طرقات الموت السريع في كردستان |
المقاله تحت باب قضايا نقاش |
تبدو قيادة المركبات في الإقليم الشمالي كالقتال على الخطوط الأمامية للجبهة، حيث الموت محتملٌ في أية لحظة. وفي الآونة الأخيرة عملت الحكومة على تركيب كاميرات لمراقبة السرعة، وتدخل رجال الدين وأصدروا فتاوى تحرم القيادة الرعناء!
تتقدم السيارتان باتجاه بعضهما البعض على الطريق المتجه من مدينة أربيل إلى بلدة شقلاوة. كان كلا السائقين يقودان عربتيهما بسرعة تناهز المئة كيلومتر في الساعة. سائق السيارة السوداء اتجه نحو الجانب الأيسر من الطريق محاولا تجاوز سيارة أخرى، لكن طابورا طويلا من السيارات منعه من الالتفاف والعودة، فاضطر إلى متابعة القيادة على الجانب الخطأ من الطريق. كل من شاهد السيارتين المتقابلتين كان متيقنا أنهما تلعبان لعبة مميتة، وقبل لحظات معدودة مما كان مقدرا له أن يكون مصيرا محتما، انحرفت السيارة السوداء بإتجاه حقل معشوشب وانغرست مقدمتها في كومة من التراب واصطدمت مؤخرتها بالإسفلت وأحاطت بالمكان سحابة من الغبار. في تلك الأثناء، وقف سائقو المركبات الأخرى مذهولين وعاجزين عن القيام بأي عمل. لا يعتبر هذا المشهد، بالنسبة للذين يقودون سياراتهم بصورة منتظمة في الإقليم مشهدا خارجا عن المألوف، إذ لا يمر يوم من دون وقوع حادث سير مميت. ومع وجود ما يقرب من مليون سيارة في منطقة يسكنها 4.5 مليون نسمة، صار الإقليم يعج بالسيارات. فاستيراد المركبات لا يكلف الكثير من الأموال، ولا تفرض الحكومة الضرائب على المركبات المستوردة، كما أنها لا تفرض ضريبة القيمة المضافة. لذا فإن اقتناء سيارة في كردستان أقل كلفة مقارنة بالأسعار السائدة في الدول المجاورة. وتتدفق المركبات، من أحدث الموديلات يوميا، من المعابر الحدودية الإيرانية والتركية. ويتم استيراد السيارات الحديثة لأن حكومة الإقليم جعلت شراء السيارات القديمة المصنوعة قبل عام 2009 عملية مكلفة للغاية. كما أن بإمكان المواطن العراقي أن يسجل سيارته في إقليم كردستان بمبالغ أقل من تلك التي تدفع في بقية الأماكن العراقية مع قيام الحكومة بتخفيض رسوم تسجيل المركبات. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية شهدت تجارة السيارات ازدهارا كبيرا في كردستان مع افتتاح عدد كبير من وكالات السيارات من جميع الأنواع. ولأن الإقليم الكردي يعتبر، بشكل عام، من أكثر المناطق العراقية أمنا في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، بات أيضا قاعدة لمصنعي السيارات الأجانب الراغبين في تسويق منتجاتهم. وأدت كل هذه العوامل مجتمعة، إلى زيادة أعداد السيارات على الطرق المفتقرة للصيانة، التي تقوم الشرطة بتوفير الحماية الأمنية لها. وفقا للمديرية العامة للمرور في كردستان العراق، شهدت أعداد الوفيات نتيجة حوادث الطرق تزايدا سنويا ملحوظا. ففي عام 2009 توفي حوالي 564 شخص في حوادث الطرق، وارتفع هذا العدد في عام 2010 ليصل إلى 838 وحوالي 12 ألف جريحا. وخلال الأشهر الأربع الأولى من العام الحالي تم تسجيل 126 حالة وفاة وإصابة أكثر من 1000 شخص بجروح نتيجة حوادث الطرق. ويعتقد المسؤولون أن أعداد القتلى والمصابين قد يكون في الواقع أعلى من ذلك لأن الكثير من حوادث السير لا تبلغ بها شرطة المرور، خاصة إذا ما وقعت خارج المدن الكبرى. في وقت سابق، قال الناطق الاعلامي للمديرية العامة للمرور أن قيادة المركبات بسرعة، وسوء أحوال الطرق، والأخطاء التي يرتكبها السائقون