فلسفة الحياة والموت في (مشرحة بغداد) لبرهان شاوي |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات صدرت عن «الدار العربية للعلوم» (ناشرون) رواية جديدة للكاتب بُرهان شاوي تحمل عنوان «مشرحة بغداد». وتعني المشرحة لغويا «المكان الذي تُشرّح فيه الجثث لمعرفة سبب وفاتها أو الذي تُحفظ فيه الجثث مجهولة الهوية»، لكن هذه الرواية الكابوسية الصادمة لا تكتفي بهذا المعنى الحقيقي، وإنما تتعدّاه إلى المعنى المجازي الذي يجعل من بغداد برُمتها أو العراق كله مشرحة مهولة تبث الخوف في قلوب الناس. وقبل أن نلج إلى فضاء الرواية يذكرنا الكاتب بآية قرآنية شديدة الدلالة والتعبير ترِد على لسان مريم بنت عمران حيث تقول «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا». ومن هذه الرغبة الجامحة في الموت يقودنا شاوي إلى عبث الحياة الذي لا طائل من تحته حينما يضعنا وجها لوجه أمام هذا المقتَبس الإنجيلي الذي يقول «رأيتُ كل الأعمال التي عُملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض ريح». لا شك في أن العبث هو تيمة فلسفية عظيمة قد تشكل جزءا من العالم الفانتازي الذي أبدعته مخيلة برهان شاوي المجنحة، لكن الإشارة الذكية إلى المقتبس أعلاه تمهد للقارئ طبيعة الفضاء العبثي الذي ينتظره بين دفتي هذا الكتاب الخطير الذي ارتفع إلى مستوى المحنة التي عاشها العراقيون عقب سقوط النظام الشمولي السابق، وهيمنة سلطة الإرهاب الدولي من جهة، وإرهاب السلطة الذي تمارسه الأحزاب والمكوِّنات الدينية المتصارعة على سدة الحكم من جهة أخرى. مثلما ينحاز العنوان إلى المعنى المجازي، وتتجسد الأحداث في عالم افتراضي متخيل، لكنه يتطابق كليا مع الواقع العراقي المُفجِع، فإن أسماء الشخصيات تختار أبعادها الرمزية لتحيل بوضوح تام إلى جدنا الأول آدم، وسيدتنا الأولى حواء، وإن تعددت الألقاب التي أسندت إلى هذين الاسمين في النص الروائي. من هنا ينطلق الترميز لينداح في غابة السؤال الفلسفي المؤرق الذي يناقش ثنائية الحياة والموت، أو بالأحرى الموت في الحياة من جهة، أو الحياة في الموت أو بعده، كما حصل لشخصيات المشرحة كلها، من جهة أخرى. ولكي نحتمل صدمة الأحداث المروعة المتلاحقة استهل شاوي الفصل الأول من روايته بذبح الضحية «هادي» بسكين المطبخ من قبل مجموعة إرهابية أجبرته على الاعتراف بأنه من عناصر «جيش المهدي»، وأنه يتجسس لمصلحتهم فحل عليه القصاص. لقد أفاد شاوي من المعطيات السينمائية كثيرا، فهذه الحادثة الكابوسية المرعبة قد صورت بكاميرا عادية، كما أن المصور غير محترف، ومع ذلك فإن عملية الذبح واضحة في تجسيدها للمشهد المرعب الذي يبث الذعر في نفوس المشاهدين. لقد عثرت الشرطة على هذا الشريط في منزل أحد النواب إثر عملية دهم مفاجئة، وتم تسريبه إلى الأسواق على أقراص مدمجة من قِبَل بعض الشخصيات الحكومية المتصارعة على السلطة. وقد اقتناه آدم، حارس المشرحة، وشاهده في غرفته الواقعة في الطابق تحت الأرضي فانقلبت حياته رأسا على عقب، كما أثارت في أعماقه ثنائية الوجود والعدم، وسر الحياة، ولغز الموت ومعانيه الطلسمية الغامضة. يُخيّل للقارئ الذي يسترسل في قراءة هذه الرواية أنه أمام نص روائي تقليدي يعتمد على البطل الواحد، والتيمة الواحدة التي تتسيد على مدار الرواية، لكنه ما إن يتجاوز الفصل الأول حتى يشعر بأنه أمام رواية بوليفونية متعددة الأصوات على الرغم من هيمنة شخصية آدم الحارس، وأن الرواية برمتها هي نص سوريالي بامتياز، ولا يمكن تصنيفه إلا في إطار النصوص الفانتازية أو الغرائبية أو الكابوسية الصاعقة إن شئتم. لا أريد أن أستبق الأحداث وأكشف عن النهاية العجائبية التي تدلل على براعة شاوي وقدرته على كتابة نص إبداعي متفرد قد لا أغالي إذا قلت إنه من نسيج وحده في المشهد الروائي