المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
05/07/2012 06:00 AM GMT
1 لماذا نختلف بصدد المفاهيم الشعرية أو النقدية؟ وما هو دور الاختلاف في عملية القراءة؟ سؤالان يفرضان نفسيهما علينا في قراءاتنا للشعر لأن اللغة الشعرية التي نتواصل معها مفتوحة على تصورات أو عوالم غرائبية وحسية وفكرية مدهشة، ولأن الوعي اللغوي والمعرفي والفني عند الشاعر دائماً ما يُرتهن إلى فضاء المعنى والدلالة والفكرة، إذ يرتبط أي نص شعري بفكرة معينة توضع في سياقه، وفي هذه الحالة تتخذ الفكرة دلالتها بحسب الفضاء الشعري اللامحدود الذي ينتمي إليه الشاعر وتتعين الذهنية الشعرية للشاعر وفق المقاصد الجمالية التي يرمي إلى تحقيقها وبذلك تتخذ النصوص صوراً ودلالات مختلفة باختلاف الذهنية ولأن النص الشعري له مقاصد فكرية محددة ينشدها وغايات جمالية يسعى إلى تحقيقها، ويمكن أن تقودنا هذه الإشارة المستعادة إلى تلمس ذلك التفاعل النصي بين الفكرة والدلالة ونحن نتأمل هذه الجملة الشعرية: (أصغي في أعماق الليل إلى ارتطام كواكب) وبذلك صار الفضاء الشعري لا نهائياً ومتعدداً ومن هنا، أيضاً، يجب أن ندرك طبيعة التحولات الدلالية المتعددة التي تطرأ على القول الشعري ونعني بها تحولات المعنى داخل النص الذي يحتوي على مفاهيم شعرية أساسية حسب رولان بارت. دائماً ما نرى أن العلاقة بين النص وفضاء الشاعر متعدّدة وهناك من يرى أنهما شيء واحد أو يرى أن النص لا يمكن له أن يحتوي فضاء الشاعر، وهو الانطباع الذي اميل إليه في قراءاتي النقدية للشعر، ومع هذا لا يمكن للقارئ أن يستوعب هذا التعدد إلا بإرجاعه إلى ما يستند إليه من تعدد على المستوى المعرفي واللغوي وإلا فإننا سنتعامل مع هذا التعدد تعاملاً نقدياً عابراً، لنقرأ هذه المقاطع: (أكتب لأني أخاف/نوايا الليل تحيطني ومصابيح المطابع/وهناك ينبوع يكرر نداءات غريبة أمام بيتي) أو (يأتي الليل إلى غرفتي في الليل/أضع أمامه قصائدي/أبعثر حوله غيوماً/وأعيد له ترتيب مشهد مهاجرين في حقول ألغام). كل قراءة نقدية تتيح للناقد إمكانية الكشف عن دلالة مختلفة وهذا التعدد في الكشف جعل القراءة النقدية للشعر إعادة إنتاج للنص ولم تبق تبعاً لذلك استهلاكاً للنص وبذلك انمحت الحدود التقليدية المستهلكة بين القراءة النقدية والكتابة الشعرية وتجلى هذا التصور بجلاء في مثل هذه المقولات 'موت المؤلف' وعليه أدى الوقوف امام هذه المقولات على انفتاح النص وتعدد دلالالته إلى الانتهاء لواحدة من اهم سماته الجمالية والفكرية خصوصاً تلك السمة المتعلقة بالأنا الشعرية للشاعر والتي تتسع لأشكال وأنواع لا حصر لها من الكتابة بحيث تجعل القارئ متحكماً بمسار الفكرة أو الدلالة، لننظر إلى ضمير المتكلم في شعر صلاح فائق: (أنا مثل الغراب/أنا جارك/أنا النافخ في بوق قديم/أنا المهاجر القديم). ترتكز نصوص صلاح فائق على فضاء شعري مغرق بالإيحاءات والرموز والإشارات التي تشكل متّكأ دلالياً يفجر البعد الفكري لموضوع النص بحيث يستلزم تداعي باقي الأفكار ضمن تركيبية لغوية متوازنة من دون أن يغوص في المتانة والتنميق، وعلى لطافة هذا التوازن حاول الشاعر أن يحافظ في نصوصه الشعرية على التعبير المتأصل في ذهنيته المدفوعة تلقائياً لالتقاط اللحظة الشعرية المتحررة تماماً من سيطرة