المقاله تحت باب في السياسة في
18/07/2010 06:00 AM GMT
نحن اكثر الثقافات تقديسا للماضي، واقلها فهما لمعناه. بل نحن أكثر الأمم ايضا في الانقسام على معنى هذا الماضي، واشد ولعا في الاحتراب على المعاني. ثورة تموز (يوليو) 1958 هي واحدة من معالم هذا الماضي، المسربل، من هنا، بالتقديس والموسّخ، من هناك، بالتدنيس. المحتفون بذكرى ثورة تموز يضعون في مركز الذاكرة اقانيم محددة: التحرر من الاستعمار، فك النظام الاقطاعي (الاصلاح الزراعي)، انشاء شركة النفط الوطنية، إيواء الفلاح المهاجر في مدن حديثة (مدينة الثورة المكنّاة مدينة الصدر)، واصدار قانون للأسرة يناصر حقوق المرأة. وبوسع القائمة ان تطول. المحتفون على مذاهب ومشارب شتى: اليسار الماركسي الذي بلغ اوج نفوذه في تلك السنوات، وقطاعات الطبقة الوسطى التي فتح لها "الزعيم" مدارج الارتقاء بصعودها السياسي والاجتماعي، وفقراء الريف الذين انفتحت لهم كوى صغيرة من الأمل. لا عجب والحالة هذه ان تنبجس من ثنايا النسيج الاجتماعي تجمعات قاسمية (نسبة الى الزعيم عبد الكريم قاسم) بعد عام 2003. رصد المراقبون اربعة تجمعات قاسمية في مدن كبرى، يعمل كل تجمع لحسابه، بمعزل عن سواه. ولم تكن مصادفة ان تطبع صور الزعيم قاسم وتباع على الارصفة الى جوار صور الخميني، والصدر الاول، وسواهما. اما الطاعنون بهذه الذكرى فهم لا يقلون عن خصومهم في قوة العاطفة: الشماتة والبغض، ولا يقلون عنهم تنوعاً. فثمة كبار الشيوخ، الملاكين، اباطرة الريف ايام زمان، يحكون لك عن جور مصادرة اراضيهم، وتدهور الزراعة لان "الفلاح الجاهل" لا يعمل من دون "عصا الشيخ الاقطاعي". وثمة رجال الدين المحافظين الذين يذكرون بوجع انهيار مكانتهم، وتشريع قانون الاسرة الذي يخرق فهمهم المقيد للشريعة. وهناك الليبراليون الذين ينعون نهاية البرلمان والحريات السياسية، وثمة الاكراد الذين فتح الزعيم عليهم نار الحرب، والعروبيون الذين ينعون على النظام "قطريته" اي "لاعروبيته". هذا حشد واسع من القوى، الليبرالية والمحافظة، والقومية (عربية وكردية) لا يزال قائما بل لايزال قوياً. ازاء هذه الاهواء والمصالح المضطربة، المهتاجة، يضيع الخيط الهادي، لفهم الماضي. ويتعمق الضياع بمجرد ان ينزلق التفكير (لا الفكر) في مقارنات جزئية مهما كان لبوسها، من قبيل تواضع الزعيم، في راتبه ومسكنه، وملبسه، ومشربه، ان قورن بالفخامة الفارغة للرؤساء والزعماء الذين خلفوه، في انفاقهم المنفلت، وقصورهم الفارهة، وملابسهم الغرائبية، بكل الازياء والموضات، او بقسوتهم اللامتناهية، او غبائهم البائن. كل ذلك صحيح. لكن البنى السياسية والاجتماعية والثقافية لا تنبع من خصال الزعيم، والعكس هو الصحيح. قطعا قلبت ثورة تموز العراق عاليه سافله، وغيرت طابعه مجتمعا وثقافة، واقتصادا وسياسة. واصوات الماضي، مدحا وقدحاً، تلملم من فسيفساء الواقع تلك الشظايا المفيدة لما تدعي لاغير. وبعد انقضاء نصف قرن، من الرطانة السياسية الفارغة عن الديمقراطية، يندر ان نجد بين كتاب البيانات عن الحريات السياسية، من يذكر العراقيين، بان ثورة تموز في جانبها السياسي، قوضت كل التراكم الحضاري الذي سبقها، منذ بدء الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر وحتى آخر يوم في عمر المملكة العراقية، اواسط القرن العشرين، وهو تراكم أسس لتدهور الحضارة الحديثة. فاولا