المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
22/01/2011 06:00 AM GMT
الرجل البغدادي العادي، المهموم بمتاعبه اليومية ومشاغله الخاصة، لم يعد عابئا ببغداده، وهو يحدق بجسد متهالك الى الحقيقة. يسمّيها، يقول: بغداد، لكنه لا يقصدها. مفارقة مرة ان لا يدل الوصف على موصوفه، ولذا فهو لا يعبأ بجسد يكاد لا يعرفه. ثمة غيره من يتكفل الأمر أو ينوب عنه. بوضوح، ثمة من يستقوي بـ"صوته" اليوم، او يستولي خلسة على احلامه القديمة ليعيد في خبطة "سياسية – دينية" ترتيب امر المدينة وفق هواه. مدينة لطالما عدّها هذا مارقة، او كأنها مسؤولة بذاتها عن وقائع ما في التاريخ، يعاد تأديبها، حتى ولو كانت هي نفسها المدينة التي صبغت ذلك التاريخ بطباعها وألوانها ومرحها. لكن ما لها وقد تولّه هذا التاريخ نفسه بأطرافها فتشاكلا، حتى قدّما مزيجاً فريداً صهر مكوّناتها المتعددة، وصيّرها، لتكون عنوانا للتسامح والانفتاح. بغداد التي كان يكفيها وحده شارع الرشيد مثلا، لتكون مختلفة عما سواها، الشارع الذي كان لا يطأه الا من كان متماهياً مع انفاسه، او على صلة بفضاءاته المدينية وقوة رموزه العصرية التي طبعت المدينة كلها. يروي لي والدي، انه حتى منتصف السبعينات الفائتة، "كان من الحراجة على المرء ان يمرق في شارع الرشيد، من دون ربطة عنق أو شياكة ملائمة"، حين كان الشارع يكتظ برواده حافلاً بكل عنفوان المدينة وألقها وتطلعها، راسخاً بعناوينه المميزة وعلاماته الدالة، بدءا من محال الموسيقى، اذ تقبع محال الجقماقجي الشهيرة في أوله، مجللةً بأسطوانات موسيقاها الراقية، وصولاً الى مقهى الزهاوي العريق موئل الشاعر الكبير الزهاوي يوما، مذ سمّي المقهى باسمه في الميدان، مرورا طبعاً بعلامات الشارع الاخرى: محلات حسو إخوان، مكتبة مكنزي، المقهى البرازيلي الواسع، مكتبة ابو يعقوب او سردابه العلوي، اورزدي باك، بناية مصرف الرافدين، الشورجة، ساحة حافظ القاضي وغيرها. لكن، لم يعد شيء من تلك العلامات صامداً، ولم يعد هذا الشارع، شارعا اليوم، اذا سقط بكل ما للكلمة من معنى. المدينة لم تعد هي نفسها المدينة، إذ من الصعب على البغدادي في مثل هذا العبث، ان يتخيل شيئاً مما كان، او حتى أن يستعيد ولو قليلا، تلك الخيوط الوشيجة التي كان تربطه مع ماضي مدينته. ثمة مدينة أخرى بدأت تنشأ غير تلك: مدينة مكروهة وقبيحة تطفو فوق ركام هائل من الفوضى والتشظي والقمامة وعبث الهامش الذي صار يصفّيها مما تبقّى من علاماتها الآسرة، هادّاً اعمدتها واحداً واحداً، كما لو كانت اعمدة هيكل منبوذ يعاد تشكيله على هوى العوام. حشود الهامش التي تبقر بقسوة بطن المتن بسعادة الارادات التي تقودها نيات الماضي المعقد وطقوسه، اكثر مما يحركها شيء آخر. وحده الماضي يقود الاشياء هنا ويشكّلها على هواه. مجلس بغداد: صراع الوهم مع الوهم! مع لامبالاة الرجل البغدادي، أو يأسه، يعاد إنتاج صمته من جديد، والافادة منه، مثل رأسمال رمزي قابل للطي أو التأويل أو حتى التلاعب والتزوير. هكذا مثلا، يعاد تقويل أهل بغداد انفسهم، أو الإنابة عنهم، بإسم الفضيلة النائمة على جسد ميت مرة، أو بذريعة الحفاظ على الهوية مرة أخرى. يجري تصنع الكلمات، أو تحويرها، واستغفال هذا الأمل الذي نما شيئاً بسقوط الديكتاتور، واستعمال طيبة الناس، وجرّهم نحو معارك تافهة، بدلاً من انتشال المدينة من موتها المحتوم. من يصدّق أن مدينة كانت تلمع بعشرات دور السينما الفخمة والأندية الباذخة والمسارح العديدة، تعيش اليوم بلا سينما واحدة، وبمسرح فقير واحد. بدلاً من ذلك، تفتقت قريحة مجلس محافظة بغداد فانتفض أخيراً، ليقود رئيسه منذ أسابيع حملة لغلق النوادي الاجتماعية والليلية، التي تنفست قليلاً في الفترة الاخيرة. ظهر الرجل متحدثاً عن مارقين وفاسدين ومرتكبي فواحش يريدون سوءا ببغداد: اعلان مخبوء ومدفوع الأجر، يرفعه في وجه كل من لا يركب نبرة خطاب ملغوم بات يتصاعد شيئاً فشيئاً. سمّى مجلس المحافظة معركته بـ"معركة الفضيلة"، ثم، مستعينا بلعبة الجلاّد القديم ذاته، راح يعيد الروح الى قرار سابق لمجلس قيادة الثورة ايام النظام البعثي البائد، صدر عام 1994، فأوعز بتطبيقه رأساً، اذ ارسل كتيبة مسلحة الى نادي اتحاد الادباء والكتاب العراقيين لغلقه بالقوة، مبتدئا بذلك حملة هي الأوسع، لغلق نواد اجتماعية وملاه ليلية اخرى في بغداد، الأمر الذي استفز بعض القوى والمنظمات المدنية، واستفزّ كذلك المثقفين والادباء انفسهم الذين خرجوا في تظاهرة كبيرة شهدها شارع المتنبي مندّدين بإجراءات المنع، والتعدي الصارخ على الحريات المدنية والشخصية. الاعتصام نفسه، اعاد تصديره مجلس المحافظة لصالحه مجدداً، محاولاً تأجيج الشارع مرةً اخرى، مستعيناً برجال دين، معتبراً ان المعركة معركة المثقفين، و"هي في حقيقة اصلها دفاع عن الخمرة ليس الا"، ما دام الامر متعلقا بغلق نادي الادباء، وما دام المثقفون هم الذين قادوا التظاهرات. والحق ان معركة النخب المدنية والثقافية تأخرت فعلاً، واحتجاجاتهم جاءت خجولة، وخصوصا ان الاخرين صوّروا هذه القضية ونقلوها من كونها مسألة دفاع عن الحريات العامة والخيارات الشخصية الى كونها معركة من اجل بار! علماً ان القضية اخطر، وخصوصا ان خروقاً كثيرة سبقت ذلك في السنوات الاخيرة كانت تستهدف بشكل مقصود القيم المدنية المعتادة في بغداد وفي غيرها. فكثير من مجالس المحافظات كانت تعلن نيات ايديولوجية واضحة يحركها الدين السياسي، مراميها واهدافها واضحة ايضا في كثير من محافظات الجنوب والوسط. ومن يراقب ذلك، يقع على مساع متزمتة قوية في هذا الاتجاه، وقفت بالضد من كثير من النشاطات الثقافية والمدنية. حدث على سبيل المثال ان قام مجلس محافظة البصرة قبل بضعة شهور بوقف عروض لفرقة سيرك فرنسية قدمت تجاربها في المدينة ليومين، قبل ان يصدر امرا بايقافها وترحيل افرادها خارج المدينة بحجة ان تلك العروض مخالفة للتقاليد والاعراف الدينية. مثله فعل مجلس محافظة بابل عندما اعترض على قيام حفلات الرقص والغناء في ايلول الفائت ورفض تقديمها، وذلك في اطار مهرجان بابل الدولي الذي دعيت اليه فرق فولكلورية من بعض الدول. الغريب ان هذه الفرق جاءت اصلا بدعوات من وزارة الثقافة نفسها التي لزمت الصمت تماما حيال الامر ولم تعلق الا في دمدمات غير مفهومة عبرت وانطفأت سريعا على شفاه مسؤوليها. امور اخرى وتفاصيل شبيهة كثيرة حدثت ولم تتم ادانتها بصورة واسعة على أيدي القوى الليبيرالية السياسية والمدنية الثقافية العراقية بشكل واضح وكبير. غير ان قرار المنع الاخير الذي تبناه مجلس محافظة بغداد واستعان فيه بقرار سابق اطلقه صدام في اطار ما سمي بـ"حملته الدينية الايمانية" اواسط تسعينات القرن الفائت، بعد سنوات قليلة من هزيمته في حرب الكويت، ثم في اوج ايام الحصار الذي فرض على العراق، اتاح في ما يبدو الفرصة الاخيرة لعدد من المثقفين التعبير عن رفضهم لمشروع وجدوه يبطن كثيراً من احلام القوى والاحزاب الدينية حول الشكل المفترض للنظام المتخيل الذي يفكرون فيه، او طبيعة المجتمع المقصود، وهذا ما جعل الصراع محتدما بين المسوؤلين في محافظة بغداد وبين الآخرين، وان يكن صراعا يراه كثيرون غير متكافئ استنادا الى معطيات الواقع، او من الممكن ان ينعكس ايجابا في المدى المنظور. صراع بدا عميقا من خلال تداعيات الاحداث في الاسابيع الاخيرة وما تلاها، وقد ظهر ذلك جليا على صفحات بعض الصحف وكذلك في الاعلام الفضائي المحلي، موشّى برغبة متواطئة لدى بعض السياسيين الكبار ايضا، متفرجين، أو دافعين بالامور الى الامام في اتجاه يحلمون به، ويسعون اليه! يضاف هذا الاحتقان المرّ الذي يغلّف فضاءات بغداد اليوم، الى صورة المدينة الجاثمة التي يحدق اليها العابر ولا يفهمها، وهي صورتها التي تتحول شيئا فشيئا مكاناً لا يشبه نفسه، ولا يستطيع ان يكون شيئا آخر. هل ثمة بغداد حقيقية تشبه نفسها؟ يتساءل المرء، ثم يمشي في طريقه، متجنبا ما أمكنه عبوات الخطر على هذا الطريق، مهموماً بيومه تماما، ومنشغلا بخصوصياته. كل حديث مهم يجري اليوم عن بغداد، يجري في الحقيقة عن الصورة، عن المجاز، او الفكرة "فكرتها"، او في الضرورة عن بغداد أخرى يحتويها الدماغ ويلفّها، لا عن واقع ملموس. ولهذا لا تستحضر المدينة اذا اردنا، الا بوصفها صورة، صورة غائرة في الوجدان. حتى عندما تتحرك الميديا اليوم، وغالبا لأغراض سياسية، حيث يقال: أنظروا انها بغداد، فإننا في الحقيقة لا نرى أمامنا شيئا، غير ذلك المكان الغريب والصادم، وهو مكان بلا ملامح، او رائحة. مكان لا نعرفه الا من جلبة الاولاد الصغار في الشوارع بعرباتهم الصدئة وهم يكنسون الشوارع الميتة ويتعاركون على اجورهم نهاية النهار، او من اخبار المقاولين السذّج "الجدد" وهم يتوزعون جسد المدينة، اموالاً حراماً، ونهباً بلا حدود، يتكدسون ليشرعوا أمر المدينة اليوم، ويتكدسون بلا فائدة، على هوامش الصورة او نهاياتها، وهي صورة المدينة التي لا تعنيهم، ولا يعرفونها.
كتابة جديدة لرواية المكان
كتب روائي عراقي صديق مرةً عن الامل. في رواية طويلة ومهمة، يروي سيرة فرد في عراق الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت. صورة ملعونة عن ذلك الزمان، عن علاقات البطل بمن حوله، الجيران، اصدقاء العمل، الرجال الحزبيين الذين يعششون في كل مكان، كتّاب التقارير والوشاة. رواية عن الرعب والقلق الدائم الذي صار يترسخ بقوة في كل شيء. وبالطبع، رواية عن الحياة ايضا بوصفها املاً، صيغة ما لانتظار الخلاص. فكرة الامل، في تلك الرواية البعيدة التي نشرها خارج البلاد في التسعينات الفائتة، تتضح بقوة بين تفاصيلها. الحديث عن انتهاء ذلك الكابوس، تتسلسل تداعياته بسهولة، برغبة عطشانة في الصفحات، خصوصا مع انثيالات اللغة وتفاصيل الحكايات المتعددة التي تنفتح بقسوة على بعضها، كما في حوار الشخصيات الاخرى في الرواية التي تتحدث دائما عن الامل بالخلاص وتنتظره. صديقي الروائي المنفي حينها، هو نفسه يكتب اليوم رواية اخرى. اقصد ثمة رواية اخرى عن الامل! رواية مضادة، او رواية تفتح واقع الاشياء من جديد. فبعدما عاد منكسرا الى منفاه بعد خمسة اعوام عصيبة أمضاها في بغداد "ما بعد 9/4/ 2003" آملا بتحقق نبوءة حلمه بسقوط الديكتاتور، يشرع ان يدفع الى النشر، بمخطوطة روايته الجديدة التي يرسل لي منها اوراقا بين الحين والحين او يحدثني عن تفاصيل الحكايات الجديدة فيها. رواية اخرى عن عراقي آخر، ربما هو ذاته البطل القديم. يفكر بطل الرواية الجديدة في الصدمة، وتلك هي المعنونة الاكثر بلاغة وقوة بالنسبة اليه: صدمة الانكشاف على الحقائق الموجعة والمخبوءة التي لم يكن ينتظرها من ضحايا الامس، هو الكائن الحالم المعبأ حتى النهاية بأمل الخلاص. "اخيراً (يقول) تلك هي الحرب تقع، ويا للهول حينما تكون الحرب حلاً، لكن اي لعنة تلك حين ننكشف على اخوة اعداء جدد، اي امل هذا". بتلك الصورة تكون عودة بطل الرواية الى منفاه من جديد، ليتبدد كل شيء منذ اللحظة الاولى على ارض اللاتوقعات ومكان اللاخلاص. كل شيء ينقلب فوضى وهوساً وجنوناً. تنقلب التوقعات، وتصبح الكتابة محض هراء في لحظة تحديق واحدة واسعة. كل شيء منكشف الى عبث. نوع جديد من العبث، هذا هو المكان الموعود. تلك هي بغداد في الرواية، مع هذا الكم الهائل من سنوات الانتظار تتحول كلها في لحظة اكواماً من الرغبات الناقصة، اسى مستمراً، ومواجع. يتحول المكان نفسه الذي تحمله الذاكرة وتطوف به اينما حلت في العالم، ليصير مكاناً عائماً، منطقة بعيدة مجهولة ومزعومة. بالضبط يقول البطل لصديقته الاجنبية عن بلاده: "هذا المكان الذي قصدته وعدت، دعابة فجة ليس الا عن الامل، الامل الكريه تماما، مكان يتأجج فيه الموت منذ آلاف السنين". غير ان الفصول لا تتحدث عن تاريخ آفل وايام سالفة. انها كتابة عن الايام الراهنة والوقائع الجارية اليوم، كتابة عن سياسيين ورجال قبائل، عن قطّاع طرق وسرّاق مؤسسات رسمية واموال عامة، عن الذبّاحين ومفخّخي الاجساد، عن رؤساء مجالس محافظات اميين، ومثقفين طائفيين، عن رجال الدين الذين يتباهون بالجبب كما يتباهى نجوم السينما، عن الشيوخ المدججين بالمال والفتاوى والاسلحة والسيارات الفارهة، عن العصابات والميليشيات والجيوش السوداء والقتلة المحترفين، وطبعا عن العراق اولا واخيرا - خيمة هذه الملهاة، علامة العبث، بل علامته في كل زمان ومكان.
|