هي المسؤولة عن هذا الازدياد الملحوظ في أعداد الحوادث. لكن، وفي الآونة الأخيرة، تحول هذا الموضوع إلى قضية سياسية حينما بدأت أحزاب المعارضة بإلقاء اللوم على حكومة إقليم كردستان فيما يتعلق بمشاكل المرور. ردا على الانتقادات الموجهة إليها، شرعت السلطات باتخاذ مجموعة من التدابير للحد من هذه الظاهرة. فكاميرات مراقبة السرعة التي يمكن نقلها من مكان إلى آخر وضعت قيد الاستخدام المنتظم في المدن الكبرى في كردستان العراق. وخلال لقاء استمر لمدة عشرين دقيقة مع شرطي مرور مكلف بالإشراف على واحدة من نحو 15 كاميرا مراقبة منتشرة في طرقات أربيل، سجلت كاميرته عشرة مخالفات. وقال شرطي المرور أن هناك ما بين 100 و 200 مخالفة مرورية ترتكب في كل يوم. في هذا الصدد، بذلت اللجنة العليا للإفتاء في اتحاد علماء المسلمين الكردستاني، وهي أعلى سلطة دينية إسلامية الاقليم، جهودا للحد من الحوادث المرورية. فاللجنة أصدرت فتوى دينية تنص على أن "الدين الإسلامي يأمر باحترام قواعد المرور" ويعتبر "أن من ينتهك قوانين المرور أو يقود سيارته بسرعة فإنما ينتهك القوانين التي يحث الدين الإسلامي على احترامها"، لكن من الصعب معرفة مدى تأثير تلك الفتوى على نسبة حوادث السير في الإقليم. وما يساهم في زيادة المشاكل المرورية في إقليم كردستان عدم وجود وسائل نقل عام. وفي هذا الصدد قال طاهرعبد الله، نائب رئيس بلدية أربيل، إن عدم توفر وسائل النقل العامة دفع المزيد من المواطنين لامتلاك سيارات خاصة. "فقبل ست سنوات من الآن، لم يكن هناك في أربيل سوى 35 ألف مركبة، أما اليوم، فقد ناهز عدد المركبات الخاصة الـ 400 ألف". حاليا، إلى جانب العدد الكبير من سيارات الأجرة، فإن وسائل النقل العام في المدن الرئيسية تقتصر على عدد من الحافلات الصغيرة التي يمتلكها ويشغلها القطاع الخاص. لكن تلك الحافلات لا تعمل بانتظام أو وفق مواعيد محددة، كما أن معظمها غير مجهز بأنظمة لتكييف الهواء، مما يجعل من استخدامها أمرا صعبا للغاية في فصل الصيف، إذ تناهز درجات الحرارة فيه الـ 40 درجة مئوية. وزارة النقل في الإقليم عرضت على أصحاب الباصات الصغيرة منحة قدرها ثلاثة آلاف دولار أمريكي كي يجددوا عرباتهم أو يشتروا أخرى جديدة، غير أن العديد منهم قال أن شراء حافلات جديدة أمر غير ممكن، فتكلفة الشراء تبلغ حوالي أربعين ألف دولار أمريكي. لدى دلير محمد - سائق حافلة- اقتراح آخر، فهو يرى ضرورة في تنظيم النقل العام تحت سلطة واحدة بدلا من جعله واقعا تحت سلطة العشرات من الأفراد. يقول محمد: "لا يمكن تنظيم النقل بالحافلات من قبل الأفراد ولا بد من وجود شركة واحدة للقيام بذلك العمل". في شباط فبراير من العام الحالي، وقعت حكومة الإقليم اتفاقا مع شركتين إحداهما ايطالية والثانية رومانية لتصميم وبناء شبكة قطارات (ترام) في أربيل ودهوك والسليمانية، بكلفة بلغت حوالي 6.5 مليار دولار. وخُطط لأربيل سكة ترام طولها 60 كيلومترا ولدهوك 40 كيلومترا فيما ستحظى السليمانية بـ 50 كيلومترا. ويعتقد العديد من سائقي الحافلات أن تنفيذ هذا المشروع سيحدّ من ازدحام الطرقات ونسبة حوادث السيارات، فضلا عن عوائده الاقتصادية على أبناء الطبقات الفقيرة العاجزة عن شراء سيارات خاصة، إلا أن الحكومة لم تعلن إلى اليوم عن موعد محدد لإنهاء تنفيذ المشروعات. وإلى أن تأتي تلك القطارات، ستبقى طرقات الإقليم جبهة مستعرة للقتال، يسقط فيها القتلى والجرحى، وتحوم فوقها سحب الغبار. |