المقاله تحت باب منتخبات في
10/06/2010 06:00 AM GMT
ترجمة وتقديم: عبد القادر الجنابي - 1 - من المسلّم به أن قارئا ذائقته تعودت قراءة أشعار موزونة، غالبا ما تصدمه قصيدة اليوم التي تكتب خارج أية معرفة وزنيّة فيغضب ويقول "هذا ليس بشعر". وهو محق، فتعريف مصطلح "شعر"، الذي وضعه علماء إيقاع أزمنة غابرة، لا ينطبق على جل الأعمال الشعرية الكبرى الحديثة، خصوصا التي لم تلتزم لا ببحر ولا بقافية ولا حتى بوزن مستحدث مما يمكن إخضاعها له. كما لو أن الوجود الشعري للقصيدة الحديثة قائم على عدم الخضوع لأي قانون وزني أو إيقاعي مرسوم مسبقا، باستثناء آنيّة نفَسِ كاتبها، إحساسه الإيقاعي، وقفته النبضية، أي "وزن طبيعة" كاتبها كما يقول ابن خلدون. وهنا تتنوع المعايير والطبائع من شاعر إلى آخر، وبالتالي ليس هناك من قانون، لا نبري ولا مقطعي ثابت يؤخذ قاعدةً. إذ كل قصيدة تخضع في نموها لما تستمده من تطور الشاعر نفسه، منتجة وحدتها الموسيقية بتفعيلتها هي، المتغيّرة على الدوام بتسكين مفاجئ أو بحذف بعض الحروف؛ وحدة موسيقية لا تعتمد على الأذن بقدر ما تعتمد على كيان الشاعر وهزّة النفس التي يعانيها الشاعر عند كتابة القصيدة. فلأنسي الحاج، مثلا، بنيته الإيقاعية الخاصة به تختلف كليا عن تلك التي ينطلق منها محمد الماغوط، وبول شاؤول عن مؤيد الراوي، والاختلاف الإيقاعي نفسه موجود بين شاعرين كانا يكتبان شعرا موزونا وانتهيا الى كتابة قصيدة متحررة من الأوزان كسركون بولص وأمجد ناصر. ذلك أن قصيدةَ كلِّ واحدٍ منهم تولد في حنايا ثقافية ونفسية وتطلعية مختلفة من واحد إلى آخر، ولكلٍّ نهجه هو في تفضيل صياغة جملة نثرية على نظم بيت؛ واعتبارها شعريّةً؛ أي الخروج من دوران الجرس وتكراره إلى طيف الصوت الجارف الذي يستولي على إحساس كل واحد منهم تناغما ونفَسَه الثقافي. لكن، مما يزيد المشكلة بلّة، إن إعجاب القراء الحديثين بهذا الشعر الحديث هو، أيضا، نابع عن تجاهل للقوانين الأساسية المحددة في كلمة "شعر"، وبالتالي عن وقع ذائقتهم. وما إعجاب بعضهم سوى نتيجة قراءة في مرحلة الحضانة، كما يقول اودن، حيث عدم القدرة على التمييز بين الذوق والحكم. ولهذا السبب سرعان ما يصمتون أمام ناقد يحفظ عن ظهر قلب الأوزان، فينتفض السؤال الأبدي: بأي معنى يصح إطلاق "شعر" على هذه الأعمال الشعرية، من دون أن يثار الغبار المعهود في الدراسات الجامعية. فما الحل الذي يمكن أن يهدئ من هذا الغضب التقليدي، ويعطي لمصطلح شعر تعريفا جديدا واسعا، حتى نتجاوز هذه الثنائية القاتلة: "هذا شعر وهذا ليس بشعر"؛ بل حتى لا يضطر الشاعر الحديث إلى أن يصرخ بوجه ناقد سلفي، ما أردده أنا على كل متخلف: "لستُ شاعرا بالمعنى الذي تعطيه لكلمة شعر". متى سيتحرر الناقد، ومبررا وجوده القارئ العادي والشاعر الدخيل، من إطلاق مصطلح "قصيدة نثر" على أعمال شعرية فقط لأنها غير موزونة؟ ألم يحن الوقت لتخليص كلمة "شعر" من قواعده التاريخية الشالّة، والأخذِ بعين الاعتبار قوانين القصيدة الحديثة وأفقها المفتوح؟ أي أن ينطلق النقد اعتبارا من معايير القصيدة نفسها لا من معايير أحتاجها زمن سابق؛ من إيقاع مفاجئ تنتجه علاقات جديدة بين الكلمات، لا من إيقاع جاهز تصطف وفقه الكلمات خنوعا. صحيح، كما يقول قائل، بأن شاعرا كمحمود درويش تكمن عظمته في صراعه مع مد وجزر بحر المتقارب ليخرج بإيقاع موسيقي خاص به أكثر مما هو خاص بالمتقارب، وذلك لأنه عرف كيفية استغلال الحرية الموفرة ضمن المعطى. لا مجال هنا للاستعلاء على قيمة "الشعر الحر"، فقد ساعدنا في التمرد على الماضي وعليه معا. لكن هذا يعني أنه علينا أن نبقى تحت رحمة التعريف الثابت لكلمة "شعر" وأن نتصرف بما يعطينا من حرية محددة أساسا. بينما نحن، اليوم، في حاجة إلى حريّة أكبر غير مأسورة بأي قانون خارج قوانينها هي؛ إلى إعادة تعريف بقدر ما تفتح الكتابة الشعرية على كل الإمكانات، تنقذ أيضا البحور نفسها من تأريخيتها المرسومة، ووضعها في تعاشق جماعي في مخدع المجهول علها تأتي بشيء مغاير. ومع هذا فهناك من سيقول: إذا اتفقنا إن القصيدة الحديثة ترفض أي قانون، فكيف سنتمكن إذن من وضع قوانين لها، أو كيف سنستخرج قوانين من القصيدة الحديثة لكي نعتمدها في أية مقاربة نقدية؟ ربما نجد بداية الطريق المؤدي إلى الجواب عندما نفهم أن الشعر ليس مهارة ولا صناعة حاذقة، وإنما جَيَشان؛ وأن ينبوع القصيدة الحديثة لا يقع خارج ملكة إدراك الشاعر بل في صلب اندحار هذه الملكة؛ وإننا نعيش في عصر لم يعد للأعراف الأدبية شأن فيه (رسالة المسرحي النمساوي هوفمنستال الى اللورد شاندوس نشرت في غاليمار كقصيدة نثر)، وإن اليوم لم تعد هناك فيه لهجة قبيلة واحدة لتمحيصها، أي لم يعد هناك لغة مرجعية واحدة، وإنما هناك قبائل ولهجات شبكية تؤثر في الجميع محتقرة كل خصوصية انعزالية؛ وأن الموسيقى ما من قول لم يجانسها في الشعر، حتى لو كان في حالة نشاز، ما دام هو صراخ ينطق عن كامن الأفراد بإيقاع مُقاس أصلا ليتعب ناقد واحد نفسه بالإطلاع على تطور التيارات الشعرية الغربية، وعلى ما اجترحه هذا التطور من أشكال متطرفة كالشعر الكونكريتي concrète والرنّان sonore والحَرفوي lettriste، على أمل أن يفهم، أخيرا، ماذا تعني قصيدة حديثة. إذن، تعريف جديد أشبه بشاهد عيان أكثر تجريبا، هو ذا المطلوب عربيا، اليوم. وهو المطلب عينه الذي طالب به الشاعر المكسيكي باتشيكو في قصيدة أواخر ستينات القرن الماضي يدعو فيها إلى إعادة تعريف كلمة "شعر"، وإيجاد مصطلح آخر أوسع لإطلاقه على كل هذه الأعمال الشعرية الكبرى التي لا ينطبق عليها مصطلح "شعر" المحدد بقوانين كانت صالحة قبل عشرات القرون:
أطروحة حول التطابق على الرغم من أن الأبيات الشعرية تتماشى كما يبدو بتطابق مع الوزن؛ وذلك بسبب رنين اللغة... الذي، حتى لو تنطلق منه، فهذه الأبيات تثريه وتـَنـْهبه، فإن أفضل ما كتب خلال القرن العشرين لا يجمعه غير القليل مع ما دعاه بالشعر أكاديميون ومعلمون من زمن آخر. إذن يجب تقديم اقتراح إلى المجلس لكي يعيد تعريف (الشعر) بما يوسّع الحدود (إنْ تكن ثمة حدود)؛ بأيُّ لفظ لم يعهده اقتحام الكلاسيكيين القاهر. بأيّ اسم، أو أيُّ مُصطلحٍ - الاقتراحات مُرحّبٌ بها شرط أن يتلافى مفاجآت وغضب هؤلاء الذين ما إن يقرؤوا قصيدةً حتى يقولوا، بصوابٍ: "هذا، ليس بشعر". - 2 خوسيه اميليو باتشيكو شاعر لا يضاهيه، إلا اوكتافيو باث، في