السقوط او التحول: النموذجان اللذان حكما العالم العربي-الاسلامي

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
02/04/2011 06:00 AM
GMT



ثمة مفارقة كوميدية في الوضع التراجيدي الراهن. رغم ان عاصفة التغيير تكتسح العالم العربي وجواره بقوة لا مرد لها، فان سائر الدكتاتوريين يعتقدون، او يقولون، ان "الوضع مختلف" في الدار، وان سفنهم ترسو في بر الامان. فكل دكتاتور يرى ان الصاعقة ستنزل على رأس جاره. فهل ثمة حقا عاصم من الطوفان؟

لقد ساد العالم العربي الاسلامي نموذجان "حديثان"، النموذج المصري، والنموذج الايراني. ساد الاول طويلا، بل اطول مما ينبغي، ومر بأطوار تحول وتبدل، اسفرت اخر الامر عن جوهره الخفي: هيمنة المؤسسة العسكرية على الامة، وتحول النخبة الى وصي على السياسة والاقتصاد كما على الثقافة والمعلومات.

حصل ذلك باسم جوهر هلامي: الثورة، التي لا يعرف احد لها عنواناً، ولم يبصر لها احد وجها، غير وجوه زعماء مخلدين، مثل ولدان الجنة، او باسم "شعب" لا قول له ولا مكان، او باسم "امة" مغيبة او غائبة. حظيت هذه الشرعية الذاتية، التي ابتكرها عسكر غاضبون، بقبول عارم، فبات عقيد هنا، وعميد هناك، زعيما مؤلها، افلح مسرحي مصري بارع في تصويره: "اوديب انت اللي قتلت الوحش؟" حيث يعبد الجمهور قواه الذاتية متوهما انها قوى سحرية اجترحها الزعيم-الريس.

لم يكن البؤس المادي والروحي الذي ارتضاه المجتمع لنفسه ثمرة جهل، بل لحظة اختيار وتفضيل: اعلان الجمهورية (في مصر، العراق، ليبيا)، بضعة فدادين لفلاح معوز (مصر، العراق، سوريا)، مصادرة اطيان الوجهاء والاعيان، التأميمات وبناء مشاريع كبرى (السد العالي، النهر العظيم- مجرد انبوب لنقل المياه- التصنيع العسكري، الخ). سلبت هذه التحولات عقل الجمهور الواسع، الذي اعطى الاولوية لتوكيد الذات القومية، مثلما اعطاها لوعد بغد يوتوبي من الكفاية الحياتية، سيان ان عمدت هذه باسم "الاشتراكية"، او باسم "التقدم" و"التنمية". لم يكن في هذه الاولويات المانعة للتحول الى شيء من حكم القانون، او من الديمقراطية، خصوصية عربية، بل كانت ظاهرة كونية، ان جاز القول. فدولة القانون، والدولة الديمقراطية، واجهت في قارة المنشأ اوربا، خصما لدودا: الامم المهانة، المتشوفة الى توكيد الذات القومية في عالم احتراب الامم، واللاتوازن في العلائق الدولية. والطبقات المفقرة، الصاعدة من قلب علاقات مجتمع الماضي، او من علاقات مجتمع الحاضر الصناعي، والمتشوفة الى اعادة توزيع الثروة. الاختلال الاول برز على اشده في المانيا النازية، وايطاليا الفاشية، والاختلال الثاني افصح عن نفسه في روسيا القيصرية. فنسدت طرق التطور الديمقراطي في هذين.

اما العالم العربي فقد اجتمع فيه الاختلالان كليهما. فانسدت طرق التطور الديمقراطي انسدادا محكما زاد عن نصف قرن. في غضون ذلك تحول العسكر-المنقذ، الى المحتكر الاكبر للدولة والثروة، دولة بوليسية، بلا قانون غير قانون تأبيد السلطة، وثروة منهوبة بتحالف كريه لنخب الحكم ورجال الاعمال. كانت مصر المثال الارأس (تذكروا كتاب من يحكم مصر؟) واكتشف المجتمع، الذي كان ما يزال قويا باغلبيته، مواطن الزيف في مجرى تحوله الى مجتمع حضري فائق، بعد ان قدمت له العولمة (التي لا يكف العرب عن شتمها) وسائل اتصال كونية كسرت احتكار الدولة للمعلومات، ولم تعد التمثلات الرسمية لواقع الحال بلا منازع.