الواقع الساكن لذلك نراه يتجه إلى خلق صورة حسية تساعد في الكشف عن ملامح أخرى تختلف أو تتقاطع مع سكون الواقع، بمعنى أنه يدفع النزعة التصويرية في النص على تقريب المجرد وتمثيله حسياً وتتكرر التقنية، في أغلب كتاباته الشعرية، نفسها وفق المعطيات اللحظية ذاتها في تصوير النص واقتناصه لينتقل إلى حواس القارئ أكثر مما يتوجّه إلى مخيلته وهذا ما لمسناه اثناء قراءتنا لهذه العبارات الشعرية: (لست بعيداً عن نفسي إلا مسافة قبلة أو قبلتين) (ينبغي جرد هذه الكتابة من شائعات نساء/ومن جمل طويلة تقترب من خيول لا تصهل) (أجابه نوائب الحياة ببوق/أو بنقر أبواب بيوت بأنامل ضعيفة) (أرتاب من الهموم/من شؤون الطقس/ من جدول يقف قبل منحدر شاهق ويلتفت إلى الوراء) . في تقنية ثانية يظهر الأسلوب الشعري كنمو طبيعي للسرد الحسي الغرائبي، إذ يُدخلنا الشاعر في عالم غريب أو مجازي هو امتداد تلقائي للعالم الحسي الذي كان بصدد نَقلهِ، وعليه يتم التحول من دون أي تصادمية بين العالمين وبهذا ينتقل القارئ من عالم إلى آخر، داخل فضاء النص، من دون ان تستوقفه الفواصل أو الاستعارات المرتبطة بالوصف والتشبيه والطبيعة والمخلوقات: (أنا مثل الغراب/أحب قمم الجبال/أتسلل في الفجر قبل أن يستيقظ جدول هنا/لأداعب ثعالب الماء/وأسمع إيقاعات طيور نقارة/ثم أتوغل في الغابة لأجمع برقوقاً وعناقيد سماق/ وهذا ما يدهش خريفاً وصل هنا مساء أمس). 2 ما ينبغي التأكيد عليه، في عملية الوصول إلى الدلالة المتوارية وراء النص، يرتكز على حقل معرفي تنمو فيه كل الأجزاء المتعلقة بالنص سواء اللغوية 'البناء الخارجي للنص' أو الفكرية 'البناء الداخلي للنص' هذا النمو يشكل منفذاً تبعثه القراءة النقدية المتفحصة فتتحرك حولها الحواس لتحدد المعالم والدلالات بحيث يبدو النص، في لحظة ما، واضحاً وغامضاً في نفس الوقت بمعنى أن بنية النص لم تعد بنية الأفكار المتوالية بل البنية الحسية المتوالية التي تصلنا إلى الدلالة بسبب هذا الحضور الكثيف للموصوفات التي تتفاعل على مستوى النص وتتجاوزه إلى مستوى الرؤية المحملة بدلالات جديدة يتداخل فيها الحسي والفكري وهكذ تتجدد الكتابة الشعرية عند صلاح فائق في حلقة دلالية متحركة تمنح النص الوضوح والغموض والتجدد والتنوع: (كل قصيدة لي بدايتها أنثى/كل أنثى في قصيدتي بدايتها صوت القلم عند الكتابة). نصوص صلاح فائق تنطوي على أسرارها وتلتبس فيها الدلالات وبهذا تتفاوت القراءة وتختلف زوايا النظر ولئن كان مفهوم زاوية النظر 'الرؤية' يحيل على رؤية الشاعر الخاصة باعتبارها وصية أو وعياً فردياً للعالم محكوماً بنظام من المعارف والتجارب والأفكار والأمكنة فإن الاختلاف، المشار إليه، يكسر تعسّف الرؤية ولا ينفيها ويرفع، في ذات الوقت، تحكم القراءة بعالم النص الشعري ويفسح بذلك مجالاً واسعاً لقراءة أخرى تشارك النص دلالاته، ويُظهر هذا النوع من القراءة مساحة واسعة من حرية كبيرة في العلاقة بين النص والقارئ لتشير، تباعاً، إلى أسلوب نقدي جديد يرفض الحقيقة النقدية المطلقة، في القراءة، ويقول بنسبتها، لنطلع على هذه القصيدة المعنونة'كيف تكتب قصيدة مؤثرة' (عليك القدوم من اوروك) (تقيس يأسك باشبار وأنت تخرج من مصعد) (تتصالح مع الجبال والأنهار وأشجارهما) (تصير بائع أحلام في القرى) (تعامل أي