نهاية الحزب الواحد

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
30/04/2011 06:00 AM
GMT



 نظام الحزب الواحد، المنتشر في نصف المعمورة، في رحلة أفول أكيدة. انتهى أولا في بلدان المنشأ، والنهاية تنتظر المقلدين، وما أكثرهم. نظام الحزب الواحد خرج من أحشاء أكثر دول أوربا تطورا، كما من أكثرها تأخرا (بالمعايير الحديثة للمجتمع الصناعي).

 وكانت سماته غريبة حقا: حزب واحد مقابل تعدد الأحزاب، زعيم مؤله مقابل موظف منتخب، قائد مؤبد مقابل موظف منتخب، قائد مؤبد مقابل رؤساء مؤقتين، ايديولوجيا واحدية مقدسة مقابل تيارات عديدة دنيوية، واقتصاد يحتكره موظفون مقابل آخر تحتكره شركات وأفراد.

 نشأ نظام الحزب الواحد، الذي أسمى نفسه توتاليتاري (كلي، شمولي)، بتخطيط مقصود في إيطاليا موسوليني ثم في المانيا هتلر، باسم الوحدة الصوانية للدولة، باسم النقاء العرقي للأمة، أداة التوسع في عالم الاحتراب على الأسواق. قدم هذا النموذج، بصيغة القومية - اليمينية، العمالة الكاملة بدلا عن البطالة، والحكومة الحديدية بديلا عن الوزارات المفككة، والسلم الاهلي بديلا عن الصراع الاجتماعي. قبل المجتمع بالتخلي عن حرياته، الجمعية والفردية، مقابل السلم الاهلي والاستقرار الاقتصادي، ليكتشف ان هذه الهناءة الوجيزة هي مقدمة للخراب. ونشأ نموذج الحزب الواحد، بغير تخطيط، في صيغة يسارية على عهد ستالين في روسيا السوفيتية، بعد حرب اهلية طاحنة. وقدم هذا النموذج نوعا من كفاية اقتصادية (سكن، تعليم، رعاية صحية، عمالة كاملة)، باسم يوتوبيا جماعية. ومن جديد قبل المجتمع بالتخلي عن حرياته، الجمعية والفردية، مقابل الوعد بفردوس ارضي.

 في كل هذه الاحوال احتكرت نخبة صغيرة، ثم فرد واحد، كل مقاليد السلطة، في جهاز يهيمن على السياسة والاقتصاد، وعلى الثقافة والمعرفة، والمعلومات، هيمنة كلية بلا منازع. كان هذا الفردوس الأرضي خانقا لدرجة دفعت أحد أبرز الروائيين (جنكيز اتماتوف) لتصويره بهيئة ضباب خانق يخيم على زورق صيادين بثلاثة أجيال (جد وابن وعم وحفيد) فتنتحر الأجيال كلها كيما يبقى الحفيد، ويعود الى حيث انطلق مصحوبا بالخسران. فلا صيد ولا أهل.

 هذا النموذج أغوى الكثير من النفوس نحو كل ما هو شؤم، بمجرد التفكير في تقليده. والمقلد، كما هو شائع، يدرك ولا يدرك ما هو فاعل. المقلدون نبتوا خارج أوروبا، في الصين كما في كوريا، وفي العالم العربي، بطوله وعرضه، من مصر الناصرية الى جزائر بومدين، ومن سودان النميري، الى عراق صدام ومن سوريا الاسد الى يمن علي عبدالله صالح اليمن. والحقيقة ان التقليد جاء في لحظة كانت فيها بقايا النموذج الأصل في أزمة توشك ان تهده هدّا. ويوم تساقطت أحجار النمط الواحدي، الواحدة تلو الأخرى، منذ إصلاحات غورباتشوف عام 1985، بدا ان العرب (وغير العرب) لم يسمعوا بذلك. ولعلهم تظاهروا انهم لم يسمعوا بذلك.

 مصائر زعماء الانظمة التوتاليتارية كوميدية وتراجيدية في آن.

 موسوليني، الذي كان ينفخ اوداجه يمثل دور الرجل العظيم امام الكاميرات، انتهى بفعل اخفاقاته الحربية، فانقلب عليه حزبه، ليطرده ويضعه في السجن، وكان سيتعفن هناك لولا فرقة انقاذ من القوات الالمانية الخاصة اعادته الى الحكم بقوة الدبابات، لينتهي اسيرا لدى الانصار الايطاليين الذين نفذوا به حكم الاعدام (مثل تشاوتشيسكو الروماني تماما).

 موسوليني يذكرني بالقذافي في سماجته وسذاجته، معلوماته الضحلة (اوباما هو ابو عمامة، وشكسبير هو شيخ زبير- حسب العقيد وديموكراسي - ديمقراطية هي اديموا الكراسي!).

