المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
18/09/2012 06:00 AM GMT
وقفت مرتبكة أمامه وكان يجلس مستريحاً، يفصل بيننا حاجز زجاجي سميك ذو فتحة دائرية لكي أسمع ما يقول، أو بالأحرى يسمع ما أقول. ولأن الحواسيب الألكترونية لم تكن قد دخلت الخدمة في دوائر الأمن، بعد، فقد كان الضابط يستدل على المطلوبين أو الممنوعين من السفر من خلال قوائم طويلة مرتبة في سجلات أمامه. إبتسمت بمشقة بينما كانت مغصة الخوف تلوي مصاريني ودفعت له بجواز سفري. إن هذا الرجل الغامض الملامح يملك بيده أن ينعش آمالي أو أن يقضي على مستقبلي. لماذا أرتعب وأتعرق ويهرب الدم من وجهي وأنا لم أرتكب جرماً ولا مخالفة؟ وكيف يكون شعور من ارتكبها، إذن؟ بأي أعصاب يقف من كان منتمياً إلى أحد الأحزاب أو الحركات المحظورة ويسافر بجواز مزوّر؟ بحركة كسول يسحب جوازي ويفتحه على الصورة ويروح يقارن ما بينها وبين وجهي. أقول لنفسي إنه يطيل المقارنة، متعمداً، لأنه يريد أن يتسلى بخوفي ويرفع جرعة خضوعي. ـــ أنعام؟ ـــ إنعام... الهمزة تحت الألف. ـــ شنو الفرق؟ ـــ ماكو فرق. ـــ كه كه جه كي؟ هذا اسم الجد؟ ـــ إنه لقب العائلة. ـــ كردية؟ ـــ لا. ـــ عجمية؟ ـــ أبداً. ـــ متزوجة؟ تمتد يده وتقلب على مهل صفحات السجل الكبير أمامه حتى يصل الى الصفحة المقصودة. أمد نظري عبر الزجاج وأرى سبابته تمر نزولاً على عشرات الأسماء المطابقة لاسمي الأول. أتونّس بهم وكأنني وجدت لي شريكات وشركاء في الورطة ويمكنني أن أتلطى وراءهم. الاسم يصلح للمؤنث والمذكر. لكن ما باله يقلب الصفحة ولا يتوقف عن تحريك اصبعه فوق السطور؟ يغافلني حذري فأقول بصوت أُحاول ألا يشي برجفته: ـــ كنت أظن اسمي نادراً، فهل كل هؤلاء إنعامات ممنوعة من السفر؟ يمط الرجل الغامض شفته السفلى نحو اليمين في شبه ابتسامة وينظر من وراء كتفه إلى هرم من السجلات الكبيرة والسميكة المكومة على الأرض، في زاوية مكتبه الذي يشبه الزنزانة. ـــ هل ترين هذه الكومة؟ إنها فقط لمن يحملون اسم محمد. ثم ينظر، باستقواء، من وراء كتفه الثانية مشيراً إلى هرم أعلى من السجلات المكومة في الزاوية الثانية. ـــ وهذه لمن يحملون اسم عليّ. تسيل قطرة من العرق البارد فوق ربلة ساقي اليسرى فأرفع القدم اليمنى لأمسحها بوجه حذائي. أستعيد كل محمد أعرفه من الجيران وكل عليّ من زملاء الدراسة والعمل وأقلق عليهم دفعة واحدة. كيف يلحقون بالطائرة قبل مراجعة كل هذه السجلات والتأكد من أنهم ليسوا المقصودين بالمنع من السفر؟ أنا خائفة وهذا الضابط ما زال يتفرج على جواز سفري ويدرسه ويفلّيه صفحة صفحة ويدقق في التأشيرات والأختام وكأنه سيقدم فيه امتحاناً مصيرياً. إنتهى ترف السفر بالطائرات مع دخول جيشنا الى الكويت وفرض الحظر الجوي على العراق. صار الأُردن هو المعبر إلى العالم وبوابة الأجانب الى بغداد. فبعد انتصاف الليل، تنطلق الحافلات وسيارات الأُجرة وعربات الدفع الرباعي الأميركية (التي يسمونها "جمسي" تحويراً شعبياً لـ "جي. إم. سي") من كراج العبدلي في عمّان لتصل الحدود العراقية مع أولى خيوط الفجر. نودع بلدة الصفوي الأُردنية وشيخ جامعها يرفع الأذان، بعد أن نكون قد تزودنا من دكاكينها بالعشرات من ربطات الخبز والأدوية المعقمة والمهدئة ومعلبات لحم البقر وصناديق الصابون ودزينات الشموع وعلب الكبريت والدفاتر وأقلام الرصاص. لم ترحم سنوات الحصار على العراق أحداً من أهالينا، لا شيخاً ولا طفلاً. تستقبلنا الصحراء في نقطة طريبيل التي كانت حتى سنوات قلائل خلت دولة مستقلة لها حاكمها العسكري وشرطتها ومسجدها ومقهاها ومحطة وقودها وسوقها الحرة ووحدتها الصحية وفرعها من مصرف "الرافدين" ومكتب مخابراتها وحتى سجنها الخاص بها. إن المقام هنا يتنوع ويطول لساعات غير معلومة... وأنت وحظك. وليس من السهل أن يمر المسافر العادي مرور الكرام. إن عليه أن يحمل حاجياته ويذهب بها الى خيمة التفتيش، ويقف لكي يقلب جيوبه على البطانة ويفتح حقيبة اليد وحقائب الملابس ويفرش محتوياتها أمام المفتشين والمفتشات وهم يستعرضون السراويل والثياب الداخلية والهدايا ويفتحون عبوات الشامبو ويشمون قناني العطر ويتذوقون الحلويات ويصادرون ما يروق لهم وأنت تقول لهم "تفضلوا اخوان، مبروك وعوافي". أليسوا من ضحايا الحصار، أيضاً؟ بعد انتهاء الحفلة الأُولى تقف مع سائق السيارة في انتظار دورها في التفتيش وفتح الصندوق وكشف المحرك ورفع المقاعد والنبش وراء العجلات. حتى إذا انتهت حفلة السيارة على خير يرسلونك لكي تدفع الرسوم وتجري فحص الدم ( للتأكد من عدم إصابتك بـ "الإيدز"). ومع انتهاء هذه الحفلة يصبح المسافر جاهزاً لختم جواز السفر، وهو أمر قد لا يزيد على ساعة من الزمان، ما لم يطلب منك المفوض التوجه الى مكتب رقم 4، مقر المخابرات. في تلك الساعة المبكرة، يكون ضابط المخابرات متأرجحاً بين الكرى واليقظة. إن مكتبه هو غرفة نومه أيضاً حيث يبيت ليلته على سرير حديدي صدئ ومفرش قذر. إنه يلعن حظه عندما يطرق أحدهم بابه فيقوم وهو يفرك عينيه لكي يجلس الى طاولة خشبية عتيقة ويطلب من المسافر أن يعيره ورقة وقلماً لكي يستجوبه ويسجل إجاباته. لم تكن الدولة تبعثر ميزانيتها على شراء القرطاسية لموظفيها لأن لديها نفقات أهم. ـــ كم مضى عليك وأنت خارج القطر؟ ـــ عشر سنوات. ـــ لماذا؟ ـــ للدراسة. ـــ يعني أنت هسة دكتور ثلاث مرات. يعني الملعون مستعد للتنكيت عليك قبل أن يبل ريقه باستكان شاي. تخرج من عنده بعد أن يطمئن أن شخصك الضعيف لا يهدد الحزب والثورة وتعود الى مكتب الجوازات وتنتظر أن ينادوا عليك. يطول الانتظار في الغرفة المزدحمة رغم اتساعها والمختنقة برجال يشعلون سيجارة من سيجارة، فتخرج لتتنفس وأنت تحاذر الابتعاد، أو تستريح مقرفصاً على جانب من الأرصفة الإسمنتية العالية، والساعات تمضي وأنت تحتمي بمسقفات الجنكو من الشمس الحارقة التي ارتفعت فوق رأسك، تتأمل الصورة الضخمة للقائد، في مدخل النقطة الحدودية، وهو يرفع يده بالتحية وكأنه يقول لك "وين تروح منّا"؟ بعد التجربة المريرة الأُولى في اجتياز الحدود البريّة، رزقتني السماء برائد ،سائق سيارة الأُجرة الأُردني الذي يعرف كيف يمر بطريبيل مرور الرمح الرشيق. وكان رائد يطلب ورقتين خضراوين بدل الورقة التي يطلبها غيره. لكنه يستاهل. وتبدأ الرحلة بتعبئة الترموس بأطيب قهوة عربية ملغومة بالهيل لطرد نعاس المسافات، حين تنهب بنا "الجمسي" طريق الاسفلت الذي يبدو بلا نهاية. ومع زهور حسين ويوسف عمر وأُم كلثوم تنكمش رحلة الساعات الإثنتي عشر وتتحول إلى فارزة في عمر الزمن. لكن موهبة رائد الكبرى كانت تتجلى حين يختصر، وبتكتم ذكي، دورة الرشاوى المقررة على المسافر لكل واحد من موظفي الحدود. إنه يدس خمسة دنانير أُردنية في كف كبيرهم فتنزلق سيارتنا، بقدرة قادر، عابرة الحدود بكرامة وحنيّة، بدون جرجرة الحقائب ومد الأيدي في الجيوب وتحت الثياب ونزع المقاعد لتفتيشها، والأهم، بدون المرور بالمكتب رقم 4 أو الخضوع لسحب الدم بسرنجة مستعملة كفيلة بإصابتك بكل أمراض الدنيا. كيف صارت الرشوة قانوناً سارياً ومقبولاً، بل ضرورة للعيش في بلد طحنته حربان بعد أن كان يباهي بعزة النفوس؟ في تلك السنوات العصيبة، مرّت على طريبيل طوابير الأُمهات المتلفعات بالعباءات السود وهن تخرجن إلى الأُردن لملاقاة ولد منفي أو لاجئ أو محض مهاجر راح يسعى وراء لقمة العيش. يطول الغياب وتبقى حدود الوطن طاردة وعصيّة. وقد وصلت الحاجة نوشة، والدة صديقي سلام، إلى عمّان لكي ترى ولدها الذي فارقها قبل سبع عشرة سنة ولكي تشمه قبل أن تموت. وعند باب العمارة التي تؤجر شققاً مفروشة، في جبل اللويبدة، هجمت أُم سلام على البواب المصري الشاب وأشبعته تقبيلاً وهي تظنه بكرها الغائب. كيف لها أن تميّز ابنها المدلل وقد ابيضّ شارباه وتهرهر جسمه واكتهل قبل الأوان؟ ورغم منع السفر الذي صدر في حق حملة الشهادات العليا وأصحاب التخصصات النادرة، تسرّبت من البلد المنكوب خيرة كفاءاته. وكان الأطباء المتخرجون حديثاً يدفعون المطلوب لتغيير مهنتهم في جواز السفر ويضعون في محلها "كاسب" أو "تاجر مواد غذائية". ولم يكن ضباط الحدود غافلين عما يجري لكن الكل يغض البصر بعد أن يقبض حصته. وذاعت في تلك الأيام نكتة عن سيدة أُغمي عليها من الارهاق في طريبيل، فصاح الضابط: "ليأتي أحد هؤلاء المسافرين الكسبة والتجار ويعالجها". لا علاج للرمال وهي تستبطن الأسرار وتختزن الحكايات. شاسعة هي صحراؤنا الغربية وذات مهابة. وعلى شتى الأحلام تنفتح نقاطها الحدودية، وعلى كل الاحتمالات ومراودات الهروب الى فضاءات مختلفة ونائية. إن أرض البداوة تلهم الفروسية. لكنني رأيت في وطني وقرأت وسمعت ما يكفي لإطفاء شجاعة عشيرة من البدو. لهذا صار الخوف رفيقي الوفي في رحلات الخروج من الوطن والدخول إليه. ولعل الحدود هي المكان الوحيد الذي تمشي فيه بقدميك لتقف في حضرة رجل الأمن. في تلك السنوات، ومن وحي خوفي الخاص وخوفنا الجماعي، كتبت قصة قصيرة عنوانها "الخوافات" وأعطيتها لغالي شكري فنشرها في مجلة "القاهرة". ولم أنم لعدة ليال وتوجست من رنين الهاتف إلى أن مرّ النشر على خير. الحمد لله أن الجماعة ما عادوا يقرأون. ثم قرأ القصة المترجم ديفيد جونسون ديفيز ونقلها الى الانجليزية ونشرها في مكان ما فتجدد خوفي. فأنت، في مثل تلك البلاد، تخاف إن كتبت وتخاف إن لم تكتب. فإذا كتبت من وحي ضميرك، وأنت الصحافي الموهوم بالحرية، تكون قد حفرت فخك بيدك الممسكة بالقلم لأن آراءك "البطرانة" لا تعجبهم. أما إذا مرّت المناسبات الوطنية واستحييت أن تكتب مع جوقة التطبيل، فأنت حتماً مشبوه ومن الطرف المعادي. رحم الله غالي وأطال في عمر جونسون ديفيز. أما أنا فما زال المغص الذي يصيبني في مراكز الحدود مقيماً بل وتعززت أسبابه في السنوات الأخيرة، بعد أن زال بعبع وحلت محله بعابع. وقد دخلت الوطن في المرة الأخيرة من مطار أربيل، فتحسرت على ذلك الضابط صاحب السجلات السميكة في مطار بغداد، وترحمت على مأمور المخابرات في المكتب رقم 4 الذي يفرك عينيه من النعاس في صحراء طريبيل. إن حواجز التفتيش هنا محكومة من مرتزقة أجانب شقر وزرق العيون ولا يفقهون العربية، ومعهم كلاب متوفزة تفهم لغتهم. أي وطن هذا الذي تدخله بالقاموس؟ ما زلت لا أُحب الاستجوابات وأخشاها. لذلك أُواصل الالتزام بالحذر وأتسلح بالطاعة المستديمة لكل مواد قانون العقوبات البغدادي وكافة تعديلاته الصائبة أو الجائرة، وأحفظ التعليمات والمراسم الجمهورية الملحقة به. كذلك أُراقب كلامي وأتجنب الثرثرات وأكتب على استحياء وأمشي الحائط الحائط، رغم أنني أعيش خارج جدار الخوف العراقي منذ ثلاثين سنة. ثلاثون أخذتني إلى المطارات وإلى طريبيل، عشرات المرات، وعادت بي منها. وفي كل مرّة أقول إنها الأخيرة وإن بغداد ما عادت لي. من يصدّقني؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مجلة "الدوحة" الثقافية
|