سلحفاة كبيرة أو صغيرة كمواطنة في أي بلد) (ترى الذهب ضوءاً لا أكثر) (تفقد صبرك في الصباح وتعثر عليه في المساء). إضافة لذلك، يمكن القول إن نصوصه قدمت دلالة جمالية مقاربة لدلالة المعنى وقد نجد في هذه الإضافة أيضاً ما يساعدنا على تحرير معاني أو دلالات النص من قيد معيار النقد العابر أو القراءة العابرة وعلى أساس تحرير المعاني/الدلالات من قيد هذين المرجعين قد تستعيد نصوصه علاقاتها بالحياة والطبيعة والمخلوقات وتنفتح على تنوّعها وتحولها وأختلافها، وقد تطرح سؤالاً جوهرياً حول كيفية قراءة المعنى أو الدلالة المتوارية وراء النص أو حول كيفية قراءة النص في دلالته دون قطعه عن معناه الحسي، أي قد تشكل الدلالة منطلقاً لا يقيدنا بها ولا يحد من أسئلتنا النقدية التي تطرحها قراءتنا النقدية الصارمة، وهنا اشير إلى هذا الشطر من قصيدته 'نهر يهرب من مدينة' وهو حوار بين عازف بيانو وحصان: (الحصان: هذا عقابك لأنك لم تعزف لي) (العازف: كان مزاجي قد هرب لذا انقلبت المعاني حول أصابعي). 3 مهما عمل خيال القارئ في النص تشريحاً ليقبض فيه على سرِّ جذبه إليه فإنه يدرك شيئاً وتغيب عنه أشياء . يقول صلاح فائق في شعره: (أنني من أتباع زرافة) وفي هذه العبارة يقدم لنا رؤية مغايرة للكتابة الشعرية تعطي للنص بُعده الفكري وتبعاً لذلك انطلقت، هذه الفكرة، من كون قيمة النص لا تكمن في ما يعبر عنه ولكن في طريقة التعبير وفي ما يدل عليه من تصورات متنوعة تدعو إلى فهم مغاير للمعنى يساعدنا على التقاط الفكرة أو الذهاب مع الشاعر إلى ما لا نهاية، بمعنى آخر أن طريقة حدوث الشعر، في نصوصه، تبدأ بغرابة الكلمة أو الجملة لا غرابة الصورة وفعل المخيلة. يرى (نيتشه) أن ما يميز الحيوان عن الإنسان هو كون الحيوان يعيش في (الحاضر) دائماً بلا ذاكرة وبلا ماض لذلك فهو (بلا تاريخ يعيش مكتفياً بأفق لا امتداد له، يوجد في حالة سعادة نسبية) من هنا، كما يبدو للقراءة، يتضمن شعر صلاح فائق الكثير من اسماء الحيوانات (ثعالب/ثيران/غربان/طيور نقارة/ نسور/ طاووس/جراد/خفاش/لقلق/يعسوب/تمساح/خيول/غزلان/الزرافة/سلاحف/دببة/ ذئب/خنازير/بقر/صقور/كلب/سنجاب/أسد/قطط/ثعبان/قنافذ/هدد/فقمة/ضباع/خفاش/فراشة/أفعى/نعامة/فيلة) ويبدو هذا الحضور الكثيف أشبه بفكرة حاضرة دائماً ومضافة للنص تنتج عن ربط ماهية هذه المخلوقات ضمن كتابة شعرية ذهنية محضة وتكون هذه الفكرة قريبة من المعنى الذي يكشف بدوره العلاقة القائمة بين رؤية الشاعر لتلك المخلوقات، التي ترسم مظاهر الوجود، وحركيتها الطبيعية وبهذا تتشكل العلاقة عن طريق حضورها الشعري في النص، وهذا الحضور، أيضاً، يرضي شهوة التأويل مثلما يشبع غريزة التلقي، ويبدو، أيضاً، أن الشاعر قد استعار من هذه المخلوقات كينونتها ليقارب هذا المخلوق أو ذاك مقاربة مأساوية وقد تشكل هذه المقاربة شكلاً من مأساة الشاعر التي تبدو هي الأخرى مناهضة، إلى حد كبير، مع المعنى وعليه يمكن القول ان نصوص صلاح فائق الشعرية لم تستنفد طاقاتها التعبيرية لأن موضوعة المعنى شاخصة ببنائها أو تشكلها الفني لنصغي إلى هذه المقاطع: (حبيبتي، مع هذه القصائد/أرسل لك تحيات كلبي الذي يتكلم) (انحني على ذئب جاري/أهمس في اذنه أسرار هرب الممرضين من المستشفيات) (راهب يطارد قططاً حول كنيسة/في يده اليمنى