لقاء النار والماء

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
16/10/2010 06:00 AM
GMT



تبدو السياسة العراقية، المفتتة ابداً، مثل اسطقسات الاغريق، اربعة عناصر متنافرة هي الماء والهواء والتراب والنار. من اختلاط هذه العناصر صنع الاغريق عالمهم. وللمرء ان يتخيل التراب والماء صلصالاً، تمسه النار (ولا نار بلا هواء) فيستحيل فخارا.

حتى اللحظة يعجز السياسيون في العراق عن صنع جرة الفخار هذه. وهم يدورون في حلقة مفرغة قوامها جمع الماء والنار، جمعا يؤول الى مآل معلوم: الاخيرة تنطفئ والاول يتبخر.

التقاء حزب الدعوة (المالكي)، المكنى "دولة القانون"، والحركة الصدرية، المكناة باسم انتخابي، الاحرار، هو التقاء وصفه البعض بانه "اجتماع الاخوة الاعداء" او لقاء النار والماء. ظاهراً، لقاء المصالح هذا (والسياسة تقوم على المصلحة) خطوة الى الامام. عمليا، قد لا يكون.

العلاقة بين الاثنين على مدى السنوات السبع العجاف، الماضيات، تميزت بالتقلب يمنة ويسرة.

الصدريون امتشقوا السلاح في حرب شاملة ضد الجميع: ضد ما اسموه "المرجعية الصامتة"، اي النجف بما تمثله، وضد "اهل الخارج" (كل الاحزاب الشيعية الاسلامية في المنفى) وضد "الاحتلال" وما يرافقه من عملية سياسية، اي بناء دولة جديدة من الحطام.

في مرحلة لاحقة اندرج الصدريون، في اول نقلة نحو العمل السياسي السلمي، في التشكيلة الوزارية التي ترأسها الدكتور ابراهيم الجعفري (الاشيقر)، واحتلوا مناصب وزارية هامة. الا انهم واصلوا العمل بشكل مزدوج: قدم في العملية السياسية، السلمية بالتعريف، وقدم في العمل الميليشياوي، المسلح بالتعريف.

بفضل اصوات الصدريين ارتقى الجعفري الى رئاسة الوزراء عام 2005. وتكرر ذلك مع رئيس الوزراء الثاني، المنتخب نوري المالكي.

في الحالتين وجد التيار الصدري ان سبيله الوحيد لابعاد خصمه، الحكيم ومجلسه ومنظمته (بدر)، هو التصويت لحليف الضرورة، حزب الدعوة. ومع ان حزب الدعوة اقدم عهدا من الاثنين، واوسع قاعدة في السابق، الا انه تلقى، بسبب قدومه المبكر، ضربات أليمة، بل لربما ماحقة من اجهزة القمع، وتعرض لضغوط شتى من ايران الاسلامية، وعانى في المنافي ما عانى، ما ادى الى اضعافه لجهة الموارد البشرية والمادية. لذا وجد نفسه محشورا بين جبارين، تيار الصدر، وتيار الحكيم. لكنه استطاع، في فترة المالكي، ان يوسع قواعده، وان يجتذب قطاعات من الطبقات الوسطى، والشباب، معتمدا في ذلك، على موقعه الاستراتيجي في الدولة. وبلغ به النمو حداً تجاوز فيه راعيه الصدري، ومنافسه الحكيمي معا. وتجلى ذلك واضحا في انتخابات مجالس المحافظات 2009.

لكن هذا التحول الانتخابي جاء على قاعدة بناء دولة القانون، التي قادت المالكي، بعد تردد طويل، الى اطلاق حملته على الميليشيات، بما في ذلك جيش المهدي. وكان خياره واضحا: اما الدولة، او الميليشيا، اما الماء او النار. والمفارقة ان صعود المالكي جاء باصوات الصدر، فيما جاءت شعبيته الانتخابية بضرب العمود العسكري لتيار الصدر: جيش المهدي. ولعل المنبع الآخر لنجاحه في انتخابات 2009، يرجع ايضا، الى ابتعاده عن النهج الاصولي المتشدد، بالامتناع عن فرض قيم صارمة على الفرد، من الحجاب الى منع الخمور، الى الفصل بين الجنسين، الى قتل النساء، الذي استشرى في العراق، على يد الاصولية، سنية وشيعية. وكان هذا الاعتدال موضع ترحيب. لعل المنبع الثالث لتوكيد مكانة المالكي خلال عامي 2008- 2010، هو مفاوضاته الشاقة مع الاميركان، التي انتزعت جدولا زمنيا محددا بالانسحاب، ما يتجاوب مع مطالب قطاعات سياسية واسعة، تعارض الاحتلال.

اخيرا، لعل الاحتكاكات مع الاكراد (في كركوك) وخانقين، دفعت بعض القوى العربية (ومنها الصدريون) الى الاعتقاد بان هذا المسار يتوافق مع اعتراضاتها (بحق او بباطل) على ما تراه تضخما في النفوذ الكردي.

لكن العامل الاقوى في صعود وتوطد حزب الدعوة- المالكي، هو نجاحه في بسط السلم الاهلي، وابعاد او اضعاف الميليشيات. لقد اجتذب ذلك قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى في بغداد ومناطق الوسط والجنوب، بل قطاعات معينة ايضا العرب الى الغرب والشرق، والشمال، الى الانجذاب اليه.

تحالف الدعوة مع الصدر، هو تحالف اضطرار، محرج للاثنين. انصار الصدر يشرحون، بلا كلل، لمؤيديهم، عبر خطاب الجمعة واللقاءات، انهم "مضطرون" لسحب الخطوط الحمراء، لان المالكي، حسب منطوق الدعاة، يحظى بدعم السيد السيستاني، والحائري، والخامنئي، بمعنى ان "لا حيلة لنا في الامر".

والدعوة محرج امام ناخبيه الذين عبأهم باسم منطق القانون والدولة، امام رضوخه لمطالب عودة عناصر جيش المهدي (يقال بنسبة 20-25%) في الاجهزة العسكرية والامنية.

ويواجه حزب الدعوة حيرة التخلي عن فكرته الاساس، ومنبع شعبيته، دولة القانون، كما يواجه ضغوط العودة عن مسار الاعتدال الاسلامي، الذي قربه من النموذج التركي، وهو النموذج الاسلامي الاكثر قبولا من سواه.

لا ريب في ان تيار الصدر حقق انتصارا بهذا الانتقال من الخط الاحمر الى الخط الاخضر، بازاء المالكي، ما يضمن له مواقع نافذة في الدولة يعزز بها حضوره السياسي. اما المالكي فان غرائز الاستمرار والبقاء لدورة اخرى، وهي الغريزة الاقوى، قد تضمن له انتصارا ممكنا على المدى الآني، القصير، الا انها قد تفتح له باب النكوص عن كل اسباب صعوده، وبخاصة تأييد الفئات الوسطى الطامحة الى حياة بدون ميليشيا، والى سلام سياسي قوامه الاعتدال، لا القمع السافر لكل الحريات المدنية في المأكل والملبس والمسكن، وفي الاتصال والتواصل والاعتقاد والتفكير.

كل هذا مرشح للوقوع في حال فشل المالكي في اجتذاب سائر القوى الاخرى. بل ان عدم النجاح في اجتذاب القوى الاخرى من شأنه ان يفتح ابواب الجحيم، فنعود القهقرى الى عام 2006.

لا ريب في ان التيار الصدري قد تغير بعد تجارب سنوات سبع. ثمة جيل جديد من القيادات لا يرى ان حمل السلاح ضروري للاحتفاظ بالشعبية والنفوذ، او (وهذا هو الشيء نفسه) لا يرى في التخلي عن السلاح سببا لضياع الشعبية والنفوذ. فما يقرر نمو حزب او حركة انما هو قبول المجتمع بالافكار، او البرامج، والسياسات، اي الرضى لا القسر، لكن ميول القسر المجتمعي ما تزال قوية، راسخة.

قد يجنح الخيال السياسي الى افتراض ان لقاء الدعوة- الصدر قد يساعد على تقوية القيادات والتيارات الميالة للاعتدال والعمل السلمي عند الاثنين. لكن الخيال السياسي نفسه يتلمس ايضا، وبقدر متساو، حصول الاحتمال المناقض. ما من ضمانة للتوازن، وما من ضمانة للجموح. كلا الاحتمالين ماثل، بل قائم، وعلى غراره مستقبل السلم الاهلي، ومستقبل العراق، المتطلع الى استعادة شيء من المدنية.