العراقي في الأقل. لقد نجح شاوي في بناء شخصياته بناء دقيقا محكما يقنع القارئ بالمناخ الفانتازي الذي تعيشه كل شخصية على انفراد، ولعل أبرزها شخصية آدم الحارس «المعقدة» و«المستديرة» في آن معا. وبواسطة آدم أدخلنا الروائي في لعبة الحقيقة والوهم التي نجح فيها أيما نجاح حينما أقنعنا بسماع آدم لوقع خطوات في ممر الطابق تحت الأرضي ووصولها إلى غرفته ثم مغادرتها إلى قاعة الجثث التي لا تبعد كثيرا عن غرفته. كما عزز هذه اللعبة حينما أقنعنا أيضا بأن الفتاة القروية القتيلة قد «فتحت عينيها برعب ونظرت إلى وجهه، ثم أمسكته من ياقة قميصه ساحبة إياه إليها». وحينما شعر بالفزع ولى هاربا تاركا إياها واقفة عند باب الجثث وهي تبتسم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الفتاة المغدورة التي قتلها أخوها الأصغر غسلا للعار لم تكن حاملا كما أثبت التقرير الطبي، وإنما كانت تعاني من التهاب في المبيضين سبب لها انتفاخا زائفا حفز الأخ المتهور على طعنها بسكين أسفل القلب. وأكثر من ذلك فإن هذه الفتاة القتيلة تشبه نيكول كيدمان التي جسدت دور الأم في فيلم «الآخرون» الذي يكشف أن جميع أفراد العائلة والخدم هم الأموات، وأن الأرواح التي تسكن المنزل هم الأحياء الحقيقيون، الأمر الذي يكشف جانبا من ثنائية الموت في الحياة أو الحياة في الموت التي أشرنا إليها قبل قليل. على الرغم من أن آدم الحارس لم يُكمل تعليمه الثانوي، إذ توقف في المرحلة الأخيرة منه، فإنه كان يتعمق في قراءة كتب الفلسفة، وعلم الجمال، ويشاهد الأفلام السينمائية والإيروسية بواسطة الأقراص المدمجة التي يشتريها من الباب الشرقي، هذا إضافة إلى تعلمه اللغة الإنكليزية وكأنه يريد أن يعوض عما فاته في الدراسة الرسمية. تجدر الإشارة هنا إلى إحساس آدم بالعزلة الداخلية، وشعوره الحاد بالوحدة هو الذي عزز قطيعته بالآخرين، ومنحه فرصا أطول لتأمل ذاته الإنسانية المعقدة. يتوفر هذا النص على مشاهد كابوسية عديدة، بل يصلح أن يكون النص برمته فيلما من أفلام الرعب و«الزومبي»، ففضلا عن انتقاداته اللاذعة للأطباء الذين يتاجرون بالأعضاء البشرية المسروقة، أو لبعض معاوني الأطباء الذين لا يجدون ضيرا في مضاجعة جثامين النساء المتوفيات حديثا، فإن أحداث الرواية تتوفر على مشاهد كابوسية مرعبة، مثل شق الجماجم بالمناشير الكهربائية أو فتح القفص الصدري بالساطور وما إلى ذلك من مشاهد قاسية لا يتحملها الكائن البشري الاعتيادي. لم تقتصر هذه المشاهد المرعبة على ما يحدث داخل المَشْرَحة، وإنما تتعداها إلى ما يحدث على أرض الواقع من ذبح بالسكاكين، وقتل بكاتمات الصوت، وتشويه بالمتفجرات، وسادية مفرطة في الاعتداءات الجنسية على النساء من جهة، والعذراوات من جهة أخرى. كل هذه الحالات الشاذة إضافة إلى عمله في المشرحة هو الذي قلب حياته رأسا على عقب، وغير من قناعاته وأفكاره القديمة الراسخة، فالنهد النافر الذي يتغنى به الشعراء يتحول في المشرحة إلى كتلة بشعة من مادة لزجة مقززة، الأمر الذي أجهز على رومانسيته القديمة، ودفن شاعريته التي كانت مستيقظة ذات يوم. لا يمكن الوقوف عند مجمل التحولات الفكرية والنفسية التي مر بها آدم الحارس، ذلك لأنها تمتد من الهنود الذين يحرقون جثث موتاهم إلى سكان المايا الذين يشقون صدور الأسرى، ويخرجون قلوبهم وهم أحياء، ثم يدحرجون رؤوسهم من أعلى المعبد الذي يشبه هرما فرعونيا. تتشابه أسماء الضحايا والجلادين، رجالا ونساء، في هذا النص، بدءا من آدم الحارس، مرورا بآدم صاحب فندق «السعادة»، وآدم الخبّاز، وآدم كاشف الغطاء، وآدم أبو الكرامات، وآدم أبو المحاسن، وآدم أبو المجد، وآدم العسكري، وآدم أبو النمر، وآدم العراقي، وآدم السعيد، وآدم التاجر، وآدم الشيخ، وآدم الروحاني، وانتهاء بآدم الصغير الذي سيلوي عُنق