شعب يتقاسم الضحك والبكاء والدمدمة! |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات ميسلون هادي تدخل مرحلة اللاعودة، منطقة المسؤولية عما تكتب، نقطة الكتابة حتى آخر العمر، يقال عن ذلك كله ( هذا كاتب مكرس ) لايمنعه شتاء اذا جاء الثلج وغطى الدنيا، ولا صيف اذا غمر الارض الاحتباس الحراري وتلاعبت بها طبقة الاوزون، الكاتب المكرس هو الذي تجاوز الصعوبات وبات يكتب في الربيع والخريف، وأحلى مرحلة في حياة هذا المبدع هي احساس الآخر به، في دخوله تلك المرحله التي لانقاش فيها مادام الاديب قد اثبت وجوده القاطع على خارطة الإبداع، ونقول هذا الكلام عن مجايليه، كما نقوله عن رموزنا القصصية والروائية أمثال: لطفية الدليمي، محمد خضير، عبد الخالق الركابي، جنان جاسم حلاوي، طه حامد الشبيب، وارد بدر السالم، لؤي حمزة عباس، وفاضل العزاوي، كما نذكر بحب كبير: جليل القيسي وموسى كريدي ومحمود جنداري. الذاكرة الجمعية العربية، شهرزاد الأولى، ميسلون هادى، شهرزاد الثانية، هل يمكن تخطيط الرواية هكذا؟ أجل، الراوى العليم الذى يرى كل شيء، من ملحمة جلجامش الى يوم السقوط الحاسم، مروراً على بيت النبي ابراهيم القريب من زقورة أور، حيث نصغي الى الشاعر زامل سعيد فتاح وهو يدندن قرب قطار الناصرية (مشيت وياه للمكير أودعنه) ولاتدري ماذا تخبىء ميسلون هادي في رواية من نمط الكوميديا الفاجعة، حيث نرى أول امرأة تتذوق البيرة في العراق، وبقدرة السيد الرفاعي تتحول فتاة خرساء الى ( لبلبان )؟ متعة، هذه الرواية مأساة في قالب من الشيكولاته، متعة حقا، فيها جبار عكار وعنتر وعبلة وأبو زيد الهلالي، وفيها الزعيم الذي ( زيّد ) العانة فلساً، حزمة من مذكرات الارض التي انجبت عمالقة واقزاماً، عباقرة وأغبياء، من الملا عثمان الموصلي الى محمد عبد الوهاب الذي ( لطش ) آغنية ( يللي زرعتوا البرتقال يله اجمعوه ) . الرواية تميل جنوبا وشرقا، ثم تأخذنا شمالا وغربا، أسماء مازالت في الذاكرة، شهرزاد تقول: لا تكرهوا من هو أفضل منكم بل تعلموا منه شيئاً واحداً فتصبحوا افضل منه، وهي تحاكي شهرزاد القرن العشرين، بالتالي مع ميسلون هادي، وثانية مع روح شهرزاد الاولى، متعة، أكرر قولها بسبب كثرة المفاجآت بين فصل وآخر، ولعل اهداء الرواية الى ( سهيل سامي نادر) اول تلك المعزوفات الباهرة على قيثارة الذهب السومرية.
متشعبة، مكتظة بالاسواق والاسماء والبغداديات، لو احصينا المذكورين من الاعلام (وفهرسنا جدولا ً بهم) سوف نحصل على خارطة تشمل المئات من امثال معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي حتى نصل الغناء والطرب الممتع مع زهور حسين وحضيري ابو عزيز وداخل حسن وكثير من المعلومات عن المكتبات تحكي فيها شهرزاد بجوار النهر المائج بالبشر أيام رمضان والزخارف والشناشيل والمأكولات التي يصنعها الصابئة واليهود والمسيحيون والمسلمون وتراها بخاصة في مطعم تاجران وابن سمينة، هي شهرزاد التي رأت ورمت حجارتها في النهر المائج طلبا للنجاة من الحروب وقساوتها. التنوع بين الماضي وغرائب احداثه وبين الحاضر وعجائبه، أدهشني، كل يبحث عن عشبة الخلود من جلجامش الى أوتنابشتم وانتهاء بالسلاطين والامراء والملوك والخلفاء، وليس من أحد باق على وجه الارض، عندما نتذكر من عاش بيننا وراح ذات لحظة ولم يعد في الذاكرة الا بعض افعاله، تصيبني الدهشة فعلا، انهم اكثر مما نعتقد، أعني عدد الموتى، الغياب اكبر حجما من الحضور وذرف الدموع اغزر من البكاء، لهذا احب الروايات التي تبيع الضحك وتبعث على قراءتها اكثر من مرة . اتذكر ضاحكا معها صابون لوكس ( الذي تستعمله تسع من كل عشر من نجوم السينما) ايام كنا نعتقد ان لا صابون غير لوكس ولامنظف غسيل غير تايد ولا زعيم الا كريم ولا دشداشة غير صبغ النيل ( ياسلام، الذاكرة تلعب بسرعة عجيبة ومضحكة ايضا ) تقرأ وتبتسم ويختلط الامر بين النشوة مع أمثال غريبة ( لاتقل سمسم حتى تلهمه) و( يموت الزمار واصابعه تلعب) وترجع الى حقبة من المضحكات المبكيات مع مسرح جعفر لقلق زاده ( المشهور بحبزبوز) وفخري الزبيدي ورضا الشاطي ومربعات فاضل رشيد واخوانيات قرندل، ثم تستيقظ شهرزاد على جزء مختلف من ذكرياتها وذكريات بغداد مع حسون الامريكي ومايكل جاكسون، وهل من احد كان يعرف شكسبير وانطون تشيخوف والفريد فرج ؟ عالم مجنون ينتحر، أبطال من قشعريرة تثير العجب، فرجينيا وولف وجيمس جويس ووليم فوكنر، الصخب والعنف، ثم نقلب المثلث فيأتي العكس من الاشياء والشخصيات، نادية الجندي ( بالمشمش) وهيفاء وهبي وكلاب القصر تبحث بين القمامة عن طعام خمس نجوم، بعدها تأتي جمهرة من نقاد آخر زمن ( البنية الفوقية بآدابها وفنونها تعكس بأمانة ماتنطوي عليه البنية التحتية من علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية ، وان النظرية الماركسية تعد كل من لا يلتزم بهذا الطرح رجعيا متحللا) ص 68 وهذا بعض من النقد الذي جاء به لوكاش. سخرية من زمن طافح بالموبقات يطير فيه التمساح. نحو زمن يمعن في الهلع والتعذيب والخوف المعلب في قنان، كان من الممكن بيع الهواء في قنان لولا أنهم رحلوا كما رحل قبلهم عبدالسلام عارف الذي قال في واحدة من خطاباته المضحكه: جمهوريتنا اشتراكية وطنية إلهية خاكية لا قصور ولا حاكم ولا محكوم حزب واحد وأمة واحدة لا شرقية ولا غربية لاشمالية ولاجنوبية، لا جوني ولا جون بول، بل حمد وحمود، لا اقطاع بعد اليوم ولا ثلاجات ولا تلفزيونات ولاطبقات، بل حرية وعدل ومساواة ! خطاب اعوج افلج غير مفهوم يقوله عسكري لم يقرأ في حياته كتابا واحدا، هو نفسه الذي قال ذات مرة : ان القيام بانقلاب عسكري اسهل عليّ من التقاط صورة فوتوغرافية. احيانا اسأل نفسي كما سألت ميسلون هادي نفسها: من يدري ان كانت أم كلثوم شريرة أم طيبة لو لم تكن تغني؟ والسؤال نفسه نطرحه على الناس المشاهير، بينما يذهب ملايين الناس في صمت مطبق بين ( العادية ) والطيبة من جهة وبين الوحشية والبلطجة من جهة اخرى، الناس اجناس كما يقال، علمتنا السينما عادات لاتشبه عاداتنا التي ربونا عليها، وميسلون هادي تذكر الخيال الجامح الجميل الذي جاء به ميل جبسون وتوم هانكس وشيرلي ماكلين وبراد بيت وجيمس ستيوارت وجاك ليمون، وتذكر جملة من أشرطة جلسنا أمامها بخشوع كمن يصلي ويبتهج ويبتهل امام المذبح والمسجد والكنيسة. ستون ألف فكرة، ميسلون تعيش الاحداث الساخرة والهازلة ، العبثية والحزينة، هي نفسها تقول: ستون ألف فكرة منذ أول فصل حتى آخر صفحة، لكنني أضع ( شهرزاد التي رأت) في مكان ( لحية القاضي ) و( شريف روما ) بدلا من ( شعيط ومعيط وجرار الخيط ) وميسلون على مايبدو تكتب عنوان الفصل قبل أن تبدأ به، خذ ( شريف روما ) الذي تحكي فيه عن أول مسرحية في بغداد من اخراج ( جورج ابيض ) وكيف جاء