المقاله تحت باب نصوص شعرية في
11/08/2010 06:00 AM GMT
اللاذقية - 2005
استهلال :
كان المطر يهمي , والأفق غارق في الخضرة , وبلا موعد سابق التقيتُ الشاعر أدونيس في بيته بقريتة الجبلية المطلة على البحر (قصّابين) , بضواحي مدينة اللاذقية في سوريا.. تحدثنا معه.. شربنا قهوته .. وكانت القصيدة .
*** الوقتُ ماءْ . والشَّمسُ برتقالةٌ مخبوءةٌ في ظلِّهِ عيونهُ غيمٌ وأفقهُ رداءْ . ** لا وعدَ إلا الشِّعرُ والموعدُ تاريخُ الفصولِ , الموعد الريح التي تلعب بالخيولِ , ها هنا تحالفُ الكلامِ بالسيولِ , والأشراقُ بالأُفولِ .
* (النارُ فاكهةُ الشتاء) . والجَّمرُ زيتونٌ عتيقٌ نائم بين النَّدى والنَّايِ يقتربُ المساءْ. مهرتُهُ موجٌ على مرمى سماءْ. **** قالوا : كانون يقطع ذيل العصفور * (قصَّابين) الشُّباكُ الأوَّلُ منهُ إليهِ. قصابين مشيمتهُ وهي الغصن المائلُ بين يديهِ وهي الضيعةُ بين الأوقاتِ هي الغربةُ ما بين الغربةِ والغربةِ وهي الحيرةُ ما بين اليقظةِ والتِّيهِ. * أمّهُ الوالدةْ . أمّه أرضهُ أمّه وطنٌ أمّه أمَّةٌ أمّه اللغةُ الواعدةْ .
**** ينطفئ النّهارُ والجّبال تشعل الفوانيسَ الفراشاتُ تناور الظلالَ والضّياءْ . يلبس ثوبَ النَّبضِ في مفاصلِ الأشياءْ . *** أفيقُ على صوتِ بابٍ حديدٍ يصِرُّ بكفِّ المياهِ وطولِ الغيابِ وصمت الحقولِ . فأدنو حيِيّاً كأني أخافُ على صمتهِ من صهيلي . كأني أخافُ على وردهِ منْ ذبولي . **** مشهدٌ غارقٌ في ظلام القرونِ يُغطِّي حقولَ الكلامْ . مشهد ظلَّ ينثُرُ أنفاسهُ كقِماشٍ عتيقٍ تَساقَطُ منهُ الحروفُ السخامْ . ليس ذنب الحروفِ العيونُ تآكلها الشوكُ والألسنُ العقمُ والانفصامْ. مَنْ يدوزنُ ثانيةً وَتَرَ الشِّعرِ ثم يعيد بناء القوافي ويعطي النظامَ جديد المقامْ . ** حينّ أدركَ أنَّ الطريقَ الجَّديدَ رهانُ. صار في وجههِ نبعُ ضوءِ وقالَ: الزمانُ مكانُ . المكانُ زمانُ . ** دمشق المهدُ من خشب الشآمِ على ضفاف الرّيحِ .. يبروتُ المدى .. باريس مشغلهُ الأخيرُ . كأنَّ دماءَهُ لهبٌ وأنَّ طريقَهُ كشْفٌ وموعدَهُ التّأملُ في خفايا الطِّينِ والأزمانِ حتّى شفَّهُ السَّيفُ الحريرُ . وشاركَهُ الليالي السهدُ والقلقُ الأميرُ. ** يداهُ . تصوغانِ من طين أيَّامهِ وردة ً تنشرُ العطرَ فوقَ دروبِ الظَّهيرة من جذع أيامه يصنع الفلك شعراً يراهُ. قريباً كنجمة ليل عميقٍ ولكننا لا نَراهُ . يؤسِّسُ للموج أحلامهُ ورؤاهُ . على كفهِ قمرٌ من نبيذِ القرى يتدحرجُ فوق السهولِ . **** أميل إلى الدوائر , والتقطع في الكتابةْ . أميل إلى انفجار السَّطْرِعن لغةٍ مفاجئةٍ أرى في السَّردِ غيري . **** غريب أنا والشعر مثلي غريب أجمع الرمز من أفياء صمتي . وصوتي غائب في حضوري بين أصداء وقتي شارتي ان يكون الحرف بيتي . **** في السكوت الذي أحتلَّ شرفتَهُ المُطفأهْ . والظِّلالُ التي أقبلتْ من غصونِ حديقتهِ كانَ ثمَّةَ شيءٌ خفيٌ يُحيط المكانَ يزاوجُ ما بين ألسنةِ النّار في المدفأهْ . وأنهمارَ المياهِ من الغيم فوق السقيفةِ والأرضُ كانت تضيءُ لنا سرَّها والجبال تصفف شعر السفوحِ وكان ثمَّةَ عطرٌ يفوحُ له طقسُ كافورَ في هيأةٍ من ترابٍ نديٍّ وخبزٍ طريٍّ وكان ارتحالُ الدُّخانِ إلى حيثُ يمضي له مرفأهْ. **** إنَّ حياتي اليوميّةْ . وِفْقَ مفاهيمِ العرب التقليديةِ , مخْفيةْ . ** مَرَّ الزَّمانْ . مدىً من السندسِ يعدو بين عينيهِ وفي راحتهِ الأزميلُ في راحتهِ الأخرى نشيدُ الصَّولجانْ . *** كنتُ أرقَبُ ظِلَّ الكلامِ وأُصغي إلى صمتهِ أتأملُ شُبّاكهُ تحتَ قِرميدهِ والمَمَرَّ المُصفَّفَ والدرجاتِ القليلةَ والطاولاتِ الرسومَ السَّجاجيدَ والهاتفَ الأسودَ القهوة َ الآن يطلقُ للكلماتِ العِنانْ . ** حين يسري الشِّعرُ في الأشياءِ تمشي كيمياءُ السِّحر في الحرفِ ويعلو كبرياءُ الخَلقِ من طينٍ ومن صمتٍ ومن ضوءٍ ومن ماءٍ تكون الروحُ قد هبَّتْ من الفوضى وصارالَّلون تاجاً فوق عرشِ الكلماتْ . يلبس الصمتُ رداءَ الهمسِ في الأنحاءِ يبدو من رفيف الغيب ما يُشبه حفلا هاجسياً ذا خطاب ساكتٍ يوصل معناهُ إلى غيم المسافاتِ فيجتاز قلوباً من حريرٍ وعقولاً من نسيج البَرَدِ الهاطلِ فوق الشُّرفاتْ . إنَّه من نفَس الشِّعر يُؤاخي بين ظلِّينِ ويمحو دمعتينِ الورد قد يُصبح طفلاً والحصى مسبحةً يخلق من ثلج الأعالي لوحةً تبكي على حائط جُصٍ وتصير الريحُ أفراساً من المرمر والحرفُ نبيُّ الشهَقاتْ . **** إقرأ الشجرةْ . قد تكون غزالاً من العاج أو قُبَّرةْ . إقرأ الماءَ رُبَّتما يختفي في صفاءِ سماواتهِ مَلَكٌ او رسولْ . إقرأ البحرَ رُبَّ مُحيطِ يكون فضاءً وآخرُ في يأسهِ مَقبرةْ . إقرأ الطيرَ نافذةً واقرأ الشمسَ تفاحةً واقرأ النصَّ من أوَّلهْ واقرأ النصَّ من آخِرِهْ . ** سيولدُ من برَدى ماؤهُ من لجينُ الحُروفْ . دماهُ زمردُ أوجاعِهِ دمعهُ يتساقط بين السُّطورِ يُباشرُعصراً وليداً على صهَوات الحُتوفْ . لأيّامهِ زهرةُ الشَّمسِ نافذةٌ كلُّ يومِ على الصُّبحِ تفتح ألوانَها والتواريخُ في كفه كومةٌ من ترابِ العُصورْ . عليه دمُ يابس ودموعُ السيوفْ. **** الشعر : غيمُ الصُّبحِ فوق جسَدِ الأوقاتْ . الشعر : همسُ اللَّونِ إذ يسعى من الأصابعِ الحيرى إلى الفُرشاة ْ. الشعر : ما يقوله البحرُ وما تأْمَلُهُ الذُرى وما يفجرُ الصّمتَ ويوسعُ الجهاتْ . الشعر : نشوة الهوى وبهجةُ الّلغاتْ . **** ليس لي ضفةٌ إنَّ بيتي الفضاءْ ليس لي جهةٌ بيرقي غيمةٌ وانحيازي الغناءْ . *** ليس قرناً بعينه ليس جيلاً بعينه ليس حباً بعينه ليس فرداً بعينه كل قرن يقوم على الظلم يعزلهُ كل بيت يقوم على القهر يعزله كل عرش يقوم على السيفِ يعزله كل حب يقوم على الأرث يعزله لا فرق بين الشِّين والسِّين وبيم الميم والنونِ وبين الدين والدينِ . * فضاءٌ مثل كمثرى قناديلُ نجومٌ في سماء الدمعِ غيمٌ في شبابيكِ الصباح الأخضرِ الأيام بحر من ضبابٍ خاتَمُ الشَّعر المرايا في يديهِ الوقتُ ريشٌ من رمادِ الحرفِ مسكون بنار الخلقِ هذا البيتُ لا يُؤوي سِواهْ . تسري فيه ذكراهُ ، التّي لم تأتِ من ماضي الدُّخانِ الزهر مسفوح على اللاشيء نحلٌ من زجاج الأفقِ يصطاد الرياحينَ السّواقي جرحهُ المخبوءُ في عمق التراب ِ الصمتُ.. هذا البيتُ يفغو في الفراغ البكرِ يصطاد الحكاياتِ الكلامَ .. البيتُ والبستانُ ما يعطي الكتابُ. * والكتاب * فهنا ذاكرة المتنبي ، إذا تشعل في أثواب الماضي نيران التنور الغافي في جسد الأيام , ينير الراوي عصراً ورواة وملوكاً ، هو من وحَّد بين التاريخ وبين الحكم، هنا معجزة المتنبي. وهنا نستلهم الآفاق . من دمه المراق . من دمعه الغاضب إذ يجري على الطريق بين مصر والعراق . من حب سيف الدولة الجارح والشك الذي يلمع في الأحداق . وهنا عن شئت أن تمضي إلى الأعماق وهنا إشراقة … مُرةْ أو لمعة حرةْ
**** اقرأه مثلما تشاءْ . وامنحْهُ من دمعكَ شريانَ ضياءْ . اجعل له من حلمك الطافي على عباءة الماء طيوراً وغيوماً ونوافير دماءْ . أنا على حصانهِ أطوف عالم التواريخِ واقتفي مكامنَ الشَّقاءْ . أغربل الأيَّام والحواضرَ الأولى وأسكن النِّداءْ . إقرأهُ مثلما تشاءْ .
*** ماهو المجدُ ؟ *** قَشٌ على سطح كوخ ٍ ووحلٌ يعيقُ الغمامْ . *** هل هو القيدُ ؟! *** أكثرُ , قد يصبح السجنَ شوكاً على بؤبؤ العينِ أو خنجراً في قلوبِ الحمامْ . *** والقصائد ؟! *** ضوءٌ ونايٌ ومرآى مَرايا وحلمُ الكلامْ .
*** ربّما نختلفْ . واجل نختلفْ . ربما نأتلفْ . واجل نأتلفْ . غير أنّا له نشعلُ الشرفاتِ قناديلَ من فضةٍ ونحني أصابعه الذهبيةَ بالبرقِ نرسم شيخوخةً من زنابقَ من كافِ كُنْ وحريرِالألفْ . وله نعترفْ . بضياء مدائنه الساحراتِ وإن قصيدته فرسٌ من رخامٍ وأن تجلي الكلامَ ينير المَدى ويشقَّ الظَّلامْ .
**** فَرَسي تعدو إلى مملكة الحبِّ ونورُ الحب للشاعر ينبوعُ . لا أعادي أحداً الحبُّ سيفي ولسانُ الحقدِ منزوعُ . واختلافي في كتاب الحبِّ مشروعُ .
* ** *** **** أيتها القصيدة لاتتكلمي بل اشيري
أيتها القصيدة إجلسي قرب نافذة العربةِ كيْ تريْ طريقكِ أفضل
أيتها القصيدة أنت تعرفين نفسك
أيتها القصيدة أنت لا تزاحمين أحداً في الطريق فلماذا يرجمك البعض بحجارة قلوبهم السوداء
أيتها القصيدة لا تبحثي عن المجد بل عن لغة توصلك إلى قمرفريد
أيتها القصيدة بثوب من العشب أنت جميلة ونظيفة كقلب صحابي حتى لو أحرقك الحاسد الأثين فأنت ستضيئين وجهه
أيتها القصيدة من يمدحك أمامي قد يذمك ورائي
أيتها القصيدة كوني عالية الجبين مثل تفاحة على شجرة من يقطفك يستحقك
أيتها القصيدة أنت تحبين أن تلبسي ثوب غيمة بألوان قوس قزح فماذا يريد البعض أن يلبسك رداءة الضيق
أيتها القصيدة من يحب الجمال سيلقاك حتماً
أيتها القصيدة أنت أيوان من المرمر الأبيض دعي الحفاة من العشاق والنساك والفقراء يمرون أمامك
أيتها القصيدة اصعدي على براق الجمال المسحور واتركي لغيرك السلالم الخشبية والمصاعد الحديدية إفتحي نوافذك المعشبة على مصاريعها وليضع من يشاء الأقفال فوق أفواه الكلمات
أيتها القصيدة خفتت أصوات كثيرة وصوتك يعلو وانطفأت وجوه كثيرة وبقيت أنت
أيتها القصيدة الذهب لا يصنع قصيدة والفضة لا تصنع شعراً والكرسي لا يصنع شاعراً والذهب يصنع نقوداً والفضة تصنع نجوماً والكرسي يخلق وهماً
..............................................................
إشارات :
- * صوت المكان ** صوت الشعر *** صوت الشاعر **** صوت أدونيس - النار فاكهة الشتاء , قول شائع . - كانون يقطع ذيل العصفور , مثل استشهد به أدونيس . - قصّابين , إسم قرية أدونيس . - دمشق / بيروت / باريس , ابرز المدن في حياة أدونيس .
|