المقاله تحت باب في السياسة في
06/07/2010 06:00 AM GMT
ثمة ما يشبه الكرنفال العربي احتفاء بتركيا، لأسباب تبدو بديهية. وتبلغ الحماسة مبلغا ببعض العرب العاربة ان يمضي الى أبعد من اغداق الثناء على اسطنبول، واردوغان، بما يفوق القصائد الجامحة في المديح والحماسة. بل ان عربيا متقد العاطفة اقترح في استطلاع رأي لمحطة الاذاعة البريطانية ان تتولى تركيا قيادة العالم العربي. لعل هذه الرغبة وحدها تنطق بما يعادل مجلدات، فهي تشي باحساس ممضّ بخواء عربي، واحساس باللاجدوى في كل ما هو قائم. فما من حقبة يبدو فيها هذا العالم الصغير هامشيا في كل تجليات وجوده، في الاقتصاد، كما في السياسة، وفي الاجتماع، كما في الثقافة، وفي شؤون السلم، كما في أمور الحرب. سياسيا يبدو العالم العربي آخر المزدرين بدولة القانون فكرة وتطبيقا، وأول الفاشلين في الحرب (ما زال نصف الاراضي العربية محتلاً منذ عام 1967 ). اقتصاديا ثمة تراجع عام كان سيغدو اسوأ لولا فضلة من اسعار النفط المتقلبة. ثقافيا، التراجع اسوأ، حسب معايير الامم المتحدة. فضلا عن ذلك لا تلوح في الافق زعامات سياسية او قيادات فكرية تثير الاهتمام. اليسار الاجتماعي يعيش على ماض تليد، واليسار العروبي لا يملك ما يفخر به، والبديل الاسلامي يحقق الفشل حيثما يمسك بالسلطة، او يعد بالمجد المؤزر حيثما يقف في المعارضة. الاسلاميون في السودان انتهوا الى عبيد للعسكر، وفي فلسطين قسموا شبه الدولة، واحتفوا بالكانتون، وفي العراق ساروا على درب التقتيل لهذه الجهة، وعلى درب العجز عن ابسط متطلبات ادارة الدولة، لتلك الجهة. وما من بلد عربي بقادر على ان يتولى دور دولة محورية للملمة الشعت العربي بازاء العالم. في هذا الخواء برزت ايران ولحقتها تركيا. ايران الجامحة، بنظامها الاكليروسي بالكاد تشكل انموذجا مغريا لاحد، غير حفنة من الموالين. وتركيا ما كانت لتبدو مغرية هي الاخرى لولا الانقلاب في السياسة الخارجية التركية، ازاء الغرب وازاء اسرائيل. ليس ثمة وسط العرب تأمل في حقيقة ان النموذج التركي، ان كان بالوسع استخدام مقولة "نموذج"، داخلي اولا قبل ان يكون خارجيا ثانيا. فلأول مرة ينجح مجتمع علماني حديث في ان يقصي العسكر عن السلطة، بعد ان ابتلي به منذ تأسيس الدولة عقب الحرب العالمية الاولى، حيث كانت الحكومات المدنية مجرد فاصلة صغيرة بين انقلابين. وحذت دول عربية حداثية، منذ الخمسينيات (بل منذ الثلاثينيات اذا ادرجنا انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936) حذو اسوأ ما في تركيا: سيطرة العسكر، في الجزائر، كما في مصر والسودان، وفي سوريا كما في العراق. اما اليوم فان تركيا تقصي العسكر باسم الديمقراطية البرلمانية وفي ظلها. ولتركيا الحالية مظهر داخلي آخر. فهي اول بلد اسلامي ينتمي اقتصاده الى المرتبة (16) عالميا، رغم انه يفتقر الى المال السهل: ريوع النفط. وهو يتوفر على طبقة رجال اعمال راسخة، متراكمة، مكينة، وفاعلة، اسهمت، كقوة اجتماعية في لجم الخوذة العسكرية، وكبح جماح مناوراتها وجشعها السلطوي الجاري باسم "الخط القومي"، و"الدفاع عن الأمة"، وهي ورقة التوت التي يستر بها كل الجنرالات عورة النهم للسلطة. ولتركيا، فضلا عن ذلك، حركات اجتماعية قاعدية استطاعت، بفضل التفاعل الواقعي، ان تنمي اسلاما معتدلا، خاليا من المظاهر الطائفية، والشعبوية، والتسلطية. على قاعدة الانعتاق من العسكر، والمتانة الاقتصادية، والتفويض الشعبي الفعلي، امكن لتركيا ان تخوض مياه الاستقلالية المدارة، بازاء راعيتها القديمة، الولايات المتحدة، وبازاء حليفها القديم اسرائيل. شغف العربي بالسياسة الخارجية التركية، خصوصا بعد فاجعة "اسطول الحرية"، هو اعتراف بفراغ الزعامة العربي، مثلما هو تعبير عن خواء التفكير (ولا اقول الفكر) السياسي العربي الذي لايزال يفرغ كل شحناته العاطفية، ونشاطه العملي، في قضايا السياسة الخارجية. وان عنّ له التفكير في امور المجتمع والاقتصاد والثقافة، كشر عن انيابه ضد "هتك الاعراض" في الف ليلة وليلة، او انشب مخالبه في شعور النساء غير المحجبات. يلاحظ دارسو تاريخ مجتمعات البلدان العربية ان شحنات النشاط السياسي تتركز عموما في قضايا السياسة الخارجية (93% من هذا النشاط)، غير ملتفة الى موجبات الدولة والاقتصاد والمجتمع. ينطبق هذا بوجه عام، على مجمل العالم العربي منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى اليوم. ولعل الاستثناء الاكبر هو ما اصطلح عليه بـ "ثورات الخبز" التي انطلقت في مصر عام 1977، وتوالت في الجزائر والمغرب والاردن، خلال عقد الثمانينيات، ثم انطفأت. ويسود الآن ما يشبه صمت القبور. ولم يكن ثمة مفاجأة كبرى في مسح للرأي العام اجراه احد المعاهد التركية البارزة في سبعة بلدان عربية هي: مصر، العراق، الاردن، لبنان، فلسطين، العربية السعودية وسوريا. فالاستطلاع مثلا يعطي تركيا اهمية اولى (87%)، وان 48% يرون ان اسرائيل واميركا (18%) وايران (9%) هي الخطر الاكبر. وان المدافع الاكبر عن القضايا العربية هم الناس (30%) وان المدافع الاصغر هو الحكومات العربية (3%)، وان 65% يرون ان تركيا هي افضل معبر عن مصالح العرب والمسلمين، وان اكثر من 80% يفضلون ان تلعب تركيا دور الوسيط لحل النزاع العربي- الاسرائيلي، واكثر من 80% يرغبون في ان تلعب تركيا دورا اكبر في العالم العربي، وان اكثر من 70% يعتقدون ان تركيا هي خير نموذج للبلدان العربية، وبنسبة مماثلة يعتقدون ان تركيا نجحت في الجمع بين الاسلام والديمقراطية، كما ان ما يقارب 85% يعترفون ان نفوذ تركيا في العالم العربي قد تنامى مؤخرا. بعد الفراغ من هذا المسح السياسي، طرح المعهد التركي اسئلة تتعلق باكثر القضايا الحاحا مما يواجه بلدك، فكانت الاجابات: 49% المشكلات الاقتصادية، 5% الخدمات، 3% التعليم، 3% القضية الفلسطينية، 7% لا مشاكل، 11% بلا اجابة. ولعل هذا الحقل من الاستطلاع يشي ببداية تحول. فاعطاء ما يقارب 50% للمشكلات الاقتصادية الداخلية (الفقر، البطالة، تدني مستويات العيش)، و6% للخدمات والتعليم، مقابل 3% فقط للقضية الفلسطينية، كان، حسب قول اصحاب الاستطلاع، بمثابة مفاجأة. والاستثناء الوحيد هو فلسطين (38%). واعيد طرح هذا السؤال ثانية، ولكن بدلا من "اكثر القضايا الحاحا في بلادك"، صيغ السؤال بـ "اكثر القضايا الحاحا في العالم العربي". هنا جاء الرد متماثلا من حيث الاتجاه، اذ احتلت القضايا الاقتصادية المرتبة الاولى عربيا (26%)، فيما احتلت القضية الفلسطينية المرتبة الثانية (18%)، لكن الفارق عن الاستطلاع الاول كان واضحا. اهتمام اقل بالاقتصاد، واكبر بفلسطين، رغم بقاء الاولوية للاقتصاد والخدمات. يريد العرب العاربة تعريب تركيا، تنفيسا عن لوعة العجز. والاحرى بهم ان يسعوا الى تتريك العرب، بمعنى التحول في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة.
|