تاريخ أدب أميركا اللاتينية المعاصر. ولد في مكسيكو سيتي عام 1939 وبدأ النشر وهو تلميذ في العاشرة، وبدل أن يلبي رغبة أبيه المحامي وكاتب العدل، في أن يدرس القانون لكي يؤمن وضعه الاجتماعي ضد ظروف العوز والفقر؛ مصير كل كاتب، اتجه خوسيه نحو دراسة الفقه تجنبا لأي احتمال في أن يصبح حارسا للقانون في الحرب ضد الفقراء". ولذا ليس غريبا أن يصرح في كلمته عام 2009 بمناسبة حصوله على جائزة سرفانتس، وهي الجائزة الاسبانية المعادلة لجائزة نوبل في الأدب، بأن معظم الكتاب، سواء أرادوا أم لا، هم "أعضاء في جمعية الشحاذين"، ذلك أن حياة معظمهم مليئة بالإذلال والفشل. فالكتاب لم يُعطوا الاعتراف الذي يستحقونه. وإنه ما من كاتب في كل الأدب الإسباني تم إذلاله وعانى الإخفاق والإهانات أكثر من مؤلف "دون كيشوت"... وتمنى باتشيكو أن توجد جائزة سرفانتس لكي تعطى لميغيل دي سرفانتس نفسه؟ وسبب فقر الكتاب هذا، هو أنه، وفق باتشيكو، منذ أن أنشئ في روما، أيام القيصر أوغسطس، سوق لبيع الكتب، تم تثبيت مكافأة مالية لكل من تورط في عملية النشر، من ناسخي النص، وموفري الورق البردي، والمحررين وبائعي الكتب... إلا واحدا فقط استبعد هو المؤلف، الذي من دونه لما استطاع الآخرون العيش. ومن حسن طالع باتشيكو أنه عندما صعد المنصة ليلقي كلمة شكر أمام ملك اسبانيا خوان كارلوس، على منحه جائزة سرفانتس لعام 2009، هبط بنطلونه إلى حد الركبة مما سيطر على الحادث دون أن يشعر بالحرج وإنما اكتفى بالقول انه لا يرتدي حمالات.. وهكذا سجل، بطريق الصدفة، نقطة تواضع حقيقي ضد كل الغرور الذي يصاب به الكتاب عندما يتواجدون في أماكن أبهة كهذه. مارس النقد منذ شبابه، وعمل محررا وكاتبا وناشرا لعدة مجلات ثقافية كمجلة "بلورال" المشهورة. أصدر عام 1963 أوّل مجموعة شعرية عنوانها "عناصر الليل"، ثم تبعها بعدة دواوين وقصص ومقالات... متنقلا وفق حاسته التشكيلية بين كتابة الشعر، المقالات، الترجمة والسرد النثري. لكن الشعر هو نشاطه الأكثر غنى. حافظ على استقلاله وعدم الانتماء إلى أي مجموعة أو حركة أدبية: "ليكتب الآخرون القصيدة الكبرى والأعمال الداويّة... فإن الشعر الذي أبحث عنه هو يوميات حيث لا يوجد فيها لا مشروع ولا مقياس". وبعض قصائده تجرد الشعراء من هالاتهم المصطنعة: "هذا العام كتبت عشرَ قصائد/ عشرة أشكال مختلفة للإخفاق"... وغالبا ما تتميز بقصرها الصاعق: ""ليست يدُكَ/ وإنما الحبرُ هو الذي يكتب على غير هدى/ بضع الكلمات هذه". كما تتميز بصوفية دنيوية: ""في كل مرة تبدأ فيها بكتابة قصيدة/ إنك تتوحد والموتى/ فإنهم يَرَوْنـَك تكتب/ ويساعدونك." لقد ازدرى باتشيكو بصناعة الأدب وبالتعطش إلى الشهرة، فكتب قصائد تكاد تكون أشبه باطروحات أو رسائل جامعية مختصرة، يتناول فيها أوهاما عديدة يعيشها الشعراء. كهذه القصيدة (الرسالة إلى مدير مجلة اسمه جورج بي مور، رافضا إعطاء مقابلة) ، يدافع فيها عن نشر قصائد من دون ذكر اسم مؤلفها، فالهدف هو أن نقرأ قصائد لا أسماء شعراء، كما أصبحت الموضة اليوم: دفاعا عن مجهوليّة اسم المؤلف عزيزي جورج، لا اعرف لماذا نكتب. أحيانا أتساءل لماذا ننشر ما قد كتبناه. أيْ، نحن نلقي