 كما ان موسوليني قريب الشبه بالسادات، في اكاذيبه وانتفاخه، ولا يختلف كثيرا عن النميري، الذي تحول بين عشية وضحايا من زعيم ثوري الى امام، بعد قنينة جوني والكر- بلاك ليبل. خذوا هتلر. انتهى هو الآخر بعد سلسلة من مغامرات عسكرية كارثية، انتهت باحتلال بلاده. واختصار عمر الرايخ الالماني (الدولة) من الف عام، كما اراده الزعيم المؤله، الى الف يوم!

 او خذوا ستالين، الذي سماه رئيسه بـ "الاسيوي الجلف" لقد حول روسيا تشيخوف وتشايكوفسكي، الى سجن كبير وتصور نفسه مخلدا في قبر زجاجي يكون مزارا مقدسا للاجيال، فانتهى الى ادانة محقت اسمه وتراثه، وفتحت بابا للاصلاح تعثر وطال.

 ثنائي هتلر-موسوليني يذكرني بصدام حسين. ذات مرة اتصل هذا الاخير بمسؤول شيوعي (اظنه فخري كريم) ليطلب منه الاعداد الكاملة لمجلة الحركة الشيوعية العالمية، المسماة "قضايا السلم والاشتراكية" بدعوى السعي لتثقيف نفسه بالاشتراكية العلمية! بعد اشهر طلع مقال بقلم طارق عزيز –تأليف صدام حسين بعنوان: بناء الاشتراكية في بلد عربي واحد! وهو عنوان نظرية ستالين عن بناء الاشتراكية في بلد واحد. اي كنظام قومي، وليس كنظام عالمي حسب المنطوق الاصلي للنظرية.

 هتلر مات منتحرا مع كلبه، ستالين قام بفعل انساني وحيد/ ان يموت مثل البشر، صدام حسين اختبأ مثل الجرذ في حفرة، واستسلم مذعورا خلافا لولديه، لينتهي متدليا بحبل مشنقة.

 النظم التوتاليتارية الاصلية قامت بقدر هائل من التصنيع، وبنت جيوشا حديثة، وطورت العلم، ووفرت قدرا من الكفاية المادية مقابل استلاب كلي وشامل للحريات. اما النسخ المقلدة فعجزت عن كل ذلك، وسارت من فشل الى فشل. نجاحها الاقوى هو تقنيات القمع، واجهزة العنف، لا ضد عدو خارجي، بل ضد مجتمعها بالذات. ونجاحها الابرز هو استبدال النخبة التكنوقراطية بنخبة عائلية، وتحويل الثروة العامة الى ثراء خاص. نحن نعلم ان لا مستقبل لنظام الحزب الواحد. ويفيدنا التاريخ ان هذا النظام (او اللانظام) حين يفشل في وعده اليوتوبي يبدأ بستر الحقيقة بدثار سميك من الأكاذيب.

 لقد خرج الكثير من هذه النظم الأصلية بحركات احتجاج قاعدية، مدنية، دون اطلاق خرطوشة واحدة. ولم يخرج بعضها الا بعد حروب ودماء، في قارة المنشأ. اما في "قارة الاوبئة" فان بوسع هؤلاء الزعماء المؤلهين، بوراثة او بدونها، بحكم اسري او بدونه، ان يصموا التوق الى الحريات المدنية الحديثة بكل وصمة يشاؤون، بالخيانة، ام بالعنف، بالسلفية، ام بالأصولية، بالطائفية ام بالتطرف، بخدمة الدولار، ام بخدمة التشكيل، ولكن لن يكون بوسعهم ان يزيلوه. فالتحرير الموعود الذي نسمعه منهم صباح مساء بات طرفة نادرة، ولم يعد ثمة من يصدق (باستثناء من يصّر على البلاهة لاسباب ومصالح وجيهة او غير وجيهة) ان استبعاد الأمة شرط لأي تحرير من عدوان، او، وهذا ما يضارع الشيء نفسه، ان استمرار نظام الاستبداد الواحدي شرط للتحرير من العدوان. ويكشف قلق بل رعب اسرائيل من حركات الاحتجاج العربية، بما يعادل مجلدات، عن حرصها على بقاء الاستبداد العربي ضمانة مريحة لها. أما الاستبداد العربي نفسه فيلهي نفسه بأوهام "حب الجماهير" في كل العالم (كما يقول القذافي)، او بطلب "الجماهير" ارسال دبابات لتأديب "الجماهير". لكن لا مناص من الاصلاح، بالغاء نظام الحزب الواحد وارساء التعددية. لعل السياسيين يريدون ذلك، بينما العسكر يحبون الدبابات. محتكرو وسائل العنف لهم اليد العليا الآن. لكن هذا مجرد تأجيل