النص ويكشف عن كل جوانبه المخبأة أو التي أجلها المؤلف لكي يستغرق في لعبته الفنية التشويقية حتى النفس الأخير. كما تتعدد الـ«حواءات» حيث نلتقي بحواء المفتي، وحواء هانوفر، وحواء البغدادي وهكذا دواليك، لكن لكل شخصية من الشخصيات أعلاه عالمها الخاص، وقصتها الفجائعية التي تنطوي على قدر كبير من القسوة والدرامية والمأساة. حاول شاوي في «مشرحة بغداد» أن يرصد كل مظاهر القسوة، والاغتصاب، والتعذيب، والعنف المفرط التي شهدها المجتمع العراقي منذ عام 2003 وحتى الآن. وبعد أن نجح في إيهامنا على مدار النص بأن كل الأحداث التي كانت تقع «حقيقية» على الرغم من فانتازيتها، وكابوسيتها، وتداخل الحلم والواقع فيها، يكشف له الصبي آدم الصغير أنه ميت مثل الآخرين، وهو ليس أكثر من جثة من الجثث التي تملأ المشرحة، وتعبر على الجسر المقابل لها، وتملأ شوارع بغداد. كما دعاه لأن يتحسس أثر الرصاصة على جبينه ليتأكد من موته. وهنا تكمن براعة الروائي برهان شاوي الذي حافظ على إيقاع العمل الفانتازي وزخمه طوال الزمن الروائي، وادخر النهاية الصادمة حتى الصفحات الأخيرة من الفصل الثاني عشر، كاشفا القسم الأكبر من الحياة العراقية المرعبة عقب سقوط بغداد واحتلالها من قبل القوات الأميركية وهيمنة الأحزاب الدينية على المشهد السياسي في ما يُطلق عليه بـ«العراق الجديد». ربما لا تكتمل صورة العنف والقسوة والخراب التي رسمها شاوي في هذه الرواية من دون الوقوف عند بعض الشخصيات النسائية والمصائر المفجعة التي انتهت إليها. فحواء المفتي التي كانت سجينة سياسية في زمن الطاغية، وقد أُعدِم زوجها لأنه كان شيوعيا، كما أعدم خوها لأنه كان إسلاميا، قد زُجت في السجن مرة أخرى، وتم اغتصابها غير مرة من قبل ضابط اتخذها عشيقة له، واحتفظ بالطفل الذي أنجبته له من دون أن يسمح لها برؤيته. وحينما تمادت في المطالبة بابنها خطفها اثنان إلى مكان مجهول حيث تم استجوابها من قبل شخصين أنيقين بلحى خفيفة ثم اغتصبها آخران قبل أن يطلق أحدهما النار على صدرها ويرديها قتيلة في الحال. لا يختلف مصير حواء هانوفر المأساوي عن مصائر بقية شخصيات النص الروائي الذي يكشف عن الطبيعة السوداوية التي أحاطت بالشعب العراقي. فقد تزوجت مرتين حيث قتل زوجها الأول على يد أخيه الذي كان متدينا، لكنه لا يجد حرجا في التحرش بزوجة أخيه والإعلان عن رغبته الصريحة في ممارسة زنى المحارم. وحينما تعود إلى العراق بهدف استرجاع ممتلكاتها والحصول على الأوراق الثبوتية كالجنسية وجواز السفر تلاقي حتفها، إذ تذبحها شظية من الوريد إلى الوريد. يعري شاوي الشخصيات التي تتاجر بالدين، وتتخذ منه وسيلة لتحقيق مآربها الاجتماعية والسياسية والجنسية كما هو الحال في شخصية آدم العراقي الذي يتعرف على حواء البغدادي في أحد المحال التجارية، وتدفعها أمها لممارسة الجنس معه بغية ابتزازه ماديا، لكن هذا الأخير يستعمل منزلته الدينية المزيفة ويودي بحياة الأم وعشيقها، لكن هذه الأخيرة تعترف لحواء بأنها ابنة رجل اسمه آدم كاشف الليل الذي ينحدر من عائلة متدينة، لكنها أحبت رجلا آخر ثم اكتشفت لاحقا أنه ضابط أمن وهو الذي قبض على والد حواء وخالها، إذ أعدم الأول في سجن أبي غريب، فيما مات الثاني تحت التعذيب. رصد برهان شاوي في «مشرحة بغداد» كل معالم الحقبة السوداء التي مر بها العراق عقب سقوط بغداد، وهيمنة الأحزاب الدينية في ظل الانفلات الأمني الذي لم يعرفه العراق من قبل، حيث طفحت إلى السطح مثالب هذه الأحزاب وطواياها السيئة التي أحالت البلاد إلى جحيم لا يطاق، وحولتها تماما إلى «مشرحة» كبيرة تعج بالموتى الأشباح. إنها باختصار شديد رواية أمينة وجريئة لا يستطيع أن يكتبها إلا مؤلف شجاع يمثل آراء الغالبية الصامتة التي رأت كل شيء وهي تحدق في وجوه القتلة بعيون مدهوشة. |