إلى وليد هرمز في سالميته |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات إذا كان لمدينة أن تفخر وتحزن، في الوقت ذاته، بابن لها اضطرته ظروفه أن يعيش في المنفى، فهي البصرة بابنها البار الشاعر والصديق وليد هرمز. ومن يقرأ كتابه الشعري (سالميتي) وقصائده، هنا وهناك، أو يبصر صورته في مواقع الانترنيت يقع على الكثير من المعنيين هذين، (الحزن والفخر). هذا المنفي في الثلج (السويد) لم تهدأ عواطفه يوما، ولم تبرد أشواقه، ولم يجد لحنينه سبيلا غير الشعر، يتداوى به بعيدا عن مدينته (سالميتة اسم البصرة القديم) وأصدقائه فيها، وهو المسيحي، من الفئة التي تسمى أقلية، كان من الطبيعي جدا له، ولمن مثله استبدال الوطن والأهل والدين، بعد أن فرَّ منه حتى من كان محسوبا على الأكثرية فيه. ولكي نعرّف به أكثر، فهو ليد هرمز بولص، الكلداني الأكادي الآشوري السومري...، يعني أنه من سكان ميزوبوتاميا (بلاد الرافدين) الأصليين. يعني أنه من أسرة سكنت العراق قبل أكثر من 6 آلاف سنة، وحين دخل العرب المسلمون البصرة سنة 14 للهجرة (635 ميلادية) كان آباء وليد وأجداده قد ولدوا فيها، ولا يقل عمر أحدهم عن 5400 سنة. ترى من كان يملك حق البقاء بالبصرة، نحن العرب المسلمون أم وليد؟ كنت أمني نفسي بان يطلب مني وليد هرمز التخلي له عن داري قبل سفره، وربما كنت أمانع، لكنه سيقول لي حينها: كنت أسكنها قبلك. فأرد: نعم. ليقول لي: إذن لماذا أنت غير مضطر لمغادرتها، فيما أنا مجبر على ذلك. ساعتها لن أجد جوابا وربما سأقول له، لكنها داري.. طيب هل تسمح لي أن أدعوك للسكن معي فيها، دون ان ينقص منها أولكا واحداً. لكنه إذا رفض سيقول: كلا يا طالب، ففي الأرض منأى للكريم عن الأذى،... عندها سأخفض رأسي عجزا وحزنا ومهانة...لأني لن أجد ما أقول له! ليس في العراق من يصدق بان مفرزة الجنود والشرطة التي تحيط بالكنيسة، أي كنيسة أيام الميلاد، وبعدها حتى قيام الساعة، كانت كافية لحماية المصلين هناك، او كافية لحماية منزل فيه عجوز. ولا أريد أن أشكك بنوايا القائمين، لكني وكثيرين معي يرون في ذلك مزحة لا معنى لها، إذ أن ثقافة قبول الآخر، لما تولد بعد في الذات الحاكمة، ذات الطائفة الأم. ما زلنا نثقف أبناءنا بأننا وأننا فقط المقبول عملهم، المسموح لهم بدخول الجنة، المباعد بينهم والنار، أما الآخرون فهم الجحيم أو إلى الجحيم. قبل صباح عيدهم نهاية كانون أول الماضي، أجَّل المسيحيون عيدهم، مثلما اجلوه لأكثر من سنة سابقة، وصمتت النواقيس في الكنائس الصامتة أصلا، ومعهم أحجم العلمانيون والليبراليون الذين اعتادوا مشاركتهم، عن تهنئتهم بالعيد، وأهدرت فرحة كأس النبيذ الأحمر التي ظلت مخبئة عاما كاملا، ولم يبق من نعيم اليوم الأول من السنة الجديدة 2011 سوى صدى باهت ليوم تقليدي. لقد مضى حزينا وصار مجرد شطب جديد على رقم جديد في روزنامة أيام لم تعد جديدة، إذ المخاوف هي هي كما يقول كثيرون ناموا باكرا الليلة تلك. يحصي كبير كرادلة البصرة ،القس عماد البنا عدد الأسر المسيحية في البصرة فلا يتجاوز الـ450 أسرة حاليا، من أصل أكثر من 2000 أسرة قبل عام 2003، نافيا أن تكون هناك نية للعوائل التي غادرت المدينة بالعودة في الوقت الحاضر. يقول القس إن المسيحيين عراقيون قبل أن يكونوا أي شيء، (وقضية السلام والأمن قضية الجميع). انها جملة توفيقية كما يفهمها الجميع، فهل تكلم رجل دين مسلم داخل مسجده بحرمة هجرة رجل مسيحي، وهل بحثنا عن الحل؟ هل تكفي زيارة خاطفة لكنيسة لتطمين من بقي منهم؟ الخوف أولا، وهو وحده بكل تأكيد، وربما الحياء والاضطرار ثانيا او (التضامن) مع ضحايا كنيسة النجاة أخيرا، كلها أسباب معقولة أو غير معقولة وراء إعلان الأسر المسيحية المتبقية في البصرة، من التي لم تقتل ولم تهاجر حتى اليوم، إلغاء أعياد الميلاد، واقتصار الاحتفال به داخل الكنائس والبيوت مثلما حصل في السنوات الأخيرة. وحقيقة ما يتعرض له المسيحيون تتردد في كل وسائل الإعلام قبل وبعد حادثة كنيسة النجاة، لكن الاحتفالية التي أقيمت مؤخرا في البصرة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان أغفلت هجرة وموت المسيحيين، مكتفية برعايتها لحقوق المعاقين، بل يقول مدير الدائرة ان حقوقهم من أولويات مهامنا. حين تصفحت كتاب (سالميتي) لوليد هرمز وجدت قصائده تضوع بعطر من نوع خاص، كهنوتية خاصة وحب جنوبي مميز، وصدق يهبط بك الى وديان وسهول وكهوف عميقة. تأخذ قارئها موجة عاطفة لا تعرف المجاملة، وثمة بوح خفي وحنين لمدينة لم يعد قادرا على مغادرتها، مثلما لم قادرا على دخولها ثانية. وفي حديث خفي معه، مع من غادر البصرة، (مسلما او مسيحيا) وصار هناك، كنت لا أشير على أحد منهم بالعودة، وصرت أوصيهم بالبحث عن مكان آمن لي بينهم، لأن المكان الذي ضيق عليهم به، صار يضيق بي اليوم. |