المقاله تحت باب في السياسة في
02/06/2012 06:00 AM GMT
1
لافتٌ أن يفكر أحد ما، في قراءة صفحات بيضاء يوماً، فماذا لو وقع المرء على صفحات لا كتابة فيها؟ الرتابة التي تخرج بها الصحف صباحاً هنا، "كل الصحف"، تعزز هذه الفكرة وتجعلها مغوية، فكرة أن ننكشف لا على كلمات ولكن على جرأة صفحات صامتة وبيضاء، أن يتوقف الجميع عن استمراء ملء الصفحات بالحبر، والانتهاء من حشوها، والتفكير في طريقة أخرى، في حلّ. تروقني هذه الفكرة الطوباوية منذ حين. بل بالفعل، يتحدث الناس عمّا يشبهها، يقولون وهم يقارنون بين ما يشهدونه، وما تطالعهم به صحف، معظم اصحابها شركاء في كعكة الحكومة أو متطامنون معها: هذا حكي جرايد و"فاضي" أكثر من أي وقت. من جهتي، ثمة سؤال دفين يدفع هذه الفكرة بشدة لتتمدد كل يوم، وهو ما الذي نفعله حتى الان، وما طبيعة علاقتنا ككتّاب وصحافيين بعضنا بالبعض الآخر، ثم ما طبيعة علاقتنا كلنا مع قارئ فطن، ملّنا، وملّ كلماتنا عن بلاد تكرر نفسها، أيامها ماثلة لا تنفك تتشابه، عنفاً أو سجالاً سياسياً ساذجاً لا ينتهي. قرّاء الصحف مثلاً، كيف ينظرون الينا، هل ثمة قرّاء حقاً؟ أم ثمة عابرون يمقتوننا؟ عابرون يفكرون في طريقة أخرى لا تعنينا، طريقة ربما أكثر أهمية، يتأملون بشكل، مختلف وبعمق، هذا السوء الذي يغلّف كل شيء في هذا العراق "الجديد"، إذ يتبدد الفرق، فلا ثمة تماه بين ما نفعله وما نراه. ثم هل ما نفعله مُجدٍ وذو فائدة؟ أتذكر فجأةً اننا لا نزال نكتب "جديد" بعد كل كلمة عراق. تسألني زوجتي هل حقاً كلمة "جديد" مناسبة أو صالحة للاستعمال حتى الآن؟ أي حتى بعد كل تلك السنوات التي مرّت، تذكّرني بأنها تسع ثقال، فأصمت متأملاً ألوف الكلمات الرديفة التي ندلقها يومياً ونسوّد بها الصفحات، حالماً مرةً أخرى بفكرتي التي تقدح، فكرة تلك الصفحات الخالية، المفعمة ببياضها المدهش والغريب. يتخيل الروائي البريطاني أيان مكيوان فكرة قريبة مثل هذه، يناقش بها سطحية كثير من الكتب، ما يملأ الكتب المملة عادةً وما يحشوها من كلمات، وفيما لو خرجت صفحاتها خالية وبيضاء، لقارئ يعيد تأملها. لكني أعني هنا صفحات الجرائد الكثيرة عندنا تحديداً، وأفكر في علاقتها بالواقع وبهوله. بعلاقة هذه الصحف بالإنسان، بذهوله في هذه التجربة، وبوجوده، بهذا المكان الاستثنائي. يُسرّ إليَّ صديق في هذا الصدد مرة: يبدو أننا جميعنا تقريباً في هذا "الكار" نتخادم. يقول زميلي المحرر من صحيفة أخرى: نكتب لبعضنا، او حتى لأنفسنا، ثم وحدنا نقرأ ما كتبناه، نتهاتف دائماً ونتخابر حول المواضيع نفسها وكأن كلاًّ منا على حدة في مكان ما، مجموعين ومتطامنين، نصحو كل يوم لنفكر في عدد الغد، أن يصدر وكفى، أن نملأه ليس إلاّ، نحشوه كمخدة نوم هائلة وطويلة، وحدنا نتسلّى باللغة، بهذا الكلام الذي يتدلّى كحبل النوم، نلمّه كيفما أتفق. لا نقول شيئاً جديداً في الغالب، ولا نتحسس ما يقع. كأن الانسان العابر أفضل، الانسان الذي يمقتنا، لكن الذي يرى غير ما نراه.
