المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
04/10/2012 06:00 AM GMT
(صدر كتاب"أحوال ومقامات" عن دار فضاءات-عمّان،2011)
"أنا أقول وأنا اسمع فهل في الدارين غيري" الشبلي
1- فصل البدايات
ميلاد فردان:
حين أطلّ فردان من بيته في باطن الشجرة لم يصدّق عينيه: كانت الأرض حمراء والنهر أحمر والقطعان أحجاراً مبعثرة قال فردان: "تبّاً" ثمّ عاد إلى النوم في بيته في باطن الشجرة
"فردان فردان" قالت الشمس فلم يفتح
"فردان فردان" قالت الأرض فلم يفتح
كان فردان كالجنين يتكوّر في باطن الشجرة
ما رواه فردان عن مدينته:
خطط وقبائل ونخيل كأنه غرس يوم واحد، وقبور لمشاهير في البادية. ألسنة ومقامات وجامع كالسفينة باقٍ بلجّ الخراب ، وغارات بدوٍ وفاتحون. مدينة آجام وبطائح. عدنانيون وقحطانيون، جبريون وقدريون، دهريون ونسطوريون، عثمانية ومعتزلة، معتزلة ومعتزلة، أعراب وموالٍ، زط ونبط، بخارية وأساورة، أتراك وديلم، زنج وقرامطة، مغيرية ومنصورية وكاملية وكيسانية ومجوس، بكاؤون وقصاص، مكدون وقرّادون، متكسبون طوّافون، وحواؤون، وأصحاب صنائع، وحفظة نوادر،ولغويون ومسجديون وبحريون ومولدات ذوات ألسنة عذبة ونهاريات يتزوجن نهاراً ويطلقن في الليل، وقيان ووليات.
البصرة الفسيفساء مدينة المدن التي غبرت بأسواقها التي استوقفت الخليل، ونقائضها التي شطرت الأسواق، برجزها وعلوم حديثها، بنحوها القاتل وقتلتها النحويين، بشعرائها الذين مزجوا الفصاحة باللحن عامدين ليكونوا كتاباً مفتوحاً للبصرة على الجهات الأربع. مدينة الولاة الجائرين منذ المغيرة وانتهاءً بالمغيرين الذين زنوا بالمدينة قبل العدوّ. عدوة الأمويين، عدوّة العباسيين، ومن تلاهم من الحكام. مدينة أشعلت نيرانها في الكتب حين غادرت حروبها الساحات. مدينة الأسرار والنخلة التي "خلقها الله من فضلة آدم، ومدّها أرضاً واسعة الفضاء" مدينة التاريخ يبتدئ حجرة حجرة وينتهي ركام حجر. جيوش توقفها الأمطار، ومساجد تعمرها الاصطبلات، وقرىً من قصبٍ ودساكر خالية إلاّ من أشباح أناسٍ مرّوا، وأبواق يُنفخ فيها في الأسحار، وطبول تُقرع فوق المنائر، وملاعب مقفرة إلاّ من وحوش قادمة من الصحراء، وأنهار يستدلَ عليها الغزاة.
البصرة المبيعة.. البصرة المشتراة. ولكنها مدينة الكيزان البيض، والماء البائت العذب في القلال، والجاحظ الذي أنس بهذه الأشياء، فاستدلّ على كرم طينة أهل البصرة. وللبصرة صحراؤها الشاسعة وقبائلها الرحّل، وقديماً جلست الصحراء في البرد إلى النار وتهجّت منطق الطير، وكتاب البحر، وأسفار الرحّالة والاقوام، ومنذ ذلك، لم تغلق البصرة أبوابها إلاّ لوباء، أو حرب، وحين دهمها الفيضان، في سنةٍ ما، ولم تعد القوارب تكفي لحمل الناس، صُنعت القفف المطلية بالقار، ولربما كانوا فرحين. سكنتهم المدينة وسكنوا فيها فكان في طبعهم ماؤها والحجر، هاجرتها والظلّ، والحكمة التي أورثتها قرون من الخراب، وأيّ شئ أعجب من ناس أبقى من مدينتهم، ومدينة أبقى من الناس... مدينة عبرتها القرون، وغادرتها أطلالاً وظلّت شواهدها شاخصة لمن يأتي لا ليستنطق التاريخ بل ليستنطقه التاريخ. وكما بيع إنسانها بيعت البصرة، وهبّت عليها رياح العساكر، فلم يبق منها سوى أثرٍ في أغنيةٍ جنوبيةٍ حزينةٍ كندبةٍ في الوجه، وما أكثر ندوب البصرة! وما أرقّ حزنها! حتى سماؤها القادمة من الصحراء يثقلها الحزن كلّما اقتربت من المدينة.
