دماغ آنشتاين ودماغ المتعصب

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
30/01/2011 06:00 AM
GMT



صادف مرة أن رأيت ملصقاً بسيطاً عن التعصب الديني يحوي احد عشر مربعاً، كلها تحمل صورة للدماغ البشري، مأخوذة على الأرجح من كتب التشريح. وكل الأدمغة بحجم واحد، تحمل اسم: دماغ آنشتاين، دماغ المسيحي، دماغ المسلم، الخ. ثمة دماغ واحد في الوسط، بحجم صغير، صغير، كتب عليه: دماغ المتعصب.

تذكرت هذا الملصق أثناء جولة في الأحياء المسيحية ببغداد. الجدل العراقي يشبه حال هذا الملصق، مع فارق حسابي: في الملصق، المتعصب واحد مقابل عشرة، في العراق الحال معكوس.

رغم أن التوتر المذهبي نضا عنه الطابع المسلح، دون أن يتجرد عن جلده السياسي، فالتوتر الديني الإسلامي-المسيحي في اشتداد. والاخطار داهمة وكبيرة: سيارات مفخخة قرب الكنائس، انتحاريون وسط قداس، كواتم صوت ضد مدنيين فرادى، ومظروف بريدي يحمل رصاصة (يودع عادة عند باب الدار)، وخطف رهائن بفدية أو من دونها.

تعيد هذه الحال إنتاج «جمهورية الخوف» التي تحدث عنها كنعان مكية، مع فارق أن الخوف السياسي المعمم في الماضي، كان يضع النشطاء وأصحاب الرأي في خانة التسديد، أما اليوم فيشمل جماعة كاملة محددة بدين أو مذهب. في جمهورية الخوف القديمة أو الجديدة، مساواة من نوع غريب، المرشح بدخوله موسوم بالذبح في عالم الأضاحي الغريب النهم هذا.

ويتلمس المراقب اول أعراض «جمهورية الخوف» في الصمت المطبق الذي يكاد يسود مسيحيي بغداد، رجال دين ورجال دنيا، عدا قلة سياسية ناشطة، تجازف بمتاع الأرض.

ثمة تأليب منفلت، بلا رادع قانوني أو مؤسسي، معلن أو خفي، صارخ أو ملتو وموارب. المواقع الإلكترونية لـ «دولة العراق الإسلامية» تلهج بالتأليب على الأديان والمذاهب الأخرى. فالعصبوي هنا يرى انه الفرقة الناجية الوحيدة. وبدل انتظار النجاة في الآخرة، يتولى في هذه الدنيا إنزال الهلاك بالفرق الأخرى، بتواضع المؤمن الذي يسند إلى نفسه مهمة الخالق. ثمة جـــوامع لا تقـــل عن المواقع الإلكترونية حماسة في بث البغض الديني، والحض على الإقصاء المشجع للإبادة، بدعوى مماهاة المسيحي مع الصليبي، على قاعدة إلغاء المواطنة للأول بدالّة التماثل الديني مع الثاني. وهذا يخرق معيارين: الأول دستوري، لأن الدستور ينص على أن العراقيين سواسية، والثاني فقهي لأن الجوامع تعد وقفاً لعامة المسلمين، لا ملكية خاصة للواعظ أو الإمام. آخر سورات التعصب انطلقت ضد الاحتفال برأس السنة في إحدى المدن، وصب الخطيب جام غضبه على مناسبة غدت عالمية، بمسيحيين أو من دونهم. لسنا في معرض تحليل محفزات هذا الغيظ الأصولي، بل في معرض الإشارة إليه فحسب.

الأحقاد ضد المسيحية تحولت صناعة متشعبة، لا تقتصر على إحياء مفهوم «أهل الذمة» الذي عفا عليه الزمن. كثرة من رجال الدين المسلمين تلهج بمساواة المواطن، ومساواة العراقيين، لكن قلة تمتنع عن تدريس وترويج مبدأ «أهل الذمة» الذي ينزل بغير المسلم إلى مرتبة مواطن درجة ثانية (أو ثالثة!).

وتتسرب في مسامات التباغض الديني مطامع دنيوية. ثمة طمع بأراضي المسيحيين في سهول كردستان ونينوى، وكركوك، وتنافس في البيزنس مع المسيحيين في البصرة وبغداد. فما أن يغلق محل تجاري لمسيحي أو يغلق محل خمور أبوابه، حتى يحل بعض الوصوليين المسلمين محله. ويروج أيضاً أن بعض سماسرة العقارات يشجعون تضخيم الاخطار ويسهمون في تهديدات مبطنة لشراء عقارات الضحايا بأسعار بخسة.