2
وحدها الحكومة/ الدولة، حيث يصعب في عراق مثل هذا، فكّ الارتباط بين الاثنتين، أو يقصر عند الاولى حدود إدراكها لمفهوم الدولة ووظائفها وطبيعة تعاملها مع الاعلام الحر، حتى مع دستور معلن جديد، لكن غامض ومتعدد التفسير. أقول وحدها يستطيب لها ما يحدث اليوم. اذ ينبري قادتها دائماً في الحديث عن كثرة الصحف التي تصدر يومياً (جرى الحديث مرةً أن العدد تجاوز المئة صحيفة تصدر من بغداد وحدها)، كمعيار لهذه "الحرية" التي يستعرضها السياسيون متى شاؤوا شعاراً مرفوعاً برطانة، مع أن الامر مختلف، أو شائك، أو غير مفهوم بالضبط. لكن مع الحاجة للدعم والاموال، مثلما مع حتمية أخذ أمر ممارسة المهنة بجد، بدأ هذا العدد من الصحف يتضاءل، على رغم أنه عدد ظلّ كبيراً، تستحوذ عليه القوى المتمكنة، الحكومة، الاحزاب الكبيرة، والتيارات المتعاضدة، صحفها الكثيرة ظلّت تصدر بانتظام. فمع سيولة مالية متدفقة، ودعم من مصادر مختلفة لا تزال كثرة من هذه الصحف تطبع لكن بمرتجعات يومية قياسية أيضا حين لا تباع. صحف يتحكم في ترويجها "بمزاج ما" الباعة ومافيات بورصة التوزيع الرئيسية، أكثر مما تتحكم هي في جمهورها المفترض وقدرتها على استمالة وعيه وذائقته. انها في كل الاحوال تكاد تتشابه، مواضيعها واحدة، نمطها نفسه، ومصادر أخبارها كذلك إلاّ باستثناءات قليلة جداً. ولعل من ملامح الاعلام الثابت التمويل، ما تصدره شبكة الاعلام العراقي الرسمية التي ترعى اكبر صحيفة في البلاد تشرف عليها هيئة تشكلت لتكون كما هو "مفترض" لتديرها الدولة لا الحكومة، ممولة من قبلها، لها مجلس أمناء، وتأسست وفقا لأمر إداري أصدرته سلطة الائتلاف الموقتة في عهد بول بريمر العام 2003، المجلس المذكور يختار أعضاءه، لا على أساس الكفاءة والمهنية، ولكن وفق طريقة المحاصصة السيئة الصيت وبطبعة محلية مرهقة. عدا ذلك، ثمة أيضاً صحف لأحزاب وكيانات كبيرة وأخرى صغيرة، فضلاً عن صحف لها توجهاتها الخاصة نوعاً، تتراوح حياديتها بحسب درجة قربها من القوى النافذة، سياسية أكانت أم دينية. لطالما أثارت علاقة الاعلام مع محيطه، جدالاً واسعاً، فعدا اللخبطة في استيعاب مفهوم حرية الصحافة، يجري الحديث منذ زمن عن مدياته ومستواه، ولهذا يمكن بسهولة اكتشاف حدود هذه الأزمة. القارئ المواطن "المفترض" الذي تتوجه اليه الكتابة، ينأى منزوياً تماماً، مشغولاً ببحثه اليومي عن احتياجاته الضرورية المفقودة، غير معني، وهو الذي يكاد يعرف خفايا قاهرة ويتداول وقائع فجائعية تتسلط عليه يومياً، يعرف فعلاً أكثر مما تقدمه هذه الصحف وما تشير اليه. فحين يتلاشى الخيط الفاصل بين حدود الاشياء، وهو في الحقيقة خيط وهمي تبتلعه السلطة متى شاءت، أقصد كل سلطة أو قوة نافذة، تبدو حينها ظلال الصحافة باهتة. فالحكومة مثلاً يمكن ان تزعل بسهولة من صحافة لا تزال