بقنينة في بحر ملآن بأقذار وقناني تحوي رسائل. ولن نعلم أبدا إلى مَن وأين سيطرحها المدُّ والجَزر. على الأرجح ستستسلم للعواصف والهاوية ترزح عميقا تحت الرمل، الموت. غير أنَّ تكشيرة غريقٍ ليست بلا فائدة. لأن ذات يوم أحد قد تتصل بي تلفونيا من ايست بارك في كولورادو. وتقول: إنك قد قرأت كل ما كان في القنينة (عبر البحار: لغتيـْنا). وتريد أن تجري مقابلة معي. كيف أشرح لك اني لم أعط أيّة مقابلة وطموحي أن أكون مقروءاً لا "مشهوراً" وما يهمني هو النص وليس كاتب النص واني لا أومن بالسيرك الأدبي؟ عندها أتلقى برقية ضخمة (يا للوقت الذي استغرقَ فيه إرسالـُها). لا أستطيع الإجابة ولا أستطيع أن أبقى صامتا. وهذه الأبيات تخطر ببالي. ليست قصيدة. ولا تصبو إلى ميزة الشعر (فهي ليست قصديّة). وسأستخدم، على طريقة القدماء، الشعر كوسيلة من أجل (النادرة، الرسالة، المسرح، القصة، وموجز زراعي) كل ما نقول في النثر اليوم. وبدءا لا لأجيبك، وإنما لأقول: ليس لدي ما أضيفه إلى ما في قصائدي كلها، وليس لي اهتمام بالتعليق عليها، و "مكاني في التاريخ" (إذا كان لي مكان) لا يهمّني (فالانهيار ينتظرنا جميعاً آجلا أو عاجلاً). أنا أكتب وهذا كلُّ ما في الأمر. اكتب. أهيّئ نصف القصيدة. فالشعر ليس علامة سوداء في صفحة بيضاء. اسمّي شعرا مكان الالتقاء مع تجربة الآخرين. فالقارئ، القارئة، هو الذي سينـْظُم، أو لا، القصيدة التي وضعتُ صيغتـَها الأوليّة. نحن لا نقرأ الآخرين: وإنما نقرأ أنفسَنا فيهم يبدو لي كمعجزة أن شخصا لا أعرفه يستطيع أن يرى نفسَه في مرآتي. "وإن كان ثمة فضل في هذا"، يقول بيساوا "فانه يعود إلى الأبيات لا إلى كاتبها". وإذا هو مصادفةً شاعرٌ كبير لترك أربع أو خمس قصائد أثيرة محاقة بالفشل والمسوّدات. أما آراؤه الشخصية فهي فعلا قليلة الأهمية. غريبٌ عالمنا: كلَّ يوم يزداد الاهتمامُ بالشعراء؛ وبالقصائد يتناقص. كفّ الشاعرُ عن أن يكون صوتَ قبيلته هذا الذي يتكلم نيابةً عن الذين لا يتكلمون. فقد أصبح مسليا آخر لا غير. نشواته الخمرية، مضاجعاته، ملفّه الطبي، تحالفاته أو معاركه مع سائر مهرجي السيرك، أو مع لاعب العُقلة أو مروّض الفيل، كل هذا ضَمَن له ازدياد معجبيه الذين لا رغبة لهم في قراءة القصائد ما زلت أعتقد بان الشعر شيء آخر: شكل من أشكال الحب لا يوجد إلا في الصمت، في مكان سري بين شخصين، نادرا ما يعرف واحدُهما الآخر. ربما قد قرأتَ بأن خوان رامون خيمينيث كان له قبل خمسين عاما مشروع إصدار مجلة. أن تسمى "مَجهولُ المُؤلّف". وينشر فيها نصوصا، لا أسماء، وأن تكون معمولة من القصائد وليس من الشعراء. ومثل المعلم الاسباني، أودّ أن يكون الشعر مُغـْفل الاسم مثلما هو جماعي (وهكذا هي أشعاري وترجماتي). ربما ستقول أنا على حق. قد قرأتني وأنت لا تعرف اسمي. سوف لن يرى واحدنا الآخر، لكننا أصدقاء. وإذا أحببتَ قصائدي فيا تُرى مَن تهمه إذا كنتُ أنا كاتبَها، أو شخصٌ آخرُ، أو لا احدَ في الحقيقة إنّ القصائدَ التي قرأتَها هي قصائدُكَ إنك أنت، مؤلـّفها، الذي يبتدعها عند قراءتها.
فصل مستل من كتاب عبد القادر الجنابي الذي سيصدر قريبا عن "دار الغاوون" تحت عنوان: "انطولوجيا بيانيّة
|