عبد الستار ناصر.. الرحيل الى البرد الساخن |
المقاله تحت باب في السياسة عبد الستار ناصر هاجر الى كندا لاستعادة صحته لا أعرف كيف هي الحياة الساخنة التي تنتظر عبد الستار ناصر في المدن الكندية الباردة جدا؟ ولا أعرف كيف سيكون شكل الحميمية والعلاقات الساخنة التي سيمارس طقوسها هذا الولد الذي كبر فجأة على تاريخ طويل من الحرائق، وهو العالق فيها وكأنها تاريخه الطويل المسكون بالخطايا واللذات السرية؟ اخبار الاصدقاء في عمان تقول ان عبد الستار ناصر هاجر مؤخرا الى كندا تحت يافطة (اللجوءات الانسانية) رغم ان الرجل يبرر هذا الرحيل/الهجرة بالرغبة لاستعادة صحته وقدرته على الكتابة، على ذمة ما نقله الصديق علي عبد الامير في جريدة "الحياة" اللندنية.. السؤال الذي يبدو مريبا، لماذا رحل عبد الستار ناصر الآن الى اميركا الشمالية والى مراثي بردها العاجي؟ وهل ان هذا الرحيل هو استجابة لرغبة قديمة لاكتشاف هذا العالم الذي كره بعض وجوهه المحاربة والغامضة، او ربما هو تبرير سري للهروب من الاختناقات العربية التي جعلته مكررا ومتاحا للآخرين دون أي لبس! وهل ستكون هذه الرحلة هي قطيعة بالكامل مع الجذور التي ظلت تحزّ كثيرا في روحه، بدءا من جذور الطاطران، الى جذور الشوارع البغدادية، وصولا الى ما هو سري وعميق ومسكوت عنه في ذاكرة الامكنة؟ خبر الرحيل قد يحمل اكثر من معنى، واكثر من تساؤل، ليس لان عبد الستار ناصر بات اقل قدرة على الحياة الكاملة، وانه بحاجة الى جرعات عالية من (الانقاذ) لكي يرمم جسده المكسو بالاحزان، ولغته وروحه التي ظلت تصهل طويلا، بل لان عبد الستار بات اكثر ضجرا بهذا الهم (السياسي والثقافي) المزيف والمضلل الذي تصنعه اعلاميات الثقافة العربية التي حولت الاديب الى (محارب) رغم انفه لطواحين الهواء، ومقاوم فنطازي لاعداء فنطازيين، ولا همّ له سوى اطلاق الشتائم على الغرب والشرق، والحديث عن حروب مقترحة لاعادة (الامة) الى سياقها التاريخي الذي ضاع مع خيول بني امية.. الحياة الثقافية في المنفى العربي باتت حياة معجونة اضطراريا بالاوهام الثورية الدائمة، لان الاديب العراقي ان لم يمارس طقس هذه الاوهام ومراثيها وطقوسها الانفعالية في الاحتجاج والغضب والشتيمة والكراهية سيبدو مثقفا خارجا عن السياق وهشا وقابلا للانهيار، لذا بات الادباء العراقيون اكثر عرضة للتفكير بالخروج من هذه المنافي الساخنة بالاوهام الى منافٍ باردة، يمكن للعقل والاصابع والجسد واللغة ان تستعيد فيها عافيتها ولياقتها واطمئنانها، وان تمارس عند عتباتها طقوس الكتابة دون أي رقيب مؤدلج ومتلصص من رأسه حتى قدميه. فضلا عن ان الغرب الثقافي قد عاد الى الانسنة، بعد ان غادر منطقة الثوريات المهيجة منذ عقود، لان الثورات الكبرى في تاريخية هذا الغرب قد تحولت الى مثيولوجيا، وان المفاهيم الجاهزة لهذه المقايسة قد سقطت هي الاخرى عن وظائف اجندة مفاهيمية التداول.. لذا اجد ان رحيل عبد الستار ناصر كان هروبا من الاوهام والحروب والثورات والتكرار واللاجدوى، لان كل الاطمئنانات العربية لم تشفع لعبد الستار من ان يظل يعيش لصق الحرائق التي حرقته كثيرا، خاصة وان الرجل مازال يعيش ازمة ضمير سردي واخلاقي، اذ يكشف كتابه (صندوق الاخطاء) حجم هذه الأزمة وفداحة الألم الذي حمله على كتفيه مع (عودة الروح اليه) واستعادته لتاريخ طويل من الكتابة المرّة التي تورط فيها في تمجيد الحرب العبثية، وتسطيح الدم العراقي الذي كان يسيل بلا معنى في حروب تواصلت حتى النهاية، والتي كانت تحتاج ايضا كلاما اكثر عبثية منها.. هذا الرحيل الذي ترافقه فيها زوجته ورفيقة دربه الاخير القاصة والروائية هدية حسين يحتمل هذا التفسير كثيرا، خاصة وان مبررات الرحيل بمعناها الزمني غير مناسبة، فضلا عن طبيعة شخصية عبد الستار ناصر وهدية حسين المحتشدة بـ(حمّى العراق) وبنوستالجيا غريبة وهما في عمان المجاورة، فكيف بهما وهما بعيدان هناك عند بحار ادويسيوس؟! المنفى العراقي صورة غريبة للحزن العراقي الغريب، فهذا المنفى رغم اتساعه لم يستطع ان يصنع له هوية، ولم يستطع المهاجرون العراقيون على اعدادهم التي تشبه اعداد الهلاليين في سيرتهم المثيولوجية في الشتات ان يصنعوا مهجرا له مذاق عراقي خالص، اذ ظلوا مسكونين بالحنين واضطراب الامكنة، ومتاهة الروح، وحتى الشعراء الذين يتوهمون دائما صناعة بطولات استعارية خارقة في اللغة، وازحات اخلاقية ومعرفية في منافيهم لم يتخلصوا في العمق من هذا الحنين الذي يشبه جرح الروح الناتىء، اذ ظلت لغتهم الشعرية تفضح قلقهم وارتباكاتهم ويومياتهم اللجوجة والمشغولة بالاستعادة كثيرا.. ادباؤنا ومنذ نهاية الخمسينيات صنعوا لنا تاريخا سرديا ضاجا وضاغطا لحياتنا السياسية والاجتماعية، لانهم كانوا جزءا من سردية الحياة ذاتها ومن رعب يومياتها وانقلاباتها وسجونها ومنافيها الداخلية، واحسب الجيل العاصف الذي عاش بين كنفه عبد الستار ناصر كان شاهدا على كل هذا العصف الغريب، وحتى تجريباتهم في الكتابة التي ظلت تقتحم ما هو حداثي لم تتخل عن قلقها العميق، الذي هو قلق الانسان على جسده وحريته وتفاصيله اليومية، واحسب ان كآبة الحروب التي عاشها العراق منذ ثلاثين عاما كانت هي الطارد العنيف الاكبر لشهوة الحرية، والباعثة عن صناعة اشكال معقدة من اللاجدوى والرعب والطرد والعزلة، والمنافي في هذا السياق كانت اشبه باقتراح تعويضي للحلول في وهم (التطهير) وكأن المدن البعيدة التي استجابت لـ(الهروبات العراقية) فيها وجوه اخرى لما يشبه المدن العراقية، والمقاهي فيها هي ذاتها المقاهي التي تنام على غبطة الثرثرات الانيقة، والخصومات البيضاء والكلام الذي لا يشبه كلام الارصفة! وحتى النساء هناك ظلت قريبات من نساء الذاكرة، حتى يخيل للبعض بان ثمة امرأة ستخرج من شوارع باب الشيخ كما في رواية الرجع البعيد لتقف امام احدهم وهي تنثر عباءتها الملفوفة على جسد اهيف يختزن كل حرائق الشتاءات العراقية.. قل لي يا صديقي عبد الستار ناصر كيف سيكون بردك القادم وانت الحالم جدا بسخونات دائمة، سخونات في الكلام واللذة والشتائم؟ هل ستكون تورنتو الكندية حقا هي ملاذ بعض شيخوختك الصبية التي لا أصدق انك وصلت الى عتباتها؟ ما أرجوه فقط هو الاطمئنان على حريتك، لانها الشيء النبيل المتبقي من الشهادة على طفولات وعينا المشاغب وعلى احزاننا القديمة والقابلة. |