منزل قديم متهالك اسمه (حديقة حيوانات نينوى) |
المقاله تحت باب قضايا غابة من الدراجات النارية، تتراصف بأزيزها المدوي أمام ورش التصليح الخاصة بها. بالكاد يرى المار من هناك ممرا ضيقا يتعرج بينها يؤدي بصعوبة الى باب خشبي منتفخ بفعل الرطوبة، مصطبغ بزيوت وشحوم المحركات، تعلوه لافتة كبيرة مرسوم عليها صور كارتونية لزرافة وأسد وفيل ودببة،كتب عليها بخط عريض: "حديقة حيوانات نينوى". حديقة الحيوان هذه، هي الوحيدة في مدينة الموصل. سعر تذكرة الدخول اليها (500) دينار عراقي فقط، أي ما يعادل 40 سنتاً. ورغم ذلك يتجنب الاهالي إدخال اطفالهم إليها، أو حتى المرور بمحاذاتها خوفاً عليهم من الأمراض والأوبئة. أول ما يطالعك في مدخل باحة المنزل، قرد افريقي يدعى "سالم"، داخل قفص حديدي صغير معلق. حركة "سالم" البطيئة تدل على اصابته بمرض ما، وهذا ليس بالمفاجئ إذا ما التقطت عيناك بقايا طعامه، التي كانت عبارة عن أحشاء الخراف. فضلات الطعام المتعفنة والحيوانات المتسخة قد تفسر سبب الرائحة الكريهة التي تزكم أنفك وتعطل حواسك وملامحك للحظات فور دخولك للمنزل، فأي حياة يمكن ان تستمر في هذا المكان، ومن يجرؤ على الدخول اليه؟ يقول ضرغام شريف الحامد القريشي -الذي ورث مهنة تربية الحيوانات عن أبيه- أنه فخور لكونه "صاحب ثاني حديقة حيوانات في العراق من حيث التأسيس، بعد حديقة الزوراء في بغداد". ويضيف بصوته الغليظ: "جبت البلاد طولاً وعرضا، لجلب انواع "تستحق المشاهدة من الحيوانات، فضلا عن تلك التي استوردتها من خارج البلاد". وعند سؤاله عن البلد الذي أتى منه القرد "سالم" مثلا، وكيفية نقله إلى العراق ابتسم قائلا إنها إحدى "اسرار المهنة" التي لا يبوح بها. طاووس، حمام، دعلج (قنفذ بري)، صقر، كلب حراسة، مالك الحزين، غراب، ضبع، دجاج وأوز، بلابل و..جلد أفعى، هذه ترسانة الحديقة من الحيوانات. لكن أين الأسد والفيل والزرافة والدب المرسومين على اللافتة الرئيسية؟ ضرعام القريشي يؤكد بثقة تامة، أن ما نراه مجرد نماذج قليلة من الحيوانات التي كانت لديه، لأنه وزع البقية على مناطق متفرقة في مدينة الموصل لكي يضمن لها السلامة والبيئة المناسبة. أين "تلك المناطق المناسبة"؟ لا يجيب القريشي، لكنه يتابع أنه أهدى العديد من الحيوانات النافقة إلى متحف التاريخ الطبيعي في المدينة لتحنيطها وعرضها على الناس خدمة "للفائدة العامة" على حد قوله. ولدى اقتراب مراسل "نقاش" من أحد أقفاص الحيوانات، اهتاجت دون سابق انذار، واختلط ضجيج النباح بصياح القرد والطيور، وفسر القريشي ذلك على انه "لغة التخاطب فيما بينها". ثم أوضح انه يحرص على تغذية الحيوانات من خلال شراء طعامها من السوق المحلية. "كلا حسب الغذاء المناسب له". قريباً من قفص الضبع، حيث كان الحيوان مستلقٍ وسط ثمار ليمون متعفنه، واصل صاحب الحديقة حديثه: "هناك أطباء بيطريون يشرفون عليها من الناحية الصحية إضافة إلى تسخير خبراتي المتراكمة في علاجها إذا لزم الأمر". لكن الهزال والضعف البادي على تلك الكائنات المسكينة لا يشير إلى تعرضها لفحوص طبية دورية. وهو ما أكده مهنا التك مدير زراعة نينوى حين قال إن "حديقة الحيوانات خارجة عن اختصاص دائرتنا، والمستشفى البيطري يشرف فقط على مشاريع الدواجن والمواشي والأعلاف المجازة في المدينة، ولا يشرف أبدا على الحديقة". وأشار مسؤولون آخرون إلى أن ما