لقد حققت المجتمعات الحديثة في العالم النقلة الى حكم القانون بنزع احتكار الدولة لانتاج الثروة والمعرفة (اقتصاد السوق)، اما النقلة في تونس ومصر فقد تحققت بمجرد انتزاع فضاء انتاج المعلومات والمعرفة. ولا بد لها، ان ارادت الترسخ من ان تغذ المسير الى انتزاع انتاج الثروة من الدولة، كيما تكمل تحررها. لقد ساد النموذج المصري في جل الشطر الحديث (لا التقليدي) من العالم العربي، من الجزائر الى ليبيا والسودان، ومن سوريا الى العراق واليمن. وحين بدأ هذا النموذج تعثره، بعد الانفتاح في مصر، وبعد هزيمة حرب الكويت في العراق(1991)، وقبلذاك في الجزائر (1989)، كان نموذج اخر يخرج الى الوجود، كبديل مفترض، هو النموذج الايراني. وبدل ثنائية الخوذة—النزعة القومية، حلت ثنائية العمامة-النزعة القومية.

ووجد هذا الانقلاب في الادوار الاجتماعية، بين عسكر فرضوا انفسهم كحماة للجماعة، وملالي برزوا كاوصياء جدد، تعبيره في انقلاب اللغة السياسية: المستضعفون بدل الجماهير الشعبية، والمستكبرون بدل الامبريالية، و"يزيد" بدل الدكتاتور، والاسلام هو الحل، بدل الاشتراكية والتقدم، و"لاشرقية ولا غربية"، بدل عدم الانحياز و"الرهبر" بدل الريس. حتى الشيطان لم يسلم من هذا التحول، فباتت الامبريالية الاميركية، الشيطان الاكبر. لعل في ذلك دغدغة لغرور ابليس، ان يتلبس بغتة اهاب اقوى دول العالم.

وتنامت موجة الاسلام السياسي، متاثرة بالنموذج الايراني، من الجزائر الى السودان، ومن فلسطين، الى سوريا فالعراق، دون ان تفلح في كسب موطئ قدم الا في السودان، حيث استبدل العسكر الرداء المصري القومي، بالرداء الايراني، الاسلامي.

وهنا، كما في حال مصر، كان الوضع البنيوي واحدا في الجوهر. نخبة اكليروسية تقرر الرائح والغادي، فتات من الثروة الى فقراء المدن والريف، وحروب مع اعداء فعليين او مختلقين.

ومن جديد اعطى المجتمع الاولوية لتوكيد الذات القومية، ووعد يوتوبي بالكفاية، عبر الشريعة لا التنمية. ومن جديد ايضا غاب حكم القانون، وانغلق النظام الانتخابي في قفص الولاية المقدسة، واحكمت النخبة الاكليروسية قبضتها على السياسة والاقتصاد، كما على الثقافة والمعلومات.

ولنتذكر ان انطلاق موجة التغيير لم تبدأ من تونس ومصر نهاية عام 2010، بل من ايران (حزيران 2009). فهاهنا، كما في تونس ومصر، توسعت المدن، وبات المجتمع الحضري الفائق يتوفر على وسائل اتصال وفضاء معلومات اوسع واعقد من ان تحتكره نخبة حاكمة، مهما بلغ جبروتها، وسط بيئة عالية خالية من قيود الحرب الباردة. ففي ايران ثمة 28 مليون مستخدم للانترنت، وفي مصر ثمة 23 مليونا (لا تتوفر ارقام عن تونس)، مع جيل جديد خبر كل رزايا النموذجين: الاستبداد السياسي، نهب الثروات، القسر الثقافي، وهلم جرا. ومثلما يتعلم رعاة الاستبداد من بعضهم، من اتهام المعارضين بالعمالة، الى قطع وسائل الاتصال، الى تنظيم مظاهرات تأييد، الى تزوير الانتخابات، تتعلم المجتمعات من بعضها، في تنظيم الرد بالوسائل الحديثة المتاحة.

النموذج المصري على مسار التفكك (وهو مسار لم يكتمل بعد)، وهو يجر معه كل مقلديه، اما النموذج الايراني فانه في قاعة الانتظار ما يزال، لكنه قادم. ولم تعد هناك قوى عالمية ترتضي الاستبداد باسم مقارعة الامبريالية او صد الشيوعية. وبتفكك هذين النموذجين، بحركات اكتساح قاعدية، او بفرض اصلاحات متدرجة، او بمزيج منهما، فان المنطقة مقبلة على تحول عميق، تحول يفرض على كل المجتمعات ضرورة التكيف. لا عاصم من الطوفان.