وأربعاً وعشرين قصيدة، منها مئة وإحدى وعشرون مما يسمى بالشعر الحر، ومئة وثماني عشرة قصيدة مما يسمى بالشعر العمودي. فضلا عن أن السياب حاول تطويع البحور المركبة كالطويل والمديد والخفيف ولم يفلح في تجربته، لأن النظم عنده كان يصارع العبارة ويقطع السلسلة اللغوية وتدفقها ويحولها الى نظم متشنج في أغلب القصائد حتى الرجزية منها كما في أنشودة المطر. من بين جيش من النقاد استطاعت الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي أن تنصف السياب بقولها في دراستها (السياب والتجديدات الشعرية، مجلة نزوى، العدد6، يوليو1996): «إني أشعر إذ أدرسه بأني أدرس مشروعا لم يكتمل، وبأن الحكم على إنجازاته حكم منقوص، لأننا لا نعرف كيف كان شعره سيتجه بعد ديــوان (أنــشودة المطر) لو لم يضطر الى الاستسلام الى المرض والذكريــات والتــشوقات الشخصية». فالسياب اغتيل شاعرا منذ أن أدخلت قصائده الورش النقدية التي كان همها كتابة خطابها لا قراءة السياب شعريا، وضاع ذلك الشاعر الذي كان يشكل بينه وبين قصيدته حراكا جماليا يتذبذب بين الفطرة والتصنع وهو يسعى جاهدا ليصبغ نصه الشعري بأصباغه هو، بعد أن استقى من موارد كثيرة متنوعة وجلب أدوات أكثر وحاول تطويعها لخصوصيته الجنوبية العراقية، أي حاول أن يصطاد بكل تلك الأدوات ما في جيكور وبويب والعراق من شعر ليعمل حتى المرض ويخاطب قارئا يقرأه حتى المرض أيضا، لأن قارئه فيه نشوة الطفل الذي خاف من القمر، قمر جنوبي يتخفى بين غابات النخيل. وقد فصل الدارسون بين السياب وقارئه حد الاغتيال. فمتى نذهب لاكتشاف هذا الشاعر الكبير بقارئه، وننزله عن المسرح الدعائي والإعلامي والدراسي ونجلس معه على ضفاف بويبه الحزين كالمطر. فهذا الشاعر على عكس قياس بول فاليري، أسد أكلته خرافه المهضومة.
|