المقاله تحت باب قصة قصيرة في
03/01/2011 06:00 AM GMT
احتفظت برواية كتبتها منذ فترة طويلة و لم أكملها لأسباب عديدة لا أتذكرها الآن أو على الأقل لا تعنيك أسبابها، أسميتها "بلد متنقل". ليس فيها شيء خارق أو شخصية لا مثيل لها، فقد كتبتها في شهر واحد وأنا في حمى نزيف دموي في الأنف يتوقف لساعات ليعاود جريانه من جديد. بالطبع لا يمكنني إحالة السبب بعدم إكمال الرواية لنزيف الأنف المفاجئ، فأحدنا يكتب باليد أو ينقر على حروف الكمبيوتر باليد كذلك، ولكنني لاستخدم هذه الحيلة بمثابة مؤثر على الرأس الذي لا يستطيع التفكير بشيئين في آن واحد، وحينها كنت مشغولاً بطريقة لإيقاف النزف المرعب، ولما لم أفلح توقفت عن كتابة الرواية، فتوقف النزيف. أعدت المحاولة فعاودني نزيفي، فوجدت من غير المجدي الاستمرار بكتابتها، و أقنعت نفسي بذلك. ولكنني بعد ذلك ابتكرت متعة الحديث عن الرواية غير المكتملة، أضيف لها هنا وانقص لها من هناك، أحيانا أتطاول على ما يصلني من أفكار جديدة لقراءاتي روايات أو كتب تمنيتها لنفسي فأدسها في متن الرواية بمثابة فكرتي و أسلوبي وشخصياتي. كما لم أفتر عن سرد وقائعها على الجميع، مثلما أفعل الآن، لعلها فرصة لمداراة فشلي في إتمامها، أو للبحث عن سبب توقفي عن كتابتها مثلما عليه توقفي منذ فترة بعيدة عن كتابة أي شيء ولو مقال صحفي تافه لجريدة تافهة لا يهتم بقراءته أحد. الحقيقة في كل هذه التفاصيل أن أنفي لم يعد للنزف أبداً، وطرأت عليه تحولات غريبة. فقد تصاغر إلى درجة مثالية ولم يعد ضخماً متطاولاً شبيهاً بالمنقار، والذي ما أن تلتقي بامرأة حتى تعرف من الوهلة الأولى بأنك عربي فتبتعد صاكة على أسنانها "عوووع". كما أن حاسة شمه اتسعت وقويت، وأنا الذي كنت أفتقد لها طوال حياتي. ليس في الأمر حيلة ولا سبب معين، فهذا وضعي ووضع أنفي، ومع ذلك فهذه قصة أخرى ليس لها علاقة بروايتي الناقصة التي أكلمك عنها (للذين يشككون بوجود الرواية فليراجعوا المخطوطة في المكتبة العربية في مدريد تحت رقم: 138 Manuscrito/País Portátil). روايتي غير المكتملة (بلد متنقل) أسرد فيها وقائع شاب ترك بلده وهي تجهز نفسها لحرب جديدة. ولكنه في خوفه الدائم لا يرغب حتى في فتح تواصل مع أهله. يمضي أيامه وكأنه سائر في نومه لا ينوي على شيء سوى متعة الانتظار الطويل بلا أمل. إثناء تجواله في أحد الأسواق الشعبية يتفاجأ بأحد الغجر ينادي عليه ويدعوه للدخول في دكانه. كان الدكان بمثابة إسطبل حقيقي هجرته الخيول، في وسطه طاولة تضم علب عديدة بألوان وأحجام مختلفة. يختار له من بينها صندوقاً أخضر بلا أية علامة خاصة، وعندما يندهش من الدعوة والصندوق، يخبره الغجري بأنها حاجته التي جاء من أجلها، ويضيف: " لا تستغرب يا أبن العم، فكلنا لنا رغبات لا نبوح بها، ولكنها تكاد تعلن عن نفسها ما أن نقترب منها. هذه هي هديتك افعل بها ما تشاء". لا يدعه الغجري الذي يناديه بابن العم أن يرفض الهدية أو أن يتساءل عن تفاصيل كل هذه اللعبة، فظل يحدثه عن معاناته مع الزبائن الملولين وسط صراخ الباعة الآخرين وعياط أطفاله ونعيب زوجته التي جرته أخيراً من ياقة قميصه ليأتي ويساعدها بتهوية غرف الإسطبل لأن أبن لهما قد شمط بثيابه وزكم الأنوف برائحته. لأن الشاب قد أصبح أمام حقيقة حاجته التي يعرفها الغجري أفضل منه ـ كما أخبره بذلك في الصفحة 20 من الرواية، والصفحة بحجم ورقة فولسكوب قياس 4 دي ـ يقرر حملها والابتعاد عن إسطبل أبن العم قبل أن تجتاحه روائح أخرى غير معرفة. في شقته وسط المدينة يجازف و يفتح العلبة ليعرف ما بها. أحيانا كثيرة نتصرف عكس ما نرغب، ربما هو الفضول أو الرغبة الحقيقية التي لا نقر بها، أغلب المرات بناء على ما يخططه الكاتب بطبيعة الحال. إزاء دهشته، يجد نفسه أمام هاتف متنقل ( منكم من يسميه موبايل، خلوي أو محمول إلى آخر المسميات المبتكرة التي تجتاحنا بفضل اتساع الخيال وفقر اللغة بإيجاد البديل المناسب). مع الهاتف كتيب تعليمات عن كيفية تشغيله مع تحذير بسيط يعلنك المسؤول الوحيد عنه بعد ذلك وأن لا مجال للتراجع بعد الموافقة. الهاتف كما يعرف الجميع (واللعنة على التكنولوجيا المتطورة) ينقلك برمشة عين للوصول إلى أي بلد ترغبه. هاتف الغجري له خط وحيد وصوت بمثابة مطقة ناشفة ولكن متطاولة، حزره بطل الرواية ما أن نطق أحدهم من جهة ما (تفضل أخي.. معك بغداد!). لعل من السذاجة وصف تفاصيل فصول الرواية ومعاناة البطل ( فكما قلت لمن له رغبة متابعة فصول الرواية وتطورها، فما عليه سوى استعارتها من المكتبة) لأنه بعد اكتشاف رنة الهاتف لم يعد يهنأ بنوم أو وقت فراغ أو حتى و لو صفنه في أي مقهى أو زاوية من زوايا المدينة. سيعرف أن الهاتف لا ينغلق أو يخنس كما أن لا زر له القدرة السحرية بإيقاف الآخرين من الحديث الطويل الذي ستضج به شقته لينتقل أثره للبناية والشوارع المجاورة، فما كان من الجيران إلا أن تفرقوا وغادروا الحي من ضجيج لا يعرفون له سبباً. في صباح يوم آخر وهو جالس عند زاوية مقهى ( من المفترض أن يكون فصلاً جديداً، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنني لم أتوقف عند فصل إغواء ابنة الغجري الملتهبة لصاحبنا) سيقترب منه شخص يبدو غريباً عن المدينة يطلب منه بلهجة واثقة وان بدت له غريبة بأن يساعده بحمل أغراضه فالجميع في الانتظار. قبل أن يصل شقته هارباً من الحشود غريبة الوجوه، سيجد أكثر من واحد في انتظاره. عندما يحاول البحث عن الهاتف سيعثر على الإجابة: الآخرون انتقلوا عبر فوهة الهاتف من بغداد إلى مدريد. في البدء الأحجار الصغيرة، ثم الثياب فالأصابع فالشعر فالوجوه المعروفة والأجساد و الأغراض، ولم ينسوا بالطبع الذكريات الثقيلة، اللزجة، التي خرجت بما يشبه الطلق لتنفجر وتتمدد ماسحة بيد نزقة زوايا المدينة. بما يشبه الهرب أو الخوف أو مجرد الابتعاد عن كل ما يحدث من تغييرات في مدريد، و التي بدأ ناسها وبناياتها تذكره بما تركه خلفه منذ سنين، فخطف الهاتف وركض ليعيده للغجري. بحث عنه في دكاكين السوق ولم يجده. حاول التخلص من الهاتف بلا جدوى، بيعه، تحطيمه أو أي لعبة فنية من تلك التي نفكر فيها في أية قصة عندما تعينا الحلول الواقعية عن أيجاد بديل، ولأنني تعرضت قبلها بأيام (إثناء كتابتي للرواية) لسرقة هاتفي الشخصي من جيب الجاكيت في محطة مترو الأنفاق، فكرت أنه حل مناسب لمأزق بطل الرواية، وهو أن يضيع الهاتف بوسيلة مشابهة. فكان أن سرقه غجري آخر ( في حالتي سرقه مغربي دون أن يرمش له جفن) لم يلمح منه سوى خصلة جديلته المترجرجة وهو يهرب. قبل أن أتوقف عن إكمال فصول الرواية بسبب من نزيف أنفي، كان البطل قد وصل لأن يجد نفسه من جديد في بغداد بشوارعها وناسها وقنوطها الذي لا يشبهه حزن آخر في العالم. لقد انتقل عالمه إلى مدريد، ولم يعد أمامه من حل سوى أيجاد وسيلة للهرب مجدداً، فتركته يبحث في الأسواق عن جواز سفر مزيف يشتريه ليهرب عن طريق الشمال لأي بلد يقبل به لاجئاً.
توقفي عن الكتابة لا يدعني أتذكر ما خططت له كنهاية للرواية، ولم تعد تهمني طالما أصبحت من أشيائي الماضية، كما لا أفكر حقاً بالعودة لمراجعة مخطوطتها للشروع بكتابة ما ينقصها. ليس لي قدرة خارقة على رتق ما لم استطع خياطته، فالحلول السحرية ليست من قدراتي الشخصية، على الأقل في الكتابة. ولذا عليك تقبلها كما أسردها لك. الشيء الوحيد الذي أستطيع إضافته هنا هو أنني ومنذ فترة بدأت تنتابني تغيرات عديدة لا أجد لها تفسيراً. طبيبي الخاص بقي منشغلاً بحكاية نزيف الأنف ـ الذي توقف بلا سبب ـ وتحولاته الجمالية، عن سماع ما يصادفني. ولكن طبيبي ليس الوحيد في هذا، خطيبتي تركتني تظن بي بداية جنون أو حيلة مني للهرب أو لأنني لم اعد قادراً على تهييج جمر تنورها. صاحب العمل تعذر بالربح القليل ليطردني لأصبح رقماً إضافيا في قائمة العاطلين. بينما أصدقائي القليلين في المدينة لم يعودوا راغبين برؤيتي في كل مرة وأنا أحدثهم عما أصادفه يومياً في تجوالي في مدريد. ذلك أنني بدأت أرى وجوهاً تركتها منذ زمن طويل في بغداد، مقاهي تغيرت واجهاتها وشوارع انمحت أسمائها اللاتينية لتتسمى بأسماء عربية أعرفها عن ظهر قلب. في المرة الأخيرة و أنا وسط بوابة الشمس في مدريد بحثاً عن الشمس أو ما يشبهها، ما أن رمشت بعيني طرداً للغبار ـ مثلاً ـ و فتحتهما ثانية، حتى رأيت واجهة البلدية تتغير معالمها وتختفي ألوانها وأعلامها وزخرفتها الهندسية التي تعود للقرن الثامن عشر وتحل محلها ما يشبه طاولة حجرية عملاقة كتب تحتها على قطعة من الحديد: نصب الحرية. قبل أن أنهض لأتأكد من صدق ما رأيت أو لمواجهة أشباحي المتكاثرة كما يسميها أصحابي، تقدم مني شخص يشبه جواد سليم، نحات نصب الحرية، بلحيته من القطن الأبيض المنقط ليسألني أن رأيت من سرق قطعة منها. سألته: أية قطعة. قال: وذرة الأمل. ولأنني لم أستطع إجابته بدقة تركني ليسأل آخرين، بينما كنت أراقب الجنود تحت النصب يدحرجون حجراً ضخماً ويتركونه في منتصف الساحة ليأتي بعد حين سكير ويجلس عليه بمثابة كرسي ( لقطة سينمائية محبكة كنت قد رأيتها أو قرأتها أو قصها علي أحدهم سابقاً ) فيزوع أحشائه في علبة تنك مزنجرة ثم يتجشأ بصوت عالي كأنه منبه سيارة لا مجال لتفادي سرعتها حتى لو أغمضت عينيك ـ كما فعلت لحطتها ـ وكأنها المرة الأخيرة التي تجرب فيها لسعة الحياة.
|