وللمدينة حاضرها كما يرويه فردان:
سأبدأ من هناك.. من بيوت يفصلها عن المدينة سياجٌ من النخل، وعن الصحراء مرتفعٌ يصل البيوت بأطراف البصرة الأخرى، ويتخذهُ الناس نزهة في المساء. يقطعه قطار حمولة أو طائر تائه، أو رجلٌ قادمٌ على ظهر حصان، بدشداشة بيضاء وعقال مهيب، وهو ينثر النقود الصغيرة على الناس بأبهة ملك، ويمرّ هادئاً هدوء المجانين لا يتخطى السكة أبداً. يصل البصرة بهذه البيوت التي تسمى"الصبخة" شطّ الترك (وهو غير شطّ الترك المعروف قرب المعقل)، الذي يخرج من سياج النخل ليندفع في العراء، سابحاً مع الأطفال، مستضيفاً الغجر وخيامهم أحياناً...وحين يحلّ الغجر تحلّ الأعراس وتمتلئ البيوت والطرقات بالأزهارالورقية والمصابيح الملوّنة، وتقف السيارات عند المرتفع بانتظار القادمين بدفوفهم وهوساتهم التي لم يتخلوا عنها حتى في الأفراح. وقد تقف هذه السيارات بانتظار عبور مواكبهم الغاصّة بالرايات السود وراء جنازة محمولة على الأكتاف... حينذاك لا تسمع احتجاجاً أو بوق سيارةٍ لأنّ الطقس الوحشيّ من الهوسات وإطلاق الرصاص لا يترك لأحدٍ التفكير بالاحتجاج حتى لو تطلب الوقوف ساعاتٍ. مرّة عبر المرتفع الملك وخاله الوصيّ في سيّارة مكشوفة، وعلى عيونهما نظارات سوداء. فوقفنا صامتين مشدوهين.. ولعلّ الصمت لازمنا طويلاً حتى بعد مرورهما.. كانت نساء هذه البيوت يجمعن الملح خلف المرتفع بعيداً في أعماق الصحراء .. ويقلن عند الظهيرة تحت عباءاتهن المنصوبة بالعصيّ، وكثيراً ما تقوّض الشرطة عباءاتهنّ وتطاردهنّ على الخيول حتّى بيوتهنّ لأنّ هناك من يحتكر الملح. وفي طريقهنّ إلى مستنقعات الملح التي خلّفتها الأمطار والفياضانات، كنّ يجتزن قبور الأطفال الصغيرة وهي منثورة جوار المرتفع تعلوها شواهد من أعوادٍ وخرقٍ أو حجارةٍ بيضاء سرعان ما تجرفها الرياح المحملة بالتراب والوحل. وبعد الفيضان الشهير في بداية الخمسينات أقامت السلطات سدّة ترابية على مسافة من مرتفعنا، لا شئ يجاوره غير دوغة (كورة) مهجورة لصنع الطابوق. أتذكر مرة، خرجنا حشوداً إلى التلّ بحثاً عن امرأة، وظللنا ناطرين هناك حتّى مغيب الشمس دون أن نعثر على أثرٍ يقودنا إليها.. كانت المرأة في زيارة لأقارب بعيدين، وكان الجميع موقنين أنها رحلت مع الذئاب. طريق أخرى تصل هذه البيوت بالمدينة تمرّ عبر النخل، مجتازة جسر الغربان.. طريق موحشة لا يسلكها في الليل إلاّ القليل من الناس، خشية السلب، ولكنّها في الصباح تعجّ بالسابلة وعربات الخيول وأكياس الملح وأقفاص الحمام.. ثمّ ينتشرون في بعقةٍ أو بقعتين ليتّخذوا لهم هيئة أخرى.. هيئة أبناء المدن المسحوقين وهم ينادون على بضائعهم الرخيصة أو يعرضون قوة عملهم أو يتصدّرون المقاهي بوجوههم الصامتة وسط قرقرة النرجيلات. (مرّة بعد عودتي إلى الوطن في بداية السبعينات اجتزت هذه الطريق آخر الليل فاستوقني أربعة كانوا في زاوية جدار بلهجة آمرةٍ، فتوقفت وقد عرفتهم، وحين اقتربت منهم بهدوء كان ارتباكهم شديداً، ثمّ انهالوا عليّ بالقبل والعناق متذرّعين بحاجتهم إلى السجائر، ولم يغادرهم ارتباكهم حتّى بعد وقوفي معهم طويلاً نستدعي ذكرياتنا الغابرة أيام المدرسة.) فجأة حلّت التراكتورات وعلا ضجيج المكائن وامتدّت بيوت تشبه القطارات خلف المرتفع حيث قبور الأطفال .. بيوت ساكنة إلى الأبد .. موشكة على الرحيل في كلّ لحظة، تسمرها الشمس كالقنافذ في الصيف ولا يزحزحها المطر في الشتاء، كأنها علب مشدودة إلى الفراغ بخيوط من ماء مما يضفي عليها كآبة لا حدود لها.. أطلق على هذه البيوت اسم (الأصمعي)، ولكنّ الناس ظلّوا يسمّونها باسم الشركة التي شيّدتها (ومبي) فلم يغادرها هذا الاسم حتّى يوم رحيلي. في تلك القطارات كان ثمة بيت .. عربة صغيرة - إذا جاز القول – سكنه الشاعر بدرشاكر السياب الذي كنت أصادفه أحياناً في الظهيرة، في الباص، أو في المساء، في الباص أيضاً، في طريقه إلى مكتبة فيصل حمود، غير بعيدٍ من مأوى مومسه العمياء الذي تفصله عن المكتبة ساحة وبضعة بيوت، يجرّ جسده النحيل ونظرته الذاهلة البعيدة عن الأشياء والناس. وعندما حلّت التراكتورات حلّ الباص أيضاً، وأصبح المرتفع موصولاً بطريق واسعةٍ يجتازها الباص، ثمّ يدور دورته الأخيرة ليدخل المدينة من جهتها الرئيسية التي تبدأ بسجن ومستشفى متقابلين، يلخصان كلّ عذاب البصرة ومأساتها (كانت النسوة يجلسن صفوفاً أمام بوّابتي السجن والمستشفى وظهورهنّ متقابلة، متشحات بسواد عباءاتهنّ وفي عيونهنّ حزن المدينة المقيم). كان جوار السجن بضعة بيوت موحشة كأنها مهجورة تحرسها كلابٌ مقعية دوماً، تتطلّع إلى جدار السجن الهائل، وخلف المستشفى ثمّة بيوت يسكنها الأرمن .. نظيفة.. لامعة تحرسها الشجيرات، والكلاب المخيفة، والفتيات الواقفات في الطرقات المتعرّجة، حيث الجسر الخشبيّ الصغير الذي نجتازه إلى المستشفى متجنّبين العبور من الباب الريئسيّ لزيارة مرضانا العديدين في كلّ الأوقات:
أفرحُ حين أزورُ المستشفى وأجوز بيوتَ الأرمن دون سياجٍ أو سورٍ تتفتّحْ عن أزهار الطرقاتْ أتطلّع مبهوراً يصدمُني حبلُ غسيلْ أو كلبٌ ينبحْ فألوذ بأذبال النسوة حتّى طرفِ الجسر محفوفاً بالفتيات أتلفّتُ صوبَ النهر وأجوزُ الردهةَ أحلمُ مخطوفاً ببيوت الأرمن
(عبر بيوت الأرمن)
لم أصدّق أن البيوت التي كنت أراها في طفولتي جوار السجن ستفتح أبوابها، ذات يوم، لتخرج منها بلقيس عروساً تطأ قدماها أرضنا القابعة تحت المرتفع. كانت بيضاء، يوم زفافها، مجللة بأكليل أبيض، تحوطها أمّ بدينة وأب ضخم الجثّة هو منفّذ الإعدام في السجن، ويا لدهشتنا حين علمنا أن بلقيس تدخّن، وان زوجها عبدالله، الجابي (قاطع التذاكر)، كان عليه آنذاك أن يشتري لها علبة دخان كلّ يوم، ويوفّر لها ما يوفّره الأزواج في المدينة، غير أن دهشتنا لم تطلْ فقد علتْ السمرة وجه بلقيس بعد أيام ملفعة بالعباءة والفوطة كأمهاتنا. وفي السنوات الأخيرة غصّت جهة البصرة هذه بالبيوت، وأقيم كراج ضخم لم يشهد، أيام الحرب، غير الجنود المصابين بضماداتهم البيض، وهم يزدحمون على الباصات لتقلّهم إلى قراهم النائية بين البصرة وبغداد، يمضون فيها إجازاتهم القصيرة، ثمّ يعودون إلى الجبهة وعيونهم مشدودة إلى الوراء .. إلى صدر أمّ، وراحة زوجة، وإطراقة أب.
جنودٌ يصعدون الباص جرحى واقفين تلوحُ أشباحُ القرى (وطريقهم يمتدّ) يهبط بضعةٌ (وطريقهم يمتدّ) يهبط كلّ منْ في الباص حتّى السائق السهران
صمتٌ موغلٌ وقرىً تلوح كأنها الأشباح والباص الذي يهتزّ مبتعداً هناك
(إجازة)
وعند هذه الجهة تستقيم الطريق محاذية النهر القادم من شطّ العرب على بيوت الأرمن، ولكنّها قبل أن تواصل استقامتها تتوقّف عند ساحة في البصرة القديمة، لنهبط منها داخلين بأقفاصنا وملحنا الأبيض المحمول في الزنابيل، وغبارنا وأشقيائنا، وعباءاتنا الحائلة الطافرة، وافنديينا القلائل بسترهم الإنجليزية القديمة المشتراة من (اللنكات) وأحذيتهم اللامعة. سيرك حقيقيّ لا أستطيع أن أتخيل البصرة بدونه أبداً، ثمّ تتوزعنا طرقات البصرة القديمة، وساحاتها وكأننا في بيتنا القديم، فتعلو نداءاتنا وصيحاتنا وشجاراتنا، بل وحتّى ثغاء أغنامنا، وهي في طريقها إلى السوق أو المسلخ. وفي البصرة القديمة ثمّة استدارة تبدأ من الساحة لتلتقي ثانية باستقامة الطريق الذاهبة إلى العشّار .. وفي هذه الاستدارة كلّ تاريخ البصرة: مقاهيها، أسواقها، مركز شرطتها الكريه، دار بلديتها، بيوتها القديمة، منازل مومساتها، مجالس عزاءاتها، مواقف باصاتها، وموبيلياتها الجميلة التي تقف أمامها دوماً سيّارات الأعراس حيث مقهى محمود الذي كنتُ أطلّ عليه فيما بعد فأستجمع المشهد وأتذكّر طفولتي:
أركضُ حين يجئ الناس محتشدين أمام الواجهةِ المفروشةِ بالقنفات أهرعُ مسحوراً بين السيّارات أحملُ كرسيّاً ومصابيحَ ملوّنةً للزينة.. لكنّي أخشى لمسَ مخدّات الأعراس وأخافُ النسوة، أسألُ أحياناً: هلْ يتزوّج هذي الأيام الناس؟
(أمام موبليات الأعراس)
وأجمل من كلّ ذلك سوقها القريب من المركز الذي يتصل بسوق العبايجية وسوق البزازين.. سوق مفتوحة يتوسّطها مقهى شعبيّ جميل كأنّه امتداد للشارع بلا سقف ولا عتبات، وفي الصباحات تهبط المومسات يجولةٍ تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه "حين تموت البذرة" أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها. كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهن، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد. مرّة أشتدّ بي الحنين لزيارة سوق البزّازين فوجدته خرائب، وركام تراب، تتدلّى من سقفه الملئ بالثقوب ظلالٌ كالافاعي، فغادرته مختنقاً.. متذكّراً العتبة التي كنتُ أجلس عليها وأنا أقرأ لأبي كتابي (الف ليلة وليلة) و (عنترة بن شدّاد) الصادرين عن دار الهلال آنذاك فيجتمع حولنا خلق من الباعة تاركين محلاّتهم، ويا لتثاقلهم حين يأتي المشترون.
لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ:
في السوق رأيتُ النسوة يبكين يحزمنَ شراشف.. وعباءاتْ ويودّعن االآتين في المقهى المردوم وراء البلديّهْ يا عيني! هل ترحل صبريّهْ؟ وتغيب الفتيات لم أضحك حين سمعتُ سبابَ الوّادين وسط الضحكاتْ
(رحيل)
بعضهنّ سكنّ البيوت المجاورة للمبغى ودار البلدية، حيث تنعطف السيّارات باتجاه الطريق العامة المستقيمة التي تحاذي النهر والشناشيل ذات الشبابيك التي تؤطر وجه فتاة دوماً، فتاة تحدّق في النهروالعابرين وتختفي كما تختفي اللوحة في إطارها. ولكن ثمة وجه لا يختفي أبداً هو وجه (ديزي) التي كانت تمدّ ظفيرتها من النافذة فلا تصلها أيدينا الصغيرة المرفوعة في الحلم. هذه الطريق أقطعها كلّ يوم عابراً جسراً صغيراً خشبيّاً عندما حللنا أنا وعائلتي قريباً من الشناشيل في السنوات الأخيرة قبل النفي. طريق تمتدّ طويلاً حتّى العشّار، وتنتهي، ويا للغرابة، عند قدمي تمثال السيّاب الواقف أبداً عند زاوية الشطّ في التقائه بالنهر، أمام مبنى البنك المركزيّ.
مارواه فردان عن طفولته:
في أواخر كلّ صيف نستعدّ للرحيل فنكدّس أمتعتنا وأطفالنا ونساءنا، في لوريّات ضخمة تسير بنا ببطء، باتجاه الأنهار النائية في أبو الخصيب حيث النخل والجراديغ(مكابس التمور). كنّا نخفض رؤوسنا لئلاّ تصطدم بالأسلاك الكهربائية والجسور المسقوفة المنتشرة في الطريق، وحين نصل ننتشر بين النخل ناصبين أكواخنا القصب وكأنّنا ننصب سيركاً أو مسرحاً لنبدأ التمثيل، ثمّ نعود بعد شهرين أو ثلاثة أفقر من آثارنا التي خلّفناها لمطر الشتاء والريح. على مسرحنا هذا كنّا نضرم نيراننا في الليل، ونمسك بالصناديق مثل الطبول وتبدأ أفراحنا الليلية، وعند الفجر نستيقظ ديوكاً صائحة، نتقدّم صوب الجراديغ منحنين على الصناديق حتى المساء، نصفّ التمر أو نحمله في الصناديق إلى القوارب والسفن. عالمٌ هشّ يعجّ بالبشر والقطط والكلاب والأسماك والزنابير، وتتنقّل في أنهاره الأسواق مع الزوارق، ويعبره البحّارة الهنود بأكياسهم الفائحة برائحة السمك الصغير اليابس اللاذع في الفم (المتوت). عالم يعجّ بكلّ شئ ، ويرتجّ لدى وقوع أدنى حادثةٍ، وما أكثر الحوادث وأبطالها دوماً هم العشّاق ومسرحها دوماً الأنهار الجافة المهجورة:
من بين كلّ العباءاتِ المنحنيةِ على الصناديق تنهضُ عباءة في الليل بعيداً عن النيران الموشكةِ على النباح والقناطر المهتزةِ تحت الأقدام يتبعها جسدٌ تنطبقُ عليهِ في الظلمة.. ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس بين الحلفاء
(عباءة)
لقد سحرني ذلك العالم العابر الهشّ بأسواقه المتنقّلة مع الزوارق، ونوتييه المسنّين الذين لم يهبطوا المدن، وعشّاقه الذين يقودون حبيباتهم إلى الأنهار، وعمّاله الذين يقلبون صناديق التمر طبولاً للسمر في الليل، ثمّ ينهضون ديوكاً صائحة في الفجر، وأكواخه التي يختلط فيها الناس بالزنابير والدجاج والأسماك المنشورة على الحبال كالغسيل. هذا العالم الهشّ يحوطه عالمٌ يذكّرنا بهشاشتنا كلّما ارتحلنا عنه أو أقمنا فيه. له علاماته المؤنسة لإقامتنا العابرة: الجسر الذي تقطعه سارية سفينةٍ نصفين، المقهى ذو الكراسيّ المصفوفة على حافة الجرف المبقّعة بالذباب وريش العصافير، الشجرة الغليظة التي تمدّ أذرعها داخل النوافذ، الغرف العابقة برائحة الخلّ والصبايا الخادمات، البيوت القديمة المنحنية على النهر وكأنّها خيولٌ تهمّ بالشرب ، والتي تكاد تلامسها القوارب عند ارتفاع المدّ ... وغيرها وغيرها من العلامات. كنّا نجتاز الجسر في طريقنا إلى مدرسة "باب سليمان"، وذات مرّة أوقفتني سفينة تريد أن تقطع الجسر الذي كان يرتفع ببطء، فتأخرتُ، وكان نصيبي ضربات عديدة من المسطرة على راحة اليد. وفي قلب هذه العلامات لم نكن وحدنا العابرين، فمع هبوطنا الصاخب يقدم النوتيّون والبحّارة والعمّال والعاملات من القرى النائية. ويا لدهشتي، أنا الطفل، عندما علمتُ من نوتيّ – كان يحدّث أبي – أنّه لم يرَ البصرة في حياته قطّ، وهو الشيخ الذي ينوف على السبعين والذي خاض جميع الأنهار:
على دكّة الدهليز الضّاجة بالصراصير يقرفص طفل منتشياً برائحة النهر والقوارب الصامتة عند الضفة وفجأة.. يوقظه مجذاف ونوتيّ.. خاض الأنهار ولكنّه –يقول- لم يهبط المدنْ
(نوتيّ)
في هذا العالم الهشّ وقف قاربٌ أبيض وسائده مطرّزة، وحشيّاته بيضٌ، عند الضفة القريبة من الجسر، فلم تزده خضرة الماء إلاّ بياضاً.. قاربٌ من الأساطير. في كلّ طرفٍ منه انتصبت قامة نوتيّ ومرديّ يجسّ قاع النهر، كما تجسّ عصا الأعمى الأرض لتفتح باباً مغلقاً على الأسرار. لم ينتظر القارب طويلاً، فقد كنّا، أنا وأبي، مهيّئين للرحلة التي بدأت عند الجسر ولم تنتهِ بعد. اجتزنا نخيلاً كأننا نجتاز غابة، ويا لدهشة الطفل، عندما انفتح النهر فجأة على فضاء من سماء وماء..عند مخفرٍ سكنتهُ شجرة ضخمة وحيدة، وخيول ترعى.. إنه الشطّ (شطّ العرب) الذي حاذينا ضفّته الشرقية باتجاه جزيرة نائية لنشهد الاحتفال- الطقس، في موسم صيد الأسماك: ضفاف طينيّة مغروسة بأسيجة من قصب.. حين يأتي المدّ تعلوها الأسماك وحين ينحسر تتكدّس الأسماك بين الأسيجة لامعة في الشمس، بينما اشتعلت على مقربة من الضفّة نيران تعلوها قدور كبيرة سود لإطعام الصيّادين:
هبطتْ سلالُ الطلع من يأتي الوليمة ؟ قاربٌ في النهر يدفعه الهواء سفينةٌ في النهر عند المفرق المائيّ حيث المخفرُ المهجورُ ، والخيلُ التي ترعى ، وذاك الشطّ تعبرهُ البنادق . طلقةٌ ويسيلُ خيطُ دمٍ وتهتزّ السماء كأنها طيرٌ ويمضي الماء يمضي الليل .. صندلهُ الخفيفُ يضئ تلتمع المواقدُ والفوانيسُ البعيدةُ صيحةٌ .. ويهبّ صيّادون تقترب المشاعلُ ظلّها يمتدّ حتى الجرف حتّى لمعة الأسماك بين حواجز القصبِ الخبيئةِ تحت ماء الشطّ جزرٌ والسماء نديّةٌ والمدُّ لا يأتي ويأتي الساهرون من القرى أ أظلّ منتظراً هناك ؟ كأنني شبحُ المواكب هل أصيحُ : " أبي لماذا عفتني في قاربي المسحور؟ " لو ألقيتني حجراً وضعتُ لو انني لو كفّك البيضاءُ لم تهتزّ فوق النار! في تلك الوليمةِ لو أنام لعلّني ألقاكَ لو
(الوليمة)
غير أن عالمي الذي أعود إليه لم يكن أقلّ غرابة من عالم الأنهار، فقد تفتّحتْ عيناي على الباحات الرطبة، والأبواب المفتوحة على السراديب، والعميان الذين يرقصون حول النيران، والمباغي المغلقة، والعاهرات اللواتي يرحلن باكيات وسط سباب القوّادين وضحكات المارّة، والأمهات اللواتي يندبن بناتهنّ القتيلات رغم الفضيحة، والأطفال الذين يموتون، والقبور التي تضئ للموتى، والبلهاء الذين اخضرّت لحاهم ولم يهرموا، والرواة الذين يعبرون مقاصير (ألف ليلة وليلة) في الأحلام ليدخلوا المصحّات في الواقع، وجامعات الملح في الصحراء يقلن تحت العباءات المنصوبة بالعصيّ، والحمّالين الذين كنّا نكنس طريقهم من الحصى لئلاّ تنغرس أقدامهم الثقيلة تحت الأحمال، والأطفال الذي يُحملون فوق رؤوس النسوة ملفوفين بالعباءات السود، في المآتم أيام عاشوراء المقدّسة، والسجناء الذين يخرجون مصفرّي الوجوه من هواء السجون وهم يتحدّثون عن أسماء وأحداث نجهلها نحن الأطفال.
قصيدة: ( سقطت سهواً من ديوان "النقر على أبواب الطفولة" وسقط منها سهواً بيتٌ لا يتذكّره فردان يرد هنا منقّطاً)
ترفع نسمة الصباح غطاءهُ يفتح عينيهِ ويرقب الشروق يسمع وقع قدمٍ على الطريق ويبدأ الصياح ديكٌ على سريرهِ ثمّ يعودُ يرهف السماع تملأ صدره الحشائش الخضراء تمرّ فوق العربات ثمّ يصرّ السلّم القديم وتتّقي عيناه باليد الشعاع ............................. وتستثير شوقه رائحة الحليب والصيحات ويذكرُ الكرّاس في وجوم
مارواه فردان عن جدّه:
قالت الحكاية: جاءت الجدّة ملفوفة بعباءتها في صحبة الأمّ، ليلة العرس، ناحلةً سوداء، لم يرها الجدّ من قبل. تطلّع فيها مقطّباً بين حاجبيه ثمّ تركها لينام وعيناه مفتوحتان. قال لأمّها: هل أدلّك على الطريق؟ قالت الأم: أعرفه. ثم مضتا: صبيّة تتعثّر بعباءتها، وأمّ تحمل صرّة وتحدّق مذهولة في الطريق. بعد سنين قالت الحكاية: التقى الجدّ بامرأته في سوق للأغنام، فحملها إلى بقعة نائية لا يطلع فيها غير الحنظل. قال لها: امرأتي أنت، ثمّ لم يرها بعد. حين فاجأها المخاض حملت وليدها إلى النهر، وأشهدت النجم. قالت للطائر: ما أنت إلاّ طائر السعد.
شاهدة قبر :
في ليلة أقمارخضراء تعانق ظلاّن لم يلتقيا بعدْ بين صرائف وسماواتٍ تتدلّى منها الأغنام
في ليلة أقمارٍ سوداء حملتهُ امرأتان اشهدتا ماء النهر وطير السعدْ وأسلمتاه إلى الآلام
حكاية الجدّ:
كما رواها حفيده شعراً بعد قرن من الزمان إثر نزوح الجدّ إلى المدينة حيث كان سيّد قومه في الليل، وحمّال أمتعة التجار في النهار:
الصخرة ( حكاية جَدّ )
-1-
كان جدّي صخرةً والنهر مشحوفاً وكان الزرع مخبوءاً وراء الجرف قال الزرع : " لو أطلعتِني ! " لكنّما الصخرة غابت فوق مشحوفٍ ولم ترجع إلى البيت رأتْ ما لم يرَ الطير ، وما لم تبصر الأسماك ، قالت: "أيّها الماء انتظرني!" صخرة عامتْ على النهر وسارت بين أقدامٍ من الصلصال قال الطيرُ: "آويني!" وقال السمك الآمن: "هذا النهر مسحورٌ" فلم تسمعْ وظلّتْ صخرةٌ صمّاء قال الجدّ
-2-
صخرةٌ أنبتت القمح ولم تأكل وألقتْ ما تبقّى حفنةً للطير قلنا: "ما أتيناك لكي نستبق الطير ولكنّا رأينا النار" قالت: "ادخلوها!" ثمّ قادتنا إلى كهفٍ غريبٍ ليس مثل الكهف مسكونٍ وكانت نارنا سوداء كانت نارنا حمراء كانت نارنا بيضاء ( عند الباب ) والصخرة عادت صخرةً لا تُنبت القمح ولا تأكل عادت صخرةً صمّاء قال الجدّ
-3-
ليلة العرس رأيتُ النجم ينشقّ وبيتي ساحةً بيضاء والجنّ يسيرون على الأوتاد ناديتُ على الناس فلم أبصرْ سوى ظلّيَ كالصخرة – ( لا أقوى على حملهِ )
- يا عرسي احملي ما شئت من أمتعة البيت!
وسارتْ خلف ظلّين إلى الأهل بلا عينين عذراء كما البيضة تبكي نجمةً غابت وجنّاً غادروا الأوتاد قال الجدّ
-4-
بعد عامين رأى الجدّ - وقد أصبح كالصخرة- عذراء كما البيضة تمشي خلف ظلّين "عروسي أنتِ" صاح الجدّ واستلقى على الحنظل واستلقتْ على الحنظل واهتزّا معاً كالطير
- يا عرسي احملي ما شئتِ من نسلي!
