المقاله تحت باب منتخبات في
27/05/2010 06:00 AM GMT
أنا لا أحنّ إلى ما مضى حنين الشيخ إلى صباه، وإنما لأن الستينيات، على الرغم من عشرات بل مئات الكتب والمقالات التي خُصصت لها، لا تزال في أيامنا موضع جدال وسجال، ولأن أحداث سنة 1968 على وجه التحديد، باعتبارها أفصح تعبير عن روح تلك الأعوام، ما زالت تؤرّق ليل عدد كبير من الساسة والمفكرين. وربما تذكرون الخطاب الذي ألقاه في التاسع والعشرين من نيسان 2007 شخص لا أكنّ له مودة عميقة، وهذا أقل ما يقال، وفحواه أنه يعتزم، إذا ما انتُخب رئيساً للجمهورية، «محو آثار أيار 1968»، فقد صرّح بهذا نيكولا ساركوزي، بعد مرور أربعين عاماً على تلك الأحداث التي تخللها عقدان على الأقل شاعت فيهما فلسفات ومناهج وسياسات لا همّ لها إلاّ تصفية إرث الستينيات. ما هي الآثار الباقية من أيار 1968، والتي قال ساركوزي إنه ينوي محوها؟ أولاً، النسبية الفكرية والأخلاقية، أي بحسب تفسيره، رفضُ التمييز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الجميل والقبيح؛ ثانياً، رفضُ الانصياع للسلطة، أي سلطةٍ كانت، فلم يعد الولد كما قال يحترم أبويه، ولا التلميذ معلميه، ولا الجاهل العالم؛ ثالثاً، الفردانية وما تعنيه من أنانية ومن تقديم للذة الحسية الآنية، الطليقة من كل قيد، على أي مبدأ أو مسعى آخر. ولم يخجل يومها الرئيس العتيد من اعتبار انفلات الرأسمالية المتوحشة من عقالها منذ الثمانينيات نتيجة طبيعية لهذه المثالب الثلاث، متناسياً أنه أقرب السياسيين الفرنسيين إلى ذهنية بطلَي الثمانينيات، رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، وأحرصهم على مصالح الرأسمالية التي أسبغ عليها بنفسه صفة التوحش. هذه هي ستينيات ساركوزي، أو لنقل ستينيات كاتب خطاباته الذي دمج في نص واحد نقد لوك فيري وألان رينو لما أسمياه فكر 1968، وتحليلات جيل ليبوفيتسكي بشأن الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة من خلال انكفاء الأفراد على ذواتهم و«النرجسية الجديدة» التي صارت تسم سلوكهم الاجتماعي، بالإضافة إلى الكتيّب الذي سفّه فيه ريجيس دوبريه، في الذكرى العاشرة لأحداث أيار، أفكار رفاقه القدامى، مبرراً بذلك التحاقه بفرنسوا ميتران والحزب الاشتراكي. ومن الواضح أن هذه القراءات جميعاً تهمل عمداً الأبعاد السياسية للتحركات الطالبية أو الشبابية في العالم، وتتجاهل حين تتنطّح لتحليل أحداث أيار في فرنسا، الإضرابَ العام الذي واكب الطلاب في تمردهم على جميع السلطات السياسية والاجتماعية والثقافية، والذي يمكن اعتباره، من دون مبالغة، وبالملايين التسعة التي شاركت فيه، أوسعَ تحرك عمالي فرنسي في القرن العشرