حوار مع لطفية الدليمي: روايتي سيدات زحل شهادة حب لبغداد

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
06/08/2010 06:00 AM
GMT



هل نستطيع القول بأن التحاور مع لطفية الدليمي يشبه السيل الذي لا يقبل التوقف ؟ فكلما نحاول أن نحد او نخفف من تدفقه فإننا سرعان ما سنخضع لرغبة خفية بالاستمرار تحت هاجس الدهشة من الجديد القادم، فهي كاتبة مؤرَّقة بالابداع والتجدد، وغالبا ما تأخذك الى عوالمها الخاصة التي لا تختلف كثيرا عن العالم الروائي المدهش، وحياتها المكتوبة بحس نابض ستبدو (عالما روائيا غريبا ومدهشا وثريا حقا) وكأنك ازاء نبع متدفق من الاحداث التي قد تخفق المخيلة الخصبة في مجاراته او الاقتراب منه.

وفي روايتها الملحمية التي صدرت مؤخرا عن دار فضاءات للطباعة والنشر في عمان والتي حملت عنوان (سيدات زحل) تقدم لنا لطفية الدليمي حكايات عراقية عبر كراريس مستذكَرة تمتص مادتها من رحيق العذاب الانساني المؤسَّس في ارض العراق والمشيَّد في قلب بغداد، وتأخذ جل هذه الحكايات لحمتها وسداها من الواقع الجحيمي والتأريخ معا عبر مسار ملحمي لافت يرصد الجسد العراقي في رحلته الشائكة بين الطغاة والعتاة والقتلة والجهلة والأفاقين والطامعين ومن هم على شاكلتهم، كل هذا وغيره يُقدَّم لنا في رحلة سرد طويلة تمتلك أصالة اللغة وجمالياتها وتأتزر بجذوة الهم الحقيقي ولهفة الوصول الى الخلاص الفردي والجمعي معا.
وثمة المزيد الذي حاولنا استغوار مكامنه في هذا الحوار المخصص لرواية سيدات زحل نظرا لما تتمتع به هذه الرواية من أصالة ودخول جريء في مضامير السرد العراقي والعربي معا، فكان سؤالنا الاول: 
 
* بعد قراءتي لـروايتك (سيدات زحل) خيل إليّ أن لطفية الدليمي أنقذت نفسها ونساءها من موت شبه محقق بهذه الرواية، لاسيما أنك تعرضت للموت فعلا في بغداد وفي (باريس) الملاذ الآمن كما يراه بعضهم مع أنها لم تؤمّن لك حياتك و أحلامك ؟ 
- فكرة الانقاذ تذكرني بعبارة نيكوس كازانتزاكي: (كل كلمة تشبه قارب نجاة )، الكلمات باستعاراتها وأقنعتها وفاعليتها وجمالياتها قد تكون أحيانا قارب نجاة ولكنها نجاة تشتغل في مديات أثيرية وتحلق بالكيان المادي بعيدا عن حمأة الألم والعذابات الارضية بخاصة في صراع الانسان مع الفناء والموت وروايتي محاولة لانقاذ الذاكرة لو شئنا القبول بفكرة الانقاذ..
الكتابة عمل قاس وممتع وجوهري متجاوز للمألوف، نراوغ به رعبنا من الموت وريبتنا بما حولنا، نصنع منه دريئة ضد طعنات الآخرين وخذلان العالم، وهي تعويذتنا التي تنجينا من مخالب اليأس ونحن نتبدد بين ضياع حياتنا وغرابة ما يحدث لبلادنا من وحشية ونكوص، ثمة محركات اخرى لتخليق النص تعيننا جزئيا في عملية الكتابة ومنها لوعة الفقد والتوق والشهوات والحلم، تمثل سيدات زحل زمننا العراقي وتشظياته، اشتغلت فيها كما يشتغل المؤلف الموسيقى لتشكيل مقطوعة موسيقية أو ملحمة غنائية شجية تجمع  اشكال الغناء العراقية، المواويل والمقامات والابوذية والاطوار الريفية والغناء المديني، هكذا تخيلتها وانا اكتب كراساتها الخمس والثلاثين وهذه الملحمة  متعددة المقامات تنهض على ايقاع النشيج كما وصفتها الشاعرة اللبنانية (عناية جابر) حين قالت (لأول مرة يقترح النشيج في رواية وبمستويات موسيقية تعلو احيانا وتهبط بحسب تعدد المشاهد العراقية وتلونها الدرامي) النشيج الشخصي والنشيج العراقي العام وبخاصة نشيج النساء مثلما تتصاعد جماليات اللغة السردية وتموه هول الموت وتضعنا وسط مشاهد الحب ومناجيات العشق، والرواية بالاحرى تشبهنا وتضدنا في الوقت ذاته نحن الذين تشظينا وعدنا نحاول لملمة اجزائنا المتناثرة بمادة اللغة والحلم، بالحكي والتخييل والحب ورجفة الخوف ايضا على ايقاع النشيج الشجي ..
تعرضي للموت في المدينتين معا كان نوعا من سخرية القدر واختبارا لقوة الروح وهو اختبار قاس علمني الكثير عن نفسي وفوجئت بخزين القوة الذي امتلكه، صراع الحياة والموت في اعماق الانسان هو الطريق الذي يقودنا ويقرر سلوكنا وافعالنا. أيقنت حين واجهت الموت في باريس على يد عصابة من الافارقة هاجمتني بقصد السرقة وربما القتل، ايقنت أن فكرة تغيير الأمكنة لا تؤدي إلى الخلاص، قدرنا متموضع فينا وبالأخص في قلب المرأة وقوة حدسها التي تريها الآتي وتجنبها المهالك احيانا، تتضاعف قدرة أي منا على المقاومة عندما نكون وحيدين مع انفسنا ومصيرنا بلا سند انساني او سياسي او مادي، لقد جعلتني الفواجع التي عشتها في العراق وما شهدته طوال الحروب والاعتقالات التي طالت اهلي واسرتي من 1963 و 1968 و 1979 وما بعدها، كل ذلك جعلني اؤمن بعدم وجود حدود لقوة الانسان فحتى في مواجهة الموت يبقى المرء متشبثا بقوة الحياة وهو يصارع موته، علمتني فواجع الحرب والغربة معا أن أواصل العيش كأن كل يوم مضاف لحياتي هو بدء جديد وفصل من نص حياتي يكتب بخبرات الألم وغرابة العالم وشحنات الامل  ولا أملك إلا أن أمضي قدما رغم كل شيء .. 


* أسفارك المتتالية بين عدد من البلدان بعد خروجك من العراق هل ألقت بظلالها على ادائك الابداعي  وروايتك؟ بمعنى هل نجد فيها شيئا من السيرة الذاتية؟
- تجربة التنقل خلال اربع سنوات بين بلدان وثقافات متعددة وعادات وأناس مختلفين غيرت رؤيتي لأشياء كثيرة وأولها الكتابة وجدوى الابداع كما غيرت نظرتي الى الزمن هذا الغامض المنزلق من بين أصابعنا كأفعى مخادعة، نعم ثمة صراع في اعماق كل منا بين قوة الحياة المتدفقة والروح النازعة للبقاء وبين المادة النازعة للتحلل والفناء وكل يوم تفاجئنا قوة الحياة خلال صراعنا المستديم مع الفناء، صرت بفعل حياة التشرد والتبدد أشد زهدا وأكثر ميلا للتأمل والعزلة رغم انني كنت اعيش عزلة مماثلة في بغداد، واكتسبت المزيد من شجاعة المواجهة مع النفس والآخرين والعالم، وحددت اولوياتي وخياراتي الشخصية، كأني بعثت في حياة جديدة بعد ملاحقات الموت لي..  
روايتي ليست تجربة ذاتية - وان كانت اشياء مني موزعة بين بعض الشخوص، فقيدار البابلي يشبهني بقدر ما وبعض من حياة البابلي يمكن ان يكون قريبا مني، لكنها ليست رواية سيرتي – الشخصية الرئيسة هي (حياة البابلي) وتجربتها في الحرب والوحدة وهي مطلقة تشرف على الاربعين وتربطها علاقة حب عاصفة برجل بعيد وقد قررت الافلات من زمنها المعاش لتغوص في طبقات الزمن المتراكبة في عملية التدوين والتماهي مع حيوات اخرى واتخذت الحكي وسيلة لتهدئة الخوف وتحرير الذاكرة فشرعت تدون قصص الآخرين وتحكيها في محاولة حفظ حكايات الناس وتاريخ المدينة وعملها كان في حقيقته إنقاذا للذاكرة المهددة في فوضى الجنون والاحتلال والعنف، ولم تتعامل مع الحكي على انه وسيلة للخلاص بل نوعا من عقار مهدئ حسب، بينما وجدت شخصية (راوية) خلاصها وسط الجحيم العراقي في البحث عن زوج – اي زوج – خلاص في الجنس والطعام - وسيظهر ذلك على نحو جلي في الجزء الثاني من الرواية –تصورت خلاصها في اشباع الغريزتين الاوليتين- ان عرض ثيمات الحلم والرغبات والشهوات بهذا الاتساع جاء لتلطيف ثقل الخوف وإذلال الانسان وتحطيم الارادات الذي عانت منه الشخصيات الروائية ..       
 
* بناء على عبارتك الموجعة: (أيتها الناجية من نعمة الموت) هل وصلت الامور من السوء حتى يصبح الموت نعمة، وكيف تمكنت الدليمي من قلب المعادلة؟ أي كيف أعادت المعادلة الى حقيقتها فيما يتعلق بخراب الموت وعظمة الحياة ؟
- يدفعنا القنوط الذي نستغرق فيه ونحن نرى البلاد في احتضارها إلى أن نغبط الضحايا الراحلين فنراهم أسعد حالا منّا نحن الاحياء بميزة نجاتهم من العذاب اليومي في بلاد تتلاشى، نحن نتوقع الموت كل برهة ويرهقنا الرعب الكامن في كل صوت وحركة حولنا ويخيل إلينا في تلك اللحظات المشوشة  أننا الضحايا الحقيقيون الباقون على قيد الهلع واحتمالات الهلاك، يلوح الموت  كخلاص شأنه شأن الحب الذي نعول عليه كخلاص وجودي، لكنما بعد برهة نزيح ظلال الموت عن وجوهنا ونجري تعديلا على الكلمات ونقلب المعادلة، ونؤكد لأنفسنا جدوى المضي في لعبة الحياة، وحين نتأمل الامور من جوانبها المختلفة ونثق بضرورات التغيير في حياتنا نتشبث بمبررات البقاء ونسخر من يأسنا، عمدت في الرواية إلى الكشف عن الامل في دوامة اليأس التي تدور بنا وندور حولها، يومض ذلك البصيص الصغير من الآمال غالبا من حالات الحب رغم هشاشة الحب ولا معقوليته، كما نرى البصيص يلتمع في مديات الحلم ويبدو لي أن نهاية الرواية المفتوحة تفصح عن دورالثقافة والحب وتشابكهما لصنع أمل النجاة، فعندما لا نثق بالاشياء من حولنا وعندما يذوي الأمل إلا قليلا، لا يتبقى لنا سوى توقع الاحتمالات المختلفة والتعويل على سحرية الحب وجموحه وهو يزجنا في مجازفات تعزز شهوة البقاء في ارواحنا مستعينين بمخزون الذاكرة وتراث الابداع الانساني وما يبثه من تجليات الجمال وما يعززه من كشوف لمعانٍ جديدة في ذواتنا المهددة وعلاقاتنا وافعالنا ..   
 
* أنت كاتبة لا تثق بالسياسة - كما عرفتك- ولا بالطروحات الزاعقة وليس لك اعتداد بغير قدرتك على اجتراح الحب وسط الجحيم واستدعاء الحلم في قلب عاصفة الكوابيس، فهل كانت (سيدات زحل) نتاج هذه الرؤية المتفائلة؟
 
- نعم انا لا أعول على السياسة قط، السياسة شأن زئبقي رجراج يشبه الرمال المتحركة ومن الغباء الوثوق به لانه خال من الجوهر، الابداع عموما شأن جوهري في حياة الانسان يعوضنا عن بشاعة السياسة وخداعها وفسادها، وتبدو السياسة في روايتي خلفية سوداء مريعة للأحداث ومصدرا للتشوش والالتباس والقسوة المفضية إلى الموت وفي الرواية هجاء لتلفيقات التاريخ التي كرسها الساسة المستبدون على اختلاف أزيائهم وايدلوجياتهم وقد نسجت من حكايات الحب صورة لعالم مضاد ومتحول وقابل للبقاء، فلاشيء في السياسة يمنحنا ضمانات لأنها شأن ذرائعي يبرر كل شيء ليبلغ غاياته، فكيف أثق به وهو مستعد للتضحية بكل ما عداه لينال غايته؟ مالذي نملكه ازاء التهديد والرعب غير تفعيل قوة الحلم والتشبث بالحب؟ ما الذي تفعله النساء المهددات بتدابير فقهاء الكهوف والذكورية العنيفة؟
حتما ستجرب النساء التشبث بالحلم ويستغرقهن العشق في محاولة صنع مصير ما، قد يخفق بعضهن في خياراتهن والبعض الاخر لا يستسلم فيهرب من الجحيم ويجرب جحيمات في الهروب والحب والعمل قد تكون افظع مما سبق، الأهم ان يمضي المرء دون الالتفات الى الوراء ويخترع حركة ما بقدر ما تسعفه الوسائل ..
لا أسميه تفاؤلا بقدر ماهو إعادة الاعتبار لإرادة الأنوثة عبر الحكي النسوي وصوت المرأة المنعتق من هيمنة الصوت الذكوري الذي استمر في التحكم بخطاب الحكاءات النسويات زمنا طويلا، وبقدر ما كان صوت المرأة فاعلا ومهيمنا في الرواية، كان حضور أصوات بعض الرجال مثل حامد الاخرس -مبتور اللسان-أشد مضاءً من أصوات بعض النساء والرجال كحازم الذي حطمه الخصاء ولمى التي أختارت نهايتها انتحارا حين خذلتها شروق في علاقتهما الملتبسة، وراوية التي تنشد متع الجسد في الطعام والجنس وهالة التي حطمها الاغتصاب والمهجر وفقدان الحبيب ..
 
* (سيدات زحل) مسار سردي ملحمي يخوض في مساحات مكانية وحقب زمانية شاسعة، هل يمكن أن نقول بأن هذه الرواية نقطة فاصلة بين مرحلة سرد ماضية وأخرى قادمة للطفية الدليمي ؟
- من أحد الجوانب، نعم إنها انعطافة جديدة في سردي الروائي، ومن جانب آخر ستجد انها امتداد لإشتغالي في اعمالي القصصية والروائية وحتى مواقفي ومقالاتي، امتداد لمشروع واحد، ورغم اختلاف هذه الرواية ببنائها ولغتها وطروحاتها الساخنة تجد لها امتدادات في تربة روايتي المضادة لليوتوبيا ( من يرث الفردوس) ولكنها تتفوق عليها في جماليات السرد وتختلف في بنائها الفني، وقد تجدها استكمالا لمناخات روايتي ( حديقة حياة ) التي قدمت فيها تمهيدا للكارثة المقبلة وكنت قد كتبتها قبل الاحتلال وسقوط النظام بشهرين، تتفوق هذه الرواية على سابقاتها بالرؤية النسوية المتحررة من الأدلجة والتي تستثمر خبرات المرأة في تفعيل الوعي التاريخي بذاتها عن طريق خوض تجاربها الشخصية في العشق والعمل والترحال، نعم هذه الرواية تشكل مفصلا مهما ومنعطفا في منجزي الادبي ومعالجتي لثيمات صادمة ومروعة بأداء جمالي  ينازع البشاعة وقبح الاحداث ولا يبررها بل ان شحنات الجمال في النص  تكشف حجم البشاعة والخراب وتدينها بلا صخب او نبرة عالية.. 
 
* إذا كان (للجمال والمحبة ألف طريقة للبقاء والتحايل على الموت، ففي منعطفات الذاكرة يتبرعم الحزن والأمل معا ويطلقان بشائر النجاة) كما تقولين أنت في روايتك، فهل يمكن أن نقول أن (سيدات زحل) نتاج كاتبة حالمة، ترى في طاقة الحلم قدرة على مؤازرة الحياة وإعادة الاعتبار لها؟ 
- وهل الكتابة سوى حلم يتأسس في فضاء المخيلة ؟! نعم لولا طاقة الحلم الخلاقة ما كتبت، الحلم الواعي المشتبك بتجربة العيش وخبرات الحياة المتعددة، حياتنا العراقية -المقلوبة رأسا على عقب- فيها من الثيمات الغرائبية والعجائب ما يمكنه أن يملأ مكتبات العالم بالروايات، نحاول في السرد أن نلتقط بعض هذه الثيمات الغرائبية ونمنحها نوعا من سياق في عملية اعادة تخليق الحكاية واستنهاض الذاكرة وعندما تستغرب ( حياة البابلي ) من اختفاء الأسماء في الكراسات التي دونتها وتفصح عن حيرتها ازاء اضطراب التواريخ ولامنطقية تتابع الاحداث تقول: وهل ان احداث حياتنا ذات منطق وسياق ؟ كانت حياة مرتعبة من اختفاء الأسماء  وكان هذا الاختفاء نبوءة عن التباس الهويات ومحي السمات بعد سقوط بغداد – تحلم حياة بحب ومصير وتصنع من حلمها وقائع حسية وتعيش الحلم حسيا وواقعيا  وتركب مادته بالكلمات والمذاقات والروائح وتحيا فيه وتصدقه، اقول لك لولا الحلم لانتهينا الى رماد، فبالحلم نستعيد قوانا وننهض من جديد اثر كل فاجعة او خسارة  ..
 
* وكيف استطعتي أن تحافظي على نقاء لغتك وموسيقاها العذبة وهي تخوض في مفازات الموت والتجاوز على الكرامة الانسانية بأبشع الصور ؟
- اردت ان انجز نوعا من التضاد بين خراب الحرب ومافعله الاحتلال بنا وبين حلمنا بالجمال، اللغة اداة الكاتب ومادة عمله، وباللغة عملت على تقديم صور مريعة للموت والخوف ومشاهد ممتعة للعشق والرغبات تجعلنا نفكر بقيمة الجمال ونحن في حمأة الموت والفقدان، انها حرب الكاتبة على  الحرب والعنف والاستبداد  الذي استباح حياتنا منذ عقود، بما اننا لانملك سوى حياة واحدة فلابد ان نحميها قدر الامكان من لوثة القبح التي تهددنا بجرعات من الجمال، وبما ان الكاتبة لاتملك غير لغتها ولاتتاح لها امكانات اخرى للمواجهة مع طوفان الخراب وثمار الحروب المهلكة وفوضى الاحتلال فعليها اذن ان تستنفد كل طاقات اللغة الممكنة لتحقيق النصر في حربها على التقهقر والقبح  والعنف.  
 
* تعرّضت هذه الرواية للطواغيت قادة وساسة قدماء ومعاصرين، فهل تمكن السرد الروائي أن يأخذ دوره في الاقتصاص من هؤلاء كما فعلت (مثلا) روايات ماركيز (في مئة عام من العزلة) وأستورياس في (السيد الرئيس) وغيرهما ؟
 
- الرواية لا تقتص ولا تقيم محاكمات بل هي سبيلنا للكشف وطريقة لقول الجمال وتفكيك الألم او ترسيمه عبر الحكي وتوالد الحكايات وفضح المسكوت عنه في الواقع المرتهن بأكاذيب الساسة ومروجي اعلامهم، ذلك الواقع المنظور اليه من وجهة نظر ذكورية فادحة ومحكوم بسلطة وموروث أبويين، النص الروائي لايصدر احكاما أو قصاصا، وعمل الكاتبة ومهمتها اطلاق الإشارات ووضع العلامات الكاشفة في المجرى الواقعي للحياة برؤية انثوية مركبة يمتزج فيها الوعي بالذات مع فهم التحولات التاريخية للأحداث ووعي حركة الزمن ..
والرواية في الاخير عمل اختباري يجرب الجمع بين مخزون الذاكرة الشخصية والذاكرة الجمعية للحؤول بينها وبين الضياع والتبدد في الفوضى، ولا أظنني وغيري من الكتاب بمؤهلين لاصدار الاحكام إلا إذا كان رد فعل القارئ يوازي إصدار حكم على بشاعة الاستبداد ..
قد يقوم المتلقي بقراءات مغايرة للنص ولوجهة نظر الكاتبة او الكاتب، ويعيد انتاج النص بطريقته الخاصة ويضع نهايات ويغير مصائر الشخوص ..       
 
* من يقرأ (سيدات زحل) سيشعر فورا بالحضور المكاني الكثيف لبغداد، هل أردتها رواية مكان؟
- اجل بغداد هي الاكثر حضورا في الرواية، سيدات زحل انشودة حب لبغداد كمكان وبغداد كذاكرة مهددة بزوال معالمها وملامحها في عشوائية الحياة واضطرابها مع الاحتلال والعنف وانهيار البنى الاساسية، وقد اشتبكت سيرة بغداد  بسير نسائها واهلها حتى لتكاد تحدس انها تتجسد في أولئك السيدات الزحليات ..
بغداد هي صباي وشبابي وكهولتي وعشقي وكتبي وحريتي المجروحة واصدقائي، فيها اكتشفت البدايات والأقاصي، هي كل من عرفت ومن توقعت أن اعرف ومن تمنيت ان التقي، كل من أحبوني وكل من خذلوني وكل من نسيت وما نسيت ومن أتذكر وما أتذكر، وفيها الذين سلبوني كل شيء ودججوني بالمخاوف من وحشيتهم  وبنادقهم ومفخخاتهم وفيها اؤلئك الذي يعاندون سلطة الزمن ويقيمون في أزمنة عصية يجترحونها وسط الحطام، كانت بغداد تأخذني إلى أمل وتردني إلى خيبة، تحيرني انوثتها الباهرة وغموضها وتسحرني متاهاتها وطرقاتها وبقاياها العباسية ودجلتها ومناراتها ونواقيسها، وهي المدينة العصية على الدهر، ولدت من شهوة الخليفة المنصور الذي أرسى استبداده وسلطته الفانية فوق اسسها ونيرانها، نعم بغداد هي الشخصية الأولى المتماهية مع شخصية حياة البابلي، وفيها تتمازج سيرة  النساء وأزمنتهن ومصائبهن مع سيرتها وقصص عشاقها والرواية في المقام الاول، هي سيرة مكان تنعكس على مرايا الذوات البشرية فيعاد تشكيل الذات والمكان معا  ..
 
* تنحدر معظم شخوص الرواية من الطبقة الوسطى العراقية التي كانت منتجة الثقافة وحاملة هم التحديث منذ تأسيس الدولة العراقية كما تشيرين الى ذلك، هل يعني هذا وجود بارقة أمل لسطوع نجم هذه الطبقة مجددا ؟
- الطبقة الوسطى العراقية كانت وماتزال ضحية جميع الانقلابات والحروب والنظم الشمولية والطائفية والشوفينية والتسلط السياسي، وما ترييف المدن العراقية خلال العقود الماضية والان الا ضربة قاضية لهذه الطبقة حيث سادت اعراف الريف وتقاليده خلال الحرب مع ايران – وارتفعت وتيرتها في الوقت الراهن فأزاحت القيم المتحضرة وحجمت المنتج الثقافي لتطغى ثقافة التهريج ترويجا لايدلوجية الحزب المهيمن سابقا - ورؤيته لعالم مقولب مدجن حسب قوانينه، وترويجا للايدلوجيات الاحزاب الدينية المهيمنة حاليا، وقد تحملت الطبقة الوسطى منتجة الثقافة أعباء الحفاظ على الذاكرة العراقية وصون قيم المدينة المتحضرة مقابل  صعود جماعات ولا اقول طبقات - دمرت الموروث وخزين الذاكرة وأسهمت في خراب بغداد بعد الاحتلال، لقد ترنحت الطبقة الوسطى منذ نهاية الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي واستمرت تقاوم الزوال ازاء الحروب والاستبداد  وهاجر معظم مثقفيها ومنتجي ثقافة البلد من فنانين وكتاب ومهندسين واطباء الا القلة - فتهاوت قيمها ونظرتها المتحررة للمرأة والعلاقات الانسانية والعلم والحياة والفن عندما طغت قيم التخلف وتحكمت باقتصاد المدينة وسياستها ومراكز العلم فيها فانزاحت الطبقة المتوسطة مع هيمنة اقتصاد الطبقات الجديدة الزاحفة على المجتمع وقيمها البدائية، وسوف تنشأ من هذا الصراع والازاحة والتغيرات طبقات جديدة لها أعراف وأهداف مغايرة ناتجة عن الزلزلة الكبرى التي محقت كل القيم، وسوف تنهض تشكلات اجتماعية اخرى لتعيد انتاج مجتمع من بين ركام الخراب والموت وليس بوسعنا التكهن بتوصيفات هذا المجتمع او بالطبقة الناتجة عنه وتسمياتها المتعارف عليها، وهذا الجيل المنبثق من رحم الكارثة جيل مخيف فاقد  لقيم ومرسخ لقيم اخرى افرزتها المحنة والحرمان والضغوط، لكن الطبقة الوسطى التي ازيحت وتآكلت لن تعود بالمواصفات المعروفة، ولو عادت بصورة ما فإنها ستكون ثانوية تماما وسط الصراعات والاستقطابات الطائفية والعرقية  والايدلوجية التي افرزها الاحتلال والارهاب المصاحب له..