وسارتْ خلف ظلّين إلى الأهل بلا عينين تبكي نجمها الغائب قال الإبن
-5-
قالت الصخرة : " في العام الثلاثين قبيل الحرب جاءوني بحملٍ لم أرَ الحمل ولكنّي رأيت الناس أحجاراً وأطفالاً أمامي يكنسون الدرب بين الخان والقبو الذي في الخان كان الدرب يهتزّ كأنّي أحمل الخان على ظهري كأنّ القبو والسلّم يهوي بي بلا قاعٍ كأنّ القبو.." قال الجدّ واستلقى على ظهرهِ، في الظلمة : في العام الثلاثين قبيل الحرب قال الجدّ
مارواه فردان عن خاله موزان الراوي:
موزان الذي لم يحمل يوماً هديّة لطفل كنّا نحبه نحن الأطفال.. ننتظره ملهوفين.. ننتظر هداياه التي لا تكلّف شيئاً.. فتح فمه فحسب، لينفتح بحر، وتعلو صارية، وتخفق ريح، وتدنو جزر.. وموزان لا يأتي إلاّ مريضاً لرعاية أختٍ هي أمي، أو عابراً قادماً من مدينته النائية المطلة على البحر إلى الأحياء الضيقة المكتظة بالنساء العاريات، أو إلى دارٍ للمسرّات. رآه أحدهم في ماخور، ورأيته أنا مراراً أمام احدى دور السينما بعقاله المهيب وعباءته السوداء .. نلتقي قريبين ونفترق غريبين. لم يدعني يوماً، ولم أنتظر دعوته، فأنا لا أنتظر من خالي الشحيح المحبوب (موزان والي) سوى هداياه التي لا تكلّف شيئاً سوى فتح فمه الذهبيّ.
كان مرضه صحّتنا .. نتحلّق حوله مشدوهين.. نتطلع في فمه وكأننا نتطلع في بابٍ سحريّ مفتوح على عالمٍ خفيّ .. نتأمل ملامحه التي لا تتغيّر أبداً رغم الأحداث الجسام التي اهتزّت لها أبداننا أو تسمّرت. لا نلمح فيها غير ابتسامة خفيّة تلوح ولا تبدو، وقد تختفي عند مشهد لتطلّ ثانية على مشهد آخر، وهي بين اختفائها وظهورها لا تبين أبداً.
كنّا نحبه ولا نكرهُ فيهِ سوى نهوضه المفاجئ من سريره إلى بيت الراحة .. آنذاك نهبّ معه وإليه ، نتسابق أنا وأخوتي على حمل إبريقه إلى أعلى السلّم، حيث بيت الراحة الذي لا يصله الماء، مصغين، بانتباه، في أسفل السلّم، إلى ضراطه المتواصل وقد خنقنا ضحكاتنا الطفولية، متظاهرين بالجدّ وعدم سماع أيّ صوت من أصواته السريّة المعلنة، حافين به، وقد تقدّمنا كالملاك ثانيةً إلى سريره الطائر بين العصور والبلدان كبساط الريح.
لم نكن ندري أنه سيلازم سريره هذا طويلاً ، ولكن ليس في البيت بل في مستشفى قريب تؤمه أمّي يوميّاً للإطمئنان على صحة الخال الذي أخفوا عنّا مرضه .. كنا نتندّر ونقول لأمّي: " لن تنفعك كلّ زياراتك هذه فلن يورثك شيئاً " ، فتردّ الأمّ باستياء وكأنها تحدس الحقيقة في قولنا: "إنه أخي". وبالفعل فإن خالي حين مات أورث أبناءه الكثير من ماله العريض وأملاكه من العقارات والدكاكين ولم يوص بشئ لأمّي التي تقبّلت هذه الواقعة على مضض ، مردّدة بلا مبالاة: "إنهم أولاده، وهم أحقّ". لم ينس خالي حتى وهو على فراش الموت تقريع أخته (أمّي) له على زيجاته العديدة وزوجاته الممتعات.
كان خالي لا يكتفي بدور الراوي بل يعتبر نفسه بطلاً أو شبيهاً بالبطل. فهو حامل العلم أو الراية عند ظهور المهديّ المنتظر ليملأ الأرض عدلاً وسلاماً . كيف لا ؟ وهو الذي زاره المهديّ مرّات عديدة في بيته ، ليبحثا في فساد العالم. ولا يجد خالي أي تناقض بين دوره البطوليّ هذا وحمله صورة الفنّانة سميرة توفيق في جيبه ، فكلّ بطلٍ ، بطبيعة الحال ، بحاجةٍ إلى بطلة، ولا بأس إذا ما كانت البطلة فنّانة مشهورة كسميرة توفيق السمراء. ولعلّ في اختياره سميرة توفيق بطلةً تعبيراً عن مللٍ من بياض محظياته الأعجميّات اللواتي كان يتزوجهنّ بالمتعة ليزوجهنّ فيما بعد بالحلال. كما أنه لا يجد أيّ تناقض بين دوره هذا وبحثه ، كشارلي شابلن، عن الذهب. لذلك تراه مهووساً بالحديث عن الكنوز المخفية تحت الحيطان. وقد كانت ليلة مثيرة حقّاً عندما أشار على أبي أن يحفر أحد أركان بيتنا القديم الذي هدمناه لنبنيه من جديد. لقد حفرا، على ضوء الفوانيس، حفرةً عميقة فلم يبدُ لهما الكنز المخبوء وما بدا لهما لم يكن سوى طين وماء لم يعكسا حتّى وجهيهما اللذين ارتسمت عليهما الخيبة واضحة.
مرّةً جاء مسرعاً إلى أبي يعرض عليه الذهاب إلى الإثل خارج البصرة للبحث عن كنزٍ مخبوء هناك. لم يكذبه أبي بل استدعيا جارنا الذي حملهما في سيّارته إلى مكان ناءٍ ومعهم عدّة الحفر. بعد ساعات رجعوا بالكنز المخبوء . كان عبارة عن صندوق حديديّ قديم مغلق علاه الصدأ. لم يفتحوه إلاّ بشقّ الأنفس بعد أن كسرا قفله بمعول . لم يجدوا في الصندوق سوى ملابس جنديّ بريطانيّ وأغراضه الشخصيّة، عندئذٍ طلب والدي من خالي موزان أن يقول الحقيقة. كانت الحقيقة المرّة هي أن خالي موزان بعد أن قتل الجنديّ البريطاني أخفى صندوقه بين أشجار الإثل منتظراً كنزه كلّ هذه السنوات انتظاره المهديّ الذي لم يأت.
انخطافات ألف ليلة وليلة
إلى ذلك الإنسان الذي روى لي في طفولتي كتاب ألف ليلة وليلة واشعل في ذاكرتي الحرائق
1- إنارة
أنينُ المراكب في البحر تغريدة السندباد الشجية في قفصِ الطير قرعُ الطبول الخفيةِ تهويمة الطير والخاتمُ الذهبيّ عصا الطفل ملتحياً يلبس الطيلسان قميصُ الصبية يرفعهُ النوم إرخاءةُ الستر محتشداً بالطواويس رقصُ القرودِ الخفيفةِ خضراءَ تحمرّ عند انطفاء القناديل وجهُ الصبيةِ يبكي على شرفةٍ من ضياء
2- موزان الراوي
للبلاد التي سحرتها النساء كان يحملني موقداً نارَهُ للغزالاتِ باكية تستحي في الضياء لائذاً بالطبول يحثّ النجائبَ مسرجةً في الرياح تطاردهً حربةٌ وصهيل مرخياً راحتيهِ، يجسّ التصاوير منقوشةً في السريرالملاصقِ للنار.. ملتحفاً بالغطاء
*
أصحبهُ حين يجئ صباحُ الجمعهْ مفتوناً اتطلع في الصور المسحورةِ في الشاشة .. مختفياً في الكرسيّ تبهرني كوفيّته البيضاء وعقالُهُ يلمعُ بين الأطفال كان يحدّثني عن كنزٍ ووليّ يوقظهُ في الليل فيتبعهُ حتى طرَف البلدةِ عن موزان الحمّال والأقمار السبعهْ
*
يعشقُ الصلوات والتمتعَِ بالأعجميات ابصرهُ في الظلام يطوفُ على رأسهِ ملَكٌ حين قام إلى النار لم تنطقِ الطير لم تتّبعْهُ الغزالاتُ سارحةً في المواخير لم تختطفهُ مقاصيرهُ الذهبيّة بين المصحّات لم تستجبْ للرحيل النجائب لم تستجبْ للرحيل
3- بوح
يا ابن بكّار! أضحت منازلنا حجراً واللصوص البعيدون عادوا بأمتعتي
4- قباء
انتحبْ فوق نقش القباء الجميل حطّ كالطير في قفصٍ وانتفضْ ناثراً ريشكَ الذهبيّ في الرواق الطويل بين صمت القباء وترديدك الأنثويّ يا بديعَ الزمان
5- فرس
يا فرسَ الابنوس الأسود كسّرَ اقدامي فرحُ الأطفال
1976
كم ذكّره ما رواه خاله بما رآه في خراسان التي زارها طفلاً بصحبة أمّه:
في خراسان لم نشرب الماء لم نفترش سرّة الصحن لم نُطعم الطيرَ خبزَ خراسان لم نقرأ النجم أو كتبَ الأولياء غير أنّ المدينة دقّتْ على النهر طاساتها فمشى النهر في خيلاء حين أودعتهُ صرّتي قلتُ: من سوف يسرقها؟
ومن بين مارآه في طريقه إلى خراسان: ناقة حملته وسارتْ، عباءات انتشرت في سهل، حجيج يميلون ساعةً ليناموا.. وجوه فارسيّات بيض، بملاءاتهنّ المزركشة، وجهه يمسحه بشبّاك ضريح:
في خراسان أُغلقت السوق.. والناس هذا المساء لم يصلّوا أطفأت ضوءها الشرفات واختفتْ نسوة في السراديب.. كان الزجاج يتطاير والواجهات تختفي والشوارع تكتظّ بالعرباتْ
*
كان ذلك أيام مصدّق. ولعلّ أكثر المشاهد شبهاً بما رواه خالي موزان هو خاتمة القصيدة (في خراسان) التي تستدعي واقعة حدثت لي حين قادتني أمّي صغيراً إلى حمّام فارسيّ يضجّ بالنسوة العاريات اللواتي فزعن، كجنيّات الحسن البصريّ، حين رأينني:
كيف ألقت بنا الريح صوبك ..؟ كيف استفقتُ على صخرةٍ ، بابها البحر ..؟ والنسوة العاريات بحمّامك الفارسيّ كيف فرقتهنّ على الصحن كالطير ، مختفياً تحت جنح العباءة ..؟ كيف تشابكتُ كالنور فوق زجاجك ..؟ أيهٍ خراسان! مالت بنا الريح عن ضفتيك وغاب على صخرة بابك الحجريّ
من قصيدة (في خراسان)
ما فعلته المرآة بفردان:
حدّقت في المرآة توارت الغرفة واستفاقت المياه وضاعت الخطوة في الزحام رأيتُ عابراً ينام أوقفته.. حدّقتُ فيه.. جحظتْ عيناه وسار مسرعاً بطئ ماذا ترى تقولهُ المرآة للمرآة؟ فوق جدار المسرح المضئ وبين جدران المساء وما الذي تقوله المياه؟ هناك بين القصب الخبئ يرتعش الفنجان في المقهى وتعبر النساء وتستفيق الطاولة وتعكس المقاعدَ المرآة ثم تسير في المياه مقاعد المكان ذاهلهْ ماذا تقولهُ المرآة للمرآة وهي راحلهْ
تعليق:
في هذه القصيدة التي يقول فردان إنه كتبها مطلع الستينات ثمة إشارات إلى كوكتو وفيلمه "دم الشاعر"، وسالنجر في حواره :"ماذا يقول الجدار للجدار"، وما تسرّب من أخبارٍ من قصب الأهوارآنذاك، ومن شاء الاستزادة فإن فيها إحالة إلى قصة قصيرة لمحمود عبدالوهاب تجري أحداثها كهذه القصيدة في مقهى (علي بابا) في البصرة.
وهذا نص آخر مبعثه نص لجلال الدين الروميّ:
طرق فردان باب صديقه، فسأل الصديق: "من الطارق؟" أجاب: "أنا" فردّ الصديق: "لا صداقة بيني وبينك وليحلّ عليك عقابي ما دمت حيّاً" قال فردان: "يا أسفي! وغادر، وحين عاد بعد سنين طارقاً باب صديقه من جديد سائلاً حيران، قال صديقه:"من الطارق؟" قال:"أنت" قال الصديق:"لك أن تدخل الآن وقد صرنا واحداً، فالبيت لا يتسع لاثنين."
وكتب فردان حين كان طالب فلسفةٍ وقارئاً نهماً لكامو، وهارباً من مجزرة إلى دمشق، قصيدة ليس فيها من التناص غير إحالة خفيت عليه الآن:
قابعٌ في ظلمة الليل وفي عينيكَ ساحاتُ النهار فوقها القاتلُ في عكازه يمشي قتيلا أنت لم تعرفْ سوى الموتى يسيرون طويلا ثم ينهدّون في ظلّ جدار أنت لم تعرف سوى الموتِ جدار وصدى العكاز يأتيك مع الصمتِ ثقيلا عبْرَ ساحاتِ النهار
أنت في ظلّك لا تملكُ غيرَ البردِ والليلِ دثار تأكل الفئران رجليك .. و نصلُ الساحةِ الأبيضُ - يُرديك قتيلا لو تهزهزتَ قليلا نحو ساحات النهار
أنت حتى لو مددتَ الكفّ حتى لو تمزقتَ على الصمتِ عويلا سوف لا يخفيك ظلّ القاتلِ الأسود لا يخفيك والنصلُ سيرديك قتيلا شاحباً أصفرَ في ضوء النهار
مارواه فردان عن فردان بصيغة المفرد الغائب:
حين قرأ فردان قصيدته هذه في جلسة التفت إليه احد الجالسين وكان الشاعر عزمي مورللي، الذي يكتب باللغة الفرنسية قائلاً بلهجته الشامية المحببة "ابني بتعرف شو بتقول" كما قرأها فردان في قصر العظم سنة 1964، وكان هناك الشعراء: عبدالمعطي حجازي، وعلي الجندي، ورفيق الخوري الذي كتب عنها معجباً، فأخجلها أربعين عاماً أو أكثر حتّى أتاح لها الله هذا الكتاب لترى النور.
وفي الجلسة ذاتها قرأ فردان قصيدة عن الحلاّج لا يذكر منها غير هذا المقطع الذي يروي فيه الحلاج واحدة من كراماته في السجن:
أجرت يا حلاّج ردّ علينا ثوبك العتيق تكلمت أحجارنا وأنت صامت غريق وبردت أحجارنا وأنت صامت غريق فاخلعْ علينا ثوبك العتيق أجرت يا حلاج وارسم على حائطنا سفينة يهتزّ هذا الحجر الوادعُ مثل القبر يهتزّ هذا الحجرالصامت مثل القبر يقفزْ إلى السفينه يحمرّ مثل الجمر أجرت يا حلاج
تحوّلات فردان:
حين صار فردان اثنين لم يتعرف عليه أحد وحين صار ثلاثة لم يتعرف على نفسه أما حين صار جمعاً فقد أضاع كلّ شئ قال: يا اسفي! ثمّ شكا نفسه لنفسه في قصيدة لم يُطلع عليها أحداً:
يا لنفسي وقد جلّلتني بعار سواي يا لنفسي وقد حاكمتني بجرم سواي يا لنفسي أجرّت عليّ وجارت عليّ وكم أشهدتني وكم كذّبتني وكم قلتُ: فلنفترقْ ثمّ اغضيت ثمّ انثنيت فآويتُ منها إليها وآوتْ إليّ يا لنفسي وكم خادعتني وخادعتها حين مرّ المدانون والدائنون فما قايضتني ولا أنا قايضتها يا لنفسي التي صارحتني بحبّ سواي يا لنفسي التي ضيّعتني
وقال في الباب ذاته:
ترى أين ألقاك؟ في ايّ ليلٍ؟ تتوجك الشمسُ، آتي كما يدخل السائلون على ملكٍ، بيدي القوس صار عصاً والسهام الدليل إليّ، ومزودتي ورقٌ يابسٌ جفّ.. كنتُ أسميه خبزي. تراني مررتُ عليك؟ فغادرتني أم تراني اصطفيتك لي وطناً واعتذرتُ بمنفاي؟ أم أنت بئري وقافلة لا أراها.. تمرّ ويوسف .. يوسف من يشتريه؟ خبا ضوء روحي وهبت رياح عليّ وغادرني من يغادر حتى تحاشيتُ نفسي
تعليق:
غير أن النفس أمارة بالسوء فتعاهدا على قول الشعر بعد هجرهما الشعر، فصار إلى الحكمة أقرب.
من حكم فردان التي احتواها ديوانه: (هجاء الحجر):
يحبّ الجميع ولا يحبّ أحداً
*
يعبد الطبيعة ويستعبدهُ الطبع
*
صداقة الجاهل عداوة، وعداوته جهل
*
في قرى طفولتي عاثت ذاكرتي فساداً
*
ساكناً مثل بوصلةٍ لا أريد اتجاهاً
*
الشعراء الكبار يأكلون الصغر ويتضوّرون جوعاً
*
ليس الطريق إلى المنفى معبّداً بالوطن
*
لا يقول لا أو نعم إنه يقف كالميزان
*
شيئان كدّرا حياتي اصدقائي والشعر
تساؤلات فردان:
ولفردان تساؤلاته التي غلبت على حكمته.
لماذا مئزرُ الحمّام أيها العاري ؟
*
ماحاجة الميْت إلى شاهدهْ؟
*
لماذا التاج على هذا الرأس المقطوع؟
*
بمَ تهذي هذه اللحظة الحمقاء في حضرة الأبدية؟
*
هل يعود الشهداء هذا الأسبوع وقد منحهم الجلاّد إجازة طويلة؟
*
هل تقفُ الأشجار حداداً على الطريق ؟
*
قالت الأشجار وقد سالت ظلالها كالحبر من يكتبنا على الطريق؟
*
لماذا أشهر المغنين اسوأهم جميعاً؟
*
بشرٌ أم خنازير في هذه المزرعهْ ؟
خاتمة الفصل:
أقبلت الدنيا على فردان فلم يحسن الجمع، فلمّا أدبرت قال: "يا حسرتا"، ثمّ أقبل على جمع نفسه في دنياه.
|