ثمة الدستور الذي تحول في آخر جمهورية الى "نص ينبع من ارادة الحاكم" او "متن يكتب بجرة قلم". وثانيا هناك البرلمان، الذي تحول الى مجرد دائرة لتعيين الاتباع، وثالثا هناك اقتصاد السوق الحديثة الذي انهار تماما، ورابعا حكم القانون، وخامسا مبدأ المواطنة. وبالطبع هذه كلها تجريدات فارغة بازاء فكرة "التقدم الاجتماعي" لجهة اليسار، او بازاء فكرة "الامة والوحدة" لجهة اليمين. على جهتي معسكر المدح والقدح ثمة اغفال يكاد ان يكون مطلقا لفكرة الدولة الحديثة، قواعدها ونواظمها. وتكاد تغيب عن مجال الرؤية المؤمثلة كارثة تفكيك المؤسسات الحديثة للدولة القائمة على قاعدة تقسيم السلطات، باعتبار هذا التقسيم هو عماد الدولة الحديثة، وقد بلغ تدهور المؤسسات مآله المنطقي بعبادة شخص الحاكم وتقديسه، وشخصنة السلطة، اي حصرها بمزاج وذائقة وإرادة، ونزق وهوس فرد واحد. هذه الرحلة العجفاء، رحلة العودة القهقرى، بدأت، رغم كل النوايا الحسنة، في تموز 1958، ومضت خطوة ابعد في عهد الاخوين عارف، واكتملت ملامحها في عهد البعث. وعلى امتداد هذا التفكك للبنى القانونية والمؤسساتية للدولة الحديثة، واستبدالها بدولة شخصية، جزافية، جرت عملية تفكك مماثلة لكل ما يسهم في بناء الامة: المشاركة، والمساواة امام القانون وهما عماد اي بناء للامة بالمعنى الحديث. وما حصل للدولة، والامة، حصل للمجتمع نفسه، الذي فقد بقوة القمع، كل ادوات التعبير والدفاع عن الذات. بدأ التلاعب بالنقابات والجمعيات، بعد الثورة مباشرة، وحظر الاحزاب عمليا. ولم يكن مآل الصحافة بافضل. ثم انقلبت الدولة على اقتصاد السوق، فهيمنت على آخر مساحة للفاعل الاجتماعي المستقل عن الدولة، وفعلت ذلك بدفع فتات من الثروة الاجتماعية بهيئة خدمات مجانية مقابل سكوت المجتمع وامتثاله. ولقد اسهم الكل في هذا، ملكيين وجمهوريين، يساريين ويمينين، عروبيين وقطريين، فقراء مدن واثرياء ريف، نقابات عمال، وجمعيات فلاحين. اندرج ذلك كله في تيار جارف من السقوط الحر في الهاوية. وكان هذا الدمار الذاتي يمضي سراعا على ايقاع "المزمار السحري" للتمثلات العقائدية الفارغة التي سادت منذ خمسينيات القرن المنصرم، بكل تلاوينها وظلالها. ليس بوسع المرء، كما بوسع المجتمع، ان يرى الى معنى فعله او افعاله لحظة قيامه بهذا الفعل. فلا يمكن لوعيه ان يكون داخل هذا الفعل وخارجه في آن. ومن نكد هذا الوعي (كما قال سارتر مرة) انه لا يتخذ من نفسه موضوعا الا بعد وقوع الواقعة، اي انصرام زمن فاصل كيما يتحول ما هو كائن، الى ما قد كان. المشكلة في العراق ان تأمل الماضي لا يجري على منهج التدقيق النقدي، بل على مسار الاسترجاع الرغائبي لنشوة ما كان، باسلوب "رجوع الشيخ الى صباه". هذا الاستحلام المقصود جزء من نرجسية طفلية، عند البعض، واستنجاد يائس بامجاد ماضيه، او فرار من حاضر مزر، او انغلاق كامل لمدارك الفهم، او العيش في نعيم الدوغما، التي لا ترى في نفسها سوى الخير المطلق. ثورة تموز ينبغي ان ترى خارج هذه الدوائر المغلقة . فهي في جانبها الارأس كاشف كبير عن مثالب النظام السياسي الدستوري-البرلماني، وعن مثالب النظام الاجتماعي القبلي-الاقطاعي، وعن مشكلات بناء النظام السياسي في العالم العربي. لكنها في الوقت نفسه برهان كبير على ان هذه المثالب لن تزول بتدمير المؤسسات، او تمزيق المجتمع باسم الثورة، او الأمة، او الدين.
|