بقايا |
المقاله تحت باب قصة قصيرة تخيلنا ان نجده واقفا بنحول يشف عن هيكله الروحي، ينتظر ان ننتشله من نفايات جمعها مدة ربع قرن قضاها متعذبا بحب مميت. اضطررنا، أثناء اشتباهنا بمصدر الأنين، إلى فتح طرق خاطئة مبعدين عن تسرعنا مئات الاكياس محكمة الإغلاق، إلا انها طافحة الرائحة. أزحنا الكثير من الصناديق الخشبية الصغيرة المصبوغة برموز تحذيرية، وشعارات موانئ، وأسماء تجار دون ان نتحقق من نوع الحزن الذي كانت تشعله في قلبه. وبلا أدنى حذر تخلصنا من زجاجيات رأيناها غير مهمة لكنها كانت تعمق فيه طعنة انه ليس من وهبها لها. كنا قد كسرنا الباب بضربات من أقدامنا ودخلنا بأنوف معقودة، ورحنا نناديه على أمل ان يميز رأفة صداقتنا القديمة. كان علينا، ونحن أمام مخلفات مأساته، ان نقدر شدة ما عاناه في مواجهة هول ان يفصل ما بين ما قشّرت طوال عشقها لبيتها من باذنجان وبطاطا وفاكهة، وبين ما اوجعته استهلاكاتها التجميلية عبر تفانيها الزوجي الطويل. لم نعتمد على ذاكرتنا السعيدة، فالبيت صار ضيق الملامح وأعمى، ورحنا نخمن، بارتباك، أين يمكن لقلقنا ان يكون، وأين يمكن له ان يحتضر من شدة عذاب الحب!. احترنا وذهب فكرنا إلى انه قد يكون في إغماءة حزن مرتفع، أو انه في تيه حرصه على عدم إيذاء ذكريات الحب. اتفقنا ان نناديه لدقيقة ثم نأخذ شكل التماثيل انتظارا لردة فعله. كررنا ذلك مرارا ونحن نزداد تعجبا من معجزات ان يحبها بهذا الانهاك المؤسف. حسبناها بالعقل: من غير المستحب ان يكون قريبا من متيبسات مطحون الشاي الذي شربته وقشور الطماطة التي عصرتها وبقايا الرز المحروق الذي طبخته، وأكيد انه ابتعد عن ألم ان يرى كعوب البامياء التي بترتها بسكاكينها غير وفية لجمال يدها. توصلنا إلى انه يمكن ان يكون متواريا في أعماق البيت بالقرب من نفايات عزيزة على قلبه، إلا اننا اكتشفنا البديل الصناعي عن واجبات ثدييها. مئات العلب المعدنية لحليب كيكوز الذي كبّرت به اولادها الاربعة ما جعلنا نعود لنختلف فيما إذا يحق لنا التخلص من المعرقلات العاطفية لقاء ان نعثر عليه حيا. في البداية لم ننتبه إلى ان البيت منظم على غرار اسلوب العطارين في إضفاء العجائبية على بضاعتهم. كانت الروائح تزعج تعاطفنا الا اننا كنا نبحث عنه ونحن في انبهار لا يصحو من سحر تبجيله نفاياتها. كانت الأكياس البلاستيكية مكممة بشرائط حمر مربوطة برومانسية خلابة وتظهر انهماكه الخرافي في التدوير، ودأبه على ان يثبت بالتصنيف مجهودات عظمتها كربة بيت. احمرت وجوهنا تعظيما لقلبه الذي يزن طنا من الحب ونحن نواجه براهين فهمنا منها انه تنازل عن غيرته ولم يهمل ما فعلته لإرضاء زوجها وانه احترم لها هذا القدر من المخلفات حين كتب على كيس بخط منكسر لكن بكلمات شجاعة: أعطاك الله عافيتي .. ذكرى سبعة مواسم يانعة مرت على الباقلاء المباركة التي سلقتيها تعبا على تعب، وتسلى باخضرارها زوجك الذي احببته. قلنا نصل إلى الباب الصغير أولا لان الأنين هناك أوضح. بدت تلك الجهة مخصصة لحاجيات منفية الا انه اعتنى بها ولفها بالشاش: دراجات هوائية لعمر خمس سنوات، كرات من نايلون، بركة أطفال منفوخة، كرسي هزاز، حبال أكلها الزمن، أجهزة معطوبة. تمكنا سريعا من تجاهلها لانها مقترنة بالتحسرات وخالية من أنوثتها. ونحن نفتح الباب خطر لنا إن عثرنا عليه ان نهدئ غضبه بوعد ان نعيد كل النفايات التي عبثنا بها إلى مواضعها الأصلية. صدمنا المنظر. ارتخينا خيبة وشفقة. كان مطبخها بكامل ادواته غير الصالحة للاستعمال. انصاف اقداح وحاويات بهارات مدمرة وملاعق ملتوية وفتاحات علب صدئة ومقال بلا اذرع وسكاكين مخلعة المقابض لا تقدر على خدش خيارة والاوجع من كل هذا انه كان يطبخ في قدورها المثقبة ويأكل في مقعرات شظايا صحونها وقلبه يذوب من حرارة الحب. لقد ضحى بكل أنواع السوائل من اجل ان يكون لشبحها المعظم وجودا سرابيا في مطبخ بيته. كان المكان انيقا وخاليا من غيوم الدهون السود ومجليا في بهاء كما لو انها أحبته هو وليس زوجها واستعملت كل هذا من اجل ان تكون سعادته متسعة كما السماء. وقفنا متلاصقين كي لا نوقظ حلمه. تفرجنا وفي انفونا روائح فواكه سوائل التنظيف التي أضافها مع مذياع صغير لبرامج الصباح النسوية، وعلق لها مريلة أنيقة من قماش مشغول بالكورشيه، وأثث لها ركنا أراده بأرقى احتمالات التخيل حبا منه لجعلها تجلس على قمة اعتدادها بنفسها كمبتكرة أكلات لا مثيل لها في العالم. في تلك الجهة من المطبخ كانت تلمع صينية كيك على شكل قلب من السليكون الأحمر، وصينية لخبز الكوكيز مقعرة على هيئة أوراق العنب، وأكواب معيارية بصبغة الكرز، وخفاقة بيض كهربائية بلون وردي، وآلة يدوية لتقشير وتقطيع التفاح تنبعث منها نغمات راقصة، وإناء فخاري على شكل توت العليق، وقاعدة بقدمين لكيك حفلات الأطفال، وماسكة للأواني الساخنة على شكل رأس نمر، ووسادة لملاعق الخشب، وساعة طبخ رملية تعزف موسيقى. وبروجيكتور شحن يطلق ألوان طيف تغمر المطبخ مع نسمات تصويرية إذا ما قطعت الكهرباء. شدتنا جداول فحوصاته التي لم تفض إلى نتائج ترضيه بشأن طقوس تخلصها من شعر إبطيها وساقيها، ولا ندري لماذا كان يشير إلى عانتها بكلمة غالكسي. كما لا نعلم ماذا كان يقصد بعبارة بقعة الكابتشينو. ووجدناه، في صفحات مسترخية، يتغزل برفاهيتها، ورقي مشترياتها، وينجح في ان يقدّر، بعد تسع سنوات من ذل العشق، نوع الفيتامينات التي تنقصها، ومن ان يميز تغيبها عن بيتها، وينتهي، بالاعتماد على ما كانت تتناوله من مكسرات إلى وضع نظرية لما تحب وما تكره، حاسبا مرات متعها الزوجية، وحجوم أحزانها العابرة. وكان يدون تعليقات متطرفة متطلعا للعيش إلى يوم ان يتمكن، من خلال سلال مهملاتها، من معرفة بماذا كانت تحاكي نفسها. جمعنا الفضول حول سجل خياله الوجداني الذي احتوى على مخططات لطموح ان يعتق نفاياتها السائلة مدة ثلاث سنوات في براميل من خشب السنديان على طريقة الويسكي الاسكتلندي مخترعا في صفحة معززة بتصاميم بنفسجية اللون، تشبه لوحة لباسل العبيدي، آلة شفط ذكية قادرة على مص مياه صرف حبيبته، طمعا في الامساك بتعزيزات معلوماتية جديدة قد لا تقل نعيما عن لمس غشاء الموسلين الذي يغلف قلبها حيث منجم رغباتها. صاحبنا الذي أرسلناه خلف الأنين عاد دائخا وغير قادر على التوازن ويشكو من طنين في اذنيه. خرجنا إلى الحوش ليصدمنا مشهد الديدان التي نبتت من ارضية الطرق التي فتحناها عند رفعنا للاكياس والصناديق. خيل الينا انه يعادينا لاننا ارتكبنا جريمة بحق حبه. تماسكنا ورحنا نزيح المزيد من الاكياس وصولا إلى الباب الأخير. كسرنا الباب ودخلنا. كانت الغرفة بنظافة متحف وقد تحاشكت على الأرض مفروشات أقمشة مرتبة على شكل أزهار عباد الشمس وقد أضاف اليها إكسسوارات منسقة بأعلى ذوق. خلعنا أحذيتنا ورحنا نتفرج عن بعد. لم يكن أمامنا الا ان نهدأ ونكف عن البحث عنه. كانت قلوب الأزهار تضم ما أسقطته الأمشاط من شعرها طوال ربع قرن من الجمال. وما استهلكه وجهها من أطقم ماكياج وفرش خدود وظلال عيون وبودرة بأنواعها وزجاجات عطورها وكلبسات شعرها ومقويات أظفارها ومحاليل إزالة الأصباغ ونماذج معطوبة لمجففات كهربائية ومستحضرات لإخفاء العيوب وملمعات شفاه وأصابع حمرة. ورأينا على سجادة مستطيلة قطعا منكمشة لنماذج من حفاظات دورتها الشهرية. وفي ركن بعيد لمحنا على دائرة من حرير احمر بقايا من ملابس داخلية وأزرار متعددة الأحجام والألوان ونصف سوتيان ابيض وضعه على وسادة ذهبية تمجيدا لمفاتنها. انسحبنا. تأكدنا مجددا من المساحات الفارغة التي أوجدناها له، ومن ارتباط الأبواب بشبكة المسارات، وأخذنا نسعل ونحن في طريقنا إلى ارض الزقاق. أغلقنا، بضجة مفتعلة، باب الحوش على أنينه البكتيري كي نشعره بأننا مللنا، وتعبنا، وعدنا إلى بيوتنا بوسخنا. |