تفهم أن عليها أن تمجدها وتتغنى بأفعالها وإنجازاتها، أي تكون معها كتحصيل حاصل. حتى الصحف التي يمكن أن نطلق عليها مجازاً بصحف معارضة، وهي قليلة أو ضعيفة، فهي قائمة على رد الفعل، يحرّكها، فتبني خطابها تبعاً لذلك، خصوصاً مع عدم تشكل معارضة سياسية أو مجتمعية أصلاً، بمعناها الفاعل والحقيقي. هذا إعلام يتعرض للتشكيك دائماً، لأسباب كثيرة، أهمها أن رجل السلطة سياسياً أكان، أم رجل دين، أم ضابطاً في قوة امنية، أم حتى حارساً شخصياً يحمي مسؤولاً، لا يزال يجد نفسه أميز من الجميع. إنه يرى في كلمات لا تتفق مع ما يراه ويؤمن به أو تثيره لسبب ما، كلمات أصحابها أعداء، ولهذا يتعرض صحافيون مرات كثيرة للاهانة والضرب، أو يُتهمون أحياناً باتهامات تنمّ عن جهل وغباء واضحين. مديات حرية التعبير المكتسبة حالاً بعد التغيير، وتبعاً لذلك (وربما بسبب فوضاه)، بدأت تقضمها شيئاً فشيئاً أنفة السلطة بأشكالها وألوانها المتعددة. منظمة الأونيسكو مثلاً، اعتبرت علناً في تقريرها الأخير لمناسبة يوم حرية الصحافة العالمي، أن العراق لا يزال الأخطر من حيث ممارسة العمل الاعلامي وفي مستوى حرية التعبير الصحافي، بينما لا يتخذ مثل هذا الموقف مجلس نقابي يدّعي تمثيل الصحافيين اسمه نقابة الصحافيين العراقيين، الذي يأخذ عليه كثيرون ممالأته للحكومة بشكل فاضح، وتملقها، خصوصاً ما يتعلق بضبابية موقفه مما يتعرض له الصحافيون في الداخل، والتضييق على حرياتهم في العمل.
3
من بين صور عديدة هشة الملامح في العلاقة مع الصحافة، بمعزل عن الشعارات طبعاً، تتجلى صورة الاحساس المعبّأ والخفي بأنها شيء فائض، ربما حتى قليل القيمة، صدرت أم لم تصدر سيّان. يلعب هذا الشعور المتعالي لدى طيف كبير من الطبقة السياسية السائدة دوراً في هذا. للسخرية المرة، وعلى سبيل المثال، لم يقع الزعماء العرب أو ممثلوهم، ولا الاعلاميون الآتون من كل حدب وصوب الى بغداد لحضور مؤتمر القمة العربية الاخير وتغطيته، الى صحف عراقية، على مطبوع صادر قط طوال فترة وجودهم في العاصمة. فالحكومة التي تباهت بأنها حجزت للاعلاميين الاجانب في فنادق فاخرة، لم تسمح لصحافي عراقي واحد بالخروج الى عمله. هكذا خلت بغداد من أهلها، بمنع تجول شبه رسمي لأيام، ورسمي ليومين متتاليين بذريعة هذه الاجراءات، والنتيجة عدم تمكن صحيفة عراقية واحدة من الصدور لأكثر من أسبوع. هذه الصورة تلخص عبثية النظرة الفوقية للاعلام والصحافة، وهي نظرة تستدعي حالاً إعادة صياغة السؤال في ما نفعله حقاً، خرجنا من بيوتنا أم لم نخرج، ملأنا صفحاتنا كتابةً أم لم نفعل؟ إذ إن ثمة رجلاً عابراً سيجيب عنا: ما لي بصفحات تتشابه، ما الذي ستفعله هذه الكلمات بحياتي؟ ماذا لو صدرت صفحات ممالئة، أو أخرى مضادة لا يلتفت اليها احد؟ ما الجدوى من صفحات غير بيضاء يملأها حبر كثير؟
|