ثمة جوقة واسعة تشترك في هذه الصناعة، القاعدة الأصولية، والميليشيات الفالتة، والمافيات الساعية الى فرص الثراء، فضلاً عن عصابات محلية أحياناً. وإن صادف (أحياناً) أن تكون بعض القوى الدينية متساهلة، ولطيفة، فإنها تكتفي بالحرمان من فرص عمل، أو الضغط على الإناث بذريعة «الاحتشام»، وهي المعادل لفرض الحجاب قسراً.

مآلات هذا كله: الهجرة. النزيف اضعف الوجود المسيحي بدرجة مرعبة. الأحياء المسيحية في بغداد (مجيد زيونه، كمب سارة خاتون، كمب الأرمن، الدورة)، شهدت نضوباً متصلاً. بحسب الإحصاءات السرية التي أجريت في عهد البعث، يشكل المسيحيون نحو 3.2 من السكان، و7 في المئة من سكان بغداد. لا احد يعلم يقيناً الوزن الديموغرافي الحالي لمسيحيي العراق. ولما كان الدستور يمحض حق الاقتراع للجميع، في الوطن كما المهجر، فنسبة الهجرة لن تؤثر على الوزن الانتخابي للجماعة المسيحية. الافتراض أن تكون نسبة التمثيل بحدود 12 مقعداً، لكن قانون الانتخابات الأخير اختزل الرقم إلى 5 مقاعد، وهو تمثيل بائس يقتضي إعادة نظر. كيف يسع 3.2 في المئة من السكان أن يشكلوا خطراً على 96.8 في المئة منهم؟. يحتاج المرء إلى قدر هائل من العبط لكي يحمل هذا الخطر على محمل الجد.

الكنائس في بغداد أشبه بثكنات. محاطة بجدران إسمنت عازلة، ومداخلها مغلقة بعوارض وأسلاك شائكة. كنيسة سيدة النجاة في الكرادة، اكبر ضحايا الأحزمة الناسفة، تكاد أن تكون موقعاً عسكرياً حصيناً. كنيسة السيدة العذراء (كنيسة الأرمن) في الميدان، محصنة بعوائق. نقطة تفتيش عسكرية ثم مدخل ترابي ضيق، ثم باب حديدي موصد. الشماس المناوب يفتح الباب موارباً، ويتصل هاتفياً بالمطرانية قبل أن يأذن بالدخول. ثمة ضابط برتبة ملازم، وثلة جنود، تقيم داخل الحرم الكنسي لحمايته. الكنيسة المشادة منذ العشرينات، مكرسة لعيد العذراء، قداس يقام مرة واحدة سنوياً. يؤم هذا المقام المسيحيون والمسلمون، طلباً لـ «المراد»، وهو التعبير الدارج عن النذور المقدمة للأولياء والقديسين طلباً لعون دنيوي، من الشفاء إلى الإنجاب.

هــــذه المشتركات بين المسلمين والمسيحيين شائعة في العراق منذ اقدم الأزمنة. فالعاقر السنيــــة تلجأ إلى ولي شيعي طلباً للذرية، والعكس بالعكس. وفي حال فشلت الجهود في نيل المراد من الأهل، تحولت الابتهالات إلى أولياء وقديسي الأديان الأخرى. فالمهم التوسط والاستجابة.

لكن هذه الثقافة الشعبية، القديمة، قلما تشق طريقها اليوم إلى الزعماء والقادة، دينيين ودنيويين. فالانشغال الأكبر ينصب على تعميق الحدود الفاصلة، للم شعث الجماعة المذهبية أو الدينية. لكننا نعرف أن الحد الجامع، هو حد إقصاء.

ومن شأن هذه المحنة أن تتواصل في ظل دستور لا يحظر التأليب على الأديان والمذاهب ولا يجعله جريمة جنائية، ونظام تعليم ديني مترع بأخلاق «الفرقة الناجية»، ودولة ضعيفة مؤسساتياً، ونزعات أسلمة لا همّ لها سوى فرض مقاييس موحدة، قسرية، مأكلاً وملبساً ومشرباً، لكأن مشكلة عالمنا هي دخول البيت بالقدم اليمنى أو اليسرى، وستر شعور الإناث.

بوسع المرء أن يطيل قائمة البؤس الأصولي، الفارغ من أية رؤية لمستقبلنا. ولعل ريوع النفط تساعد على ديمومته حقاً.