بالكومبارس من المقاهي البغدادية ودفع الثمن خمسة فلوس لكل واحد، وكيف رأى الناس علوان ابو العرق وعبود النشال ورزوقي المطيرجي، وكانت فضيحة بلا حدود. أقول: لو كانت ( شريف روما ) في مكان ( عربة همر للاله مردوخ ) لكان الحال أدق انسجاما واكثر حضورا في ذهن القارىء، لكن يبقى ذوق الراوي هو أساس اللعبة، والرواية لعبة مدهشة إذا أتقنت رسم شخصياتها، وأتقنت رسم زمانها وهندسة مكانها، وأقول ثانية: إن ميسلون هادي دخلت مرحلة اللاعودة، هذا مصيرها مع الكتابة، كاتبة مكرسة ومبدعة مسؤولة عما تكتب. إحذر أن تسأل: كيف صادف أحد أبطالها أن رأى فاتن حمامة وجان جينيه ويوسف شاهين وكوفي عنان وكاظم الساهر في أروقة الوزارة، متى وكيف ولماذا؟ ربما هي( نكتة) أخرى، لو رسمت لهم باباً على الحائط لتزاحموا للخروج منه، أنا فعلتها ذات عام، عندما كتبت رواية (حمار على جبل) ازدحمت بالطرائف في عز المأساة، وكتبت في نهاية الكتاب من أسهم في تلك المضحكات، لكن ميسلون هادي لم تترك لغيرها أن يأتي بمثلها، فقد قالت كل شيء من الباء الى الياء ومن الخشخاش الى شجر القيقب الذي تشتهر به كنداص 150. حتى الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي قليلاً ما يضحك، له حصة في الرواية إذ يقول: شمّرتُ عن عضدي وقلت، أزحزح القفل العتيق، لم أدر أن الباب أقفل من ورائي، لم أدر إن كنتُ الحبيس، أم الطليق؟ في جماليات الكتابة، من أولى دهشة إبداعها، الرواية التي ترتبط بالانسان، هناك رواية تتركها بعد ملزمة واحدة، وغيرها تركض معك تريد أن تعرف البقية، أنا مثلاً قرأت (موسم الهجرة الى الشمال) أكثر من مرة و( الساعة الخامسة والعشرون) ثلاث مرات على طولها، وبعض الأعمال (صحراء التتار، الميت الحي، تيريزا باتستا تعبت من الحرب، لاعب الشطرنج، الأخوة كرامازوف) ألهمتني بكتابة رواية أو قصة قصيرة بعد قراءتها، ولم تمر مرور الكرام كما هو الحال مع روايات أنتم تعرفونها! عاشت شهرزاد، الذاكرة الكوزموبوليتانية العربية أكثر من غيرها، منذ كان ثمن برميل النفط دولاراً واحداً، منذ إشارة النصر التي ابتكرها ونستون تشرشل، منذ أن صار لأم كلثوم بندقية وأرادت أخذها معهم الى فلسطين، الى ربى حزينة كوجه مجدلية، منذ أول (منذ) تكررت في كتاباتنا، العالم هكذا يتغير، الموت هو الحق النهائي، وماذا حدث في حياة شهرزاد ( الحياة العربية) ابتداءً من موت عبد الكريم قاسم وجمال عبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ؟ صارت المفاجأة تضرب في العمق، كل يوم، ليس من يوم بلا مفاجأة، حلويات تشبه طعم الدواء، سندباد في ألف ليلة وليلة وأوليس في الأوديسة وسانتياغو في الشيخ والبحر، الى ما قبل الميلاد ب(5800) سنة ومثلها بعد ذلك، يوم احترق التاريخ مرة ثانية ونهبوا المتحف والآثار والأبجدية كلها! وما زال حفيد ال (بي بي سي) يقرأ أخبار الساعة، إذا كانت الأخبار بلا مفاجآت فلا طعم لها ولا رائحة، ولعل الموت هو المفاجأة الأعظم بين بقية الأخبار. تبدأ الرواية من الحضارة العظيمة قبل الاف السنين، وتنتهي برجل يرفض مصافحة المرأة، بل يرفض حتى أن يفكر بذلك، سحب يده جانباً ووضعها على صدره واستغفر الله. ......................................... .حفيد ال( بي بي سي). ميسلون هادي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. رواية 2011 بيروت. التاريخ : 23-11-2012 |