يدعوه القريشي "بحديقة الحيوان"، مشروع غير مرخص، لا يملك إجازة رسمية من السلطات أو حتى تصريح طبي يسمح بوجود الحيوانات. وقال مصدر في الرقابة الصحية في مدينة الموصل، فضل عدم الافصاح عن اسمه، إن "الظروف التي مرت بها المدينة، خلال السنوات الماضية، منعتنا من اتخاذ الاجراءات المناسبة بحق صاحب الحديقة". ونبه الى ان القانون يمنع تربية الحيوانات المفترسة او حتى الاليفة في الاحياء السكنية، خصوصا تلك التي تتسبب بروائح ومخلفات تضر بالصحة وبيئة المكان. وابدى الموظف الحكومي استغرابه من قيام حكومة نينوى بفرض غرامة قد تصل الى مليون دينار على رعاة الاغنام الذين يجوبون بقطعانهم الشوارع، في حين انها تسكت عن حديقة حيوان غير مرخصة في حي سكني. غياب الرقابة وتبرؤ الجهات الرسمية من المشكلة يظهر من كلام نشوان شاكر مصطفى، وهو مدير اعلام بيئة نينوى، إذ قال إن" لا سلطة لدائرته على حديقة حيوانات نينوى، ولا توجد محددات بيئية خاصة، ما دام الأمر يتعلق بتربية حيوانات داخل منزل خاص". وفي السياق نفسه قال اياد قاسم مدير العلاقات والاعلام في مديرية بلدية الموصل أن لا علاقة للبلدية بالحديقة المذكورة، فالعقار خاص وتعود ملكيته إلى مواطن". وأضاف، "دور البلدية يقتصر على نزع الاعلانات التجارية عن الحديقة في حال وجدت كونها غير مرخصة، كما نفعل الآن ضمن حملة أخرى مماثلة". صاحب الحديقة يقول من جهته، أنه قدم العديد من الطلبات الرسمية كي توفر البلدية له مساحة مناسبة في غابات مدينة الموصل لبناء حديقة حيوان نموذجية. "لكني في النهاية يئست من الدوائر الحكومية ومن البيروقراطية السائدة". ويتابع مقرّا بأن المكان الحالي غير ملائم حديقة حيوانات "لكن مع ذلك فإن الحديقة تشهد إقبالا من الزائرين منذ نحو عقدين"، يضيف. مشكلة القريشي في المكان الحالي أنه ضيق لا يتسع لأحلامه حسب قوله، أما بالنسبة لمعظم ساكني الحي فإن الرائحة الكريهة والأصوات المزعجة، هما المشكلتان الرئيستان. وأكد احدهم ويدعى أبو احمد، أن سكان الحي قاموا برفع عدة شكاوى الى الجهات المختصة من اجل نقل الحيوانات الى مكان آخر، لكن أحدا من الحكومة لم يحرك ساكنا. وبينما كان القريشي يداعب يد القرد "سالم" التي مدها خارج القفص، ذكر أنه يدير -فضلا عن الحديقة- "أول جمعية عراقية للرفق بالحيوان" كان أنشاها قبل فترة قصيرة، "لثقتي وقناعتي التامة، أن الجمعية أمر حضاري، يسهم في إنقاذ أصناف عديدة من الإنقراض" يقول. وأشار الى أنه يفكر بالاتصال بحدائق حيوان "عالمية" من أجل توفير الدعم والخبرة لحديقته، وكذلك بمنظمات مختصة بحماية الحيوان، لاسيما ان الحكومة في العراق "غير مهتمة" بالنشاط الذي يقوم به، كما يقول. وفيما كان مراسل "نقاش" في طريقه لمغادرة الحديقة، وأمام جلد أفعى عملاقة علقت باعتناء على طول شباك قريب من باب الخروج، كان القريشي يتحدث عن تأثره الشديد ببدء دائرة صحة نينوى حملة تسميم الكلاب السائبة في مدينة الموصل والتي أدت الى نفوق حوالي 750 كلباً، وعن مخاطر نشر السم على باقي الحيوانات، وخاصة الأليفة منها. وهو يلوح لنا مودعاً لدى الباب قال بانه سيسخر كل جهود "حديقته" و"جمعيته" في سبيل انقاذ الحيوانات، ونشر "وعي الاهتمام بها"، ومع اختفاء صوته بارتفاع ازيز محركات الدراجات النارية، وضع يده على الجهة اليسرى من صدره، في إشارة الى ان حيواناته في القلب. |