مجرفة). من هنا لا بّد من العودة إلى مجموعة صلاح فائق المعنونة 'مقاطعات وأحلام' بطبعتها الأولى/1984 وسنرى أنها تتضمن، أيضاً، الكثير من المقاطع الشعرية التي لا تخلو من أسماء الحيوانات والطيور التي يحررها الشاعر من طبيعتها الساكنة ليدخلها في أفق ضرورات التجريب الشعري، ولا بّد في هذا المجال، أيضاً، من الإشارة إلى أن الاهتمام البالغ لصلاح فائق بهذا الأسلوب يجعلنا نتعامل مع النص بقصدية الشاعر وبهذا عكست المقاطع، المحملة باسماء الحيوانات والطيور، اتجاهين، الأول: ذو نظرة إنسانية محضة تبدت من خلاح انفتاح الشاعر على الطبيعة والكون، والثاني: ذو نظرة شعرية تجريبية مغايرة، لنتأمل هذه المختارات من قصيدة مكتوبة عام 1982 بعنوان 'ضرير يبحث عن هاتف' وهي مهداة إلى الشاعر سركون بولص: (لكن، في هذه الليلة رغبتي جبال ومياه ومأتم كبير لدببة) (في هذه الليلة أستعيد مشهد امرأة كانت تغسل حصاناً في جدول) (حدثني بروتون عن فقمات جائعة تحيط بحيرة/مشينا في حديقة/إنحنى: مسد ذئاباً تنزف حملناها إلى منطاد) (في منتصف المدينة رأينا غزالتك تأكل ملحا على باب) (زرافة تبكي في محكمة) (واخفي فاقتي في حضن خفاش) (صقرٌ يموت في وسط عبارة) (لأني احب باقات الريحان/مرة وضعت بعضها على أفعى) (في العشب قمر صناعي/فوقه يحوم زنبورٌ كبير) (وداعاً يا قيظ الصيف وأنت يا سلاحف) (فراشة كبيرة تحط على يدي/تمنعني من الكتابة). طبعاً، يمكن أن يكون في هذه النصوص أو الجمل الشعرية بعض المفارقة التي قصد منها المرح أو المزاح ويمكن أن نخرج من هذه المفارقات بعلاقة جدلية، بين الشاعر ومخلوقاته، تتضمن فعلاً ورد فعل، بل أفعالاً وردود أفعال مع إشارات تترك فسحة شعرية جمالية هي أوسع من الفسحة التي تلزم المعنى لكي يصل إلى القارئ. لا يمكن أن ننسى ان الذاكرة الشعرية قد ارتبطت بالعديد من النصوص التي حملت أسم هذا الطير أو اشارت لذلك الحيوان، الشاعر سعدي يوسف وبعض من نصوصه المعنونة (الخنزير،الايائل،لقلق نيسان) الشاعر (تيد هيوز) وقصيدته المعنونة (الغراب) والشاعرة (سنية صالح) وقصيدتها المعنونة (غراب يطلب الغفران) وفي قصيدته المعنونة (لاعب النرد) يكتب الشاعر الراحل محمود درويش: (هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدة/حرفا حرفا ونزفا نزفا/على هذه الكنبة/بدم أسود/لا هو حبر الغراب ولا صوته) وكذلك قصيدة (الغراب) المعروفة (لادغار ألن بو) التي يقول فيها: (الغراب، نعق 'هذا هو خلقي'/مرفرفاً كعلم أسود على نفسه) ويمكن أن نشير إلى صوت الضفادع في هذا البيت الشعري للجواهري: (سلاما على جاعلات النقيق على الشاطئين بريد الهوى). إن شعرية صلاح فائق فيها الكثير من الالتقاطات المبتكرة التي تشكّل استفزازاً معرفياً لدى الناقد والقارئ سواء بسواء، وقد حاولنا إضاءة بعض جوانبها الفنية، لكن هناك جوانب أخرى لم نتطرق إليها لذلك فإن قراءتنا هذه مجرد قراءة أولى لجهد شعري مغاير لا بّد من أن يقرأ بالجدية التي يستحقها.
الهوامش: 1ـ نصوص: زرافة تبكي في محكمة/صحيفة 'القدس العربي'/2012/4/24 2 ـ نصوص: حين تطير ثيران مجنحة/دببة في مأتم/نهر يهرب من مدينة 3 ـ مقاطعات وأحلام/شعر صلاح فائق/الطبعة الأولى/لندن/1984 4 ـ رولان بارت: مبادئ في علم الدلالة/ترجمة وتقديم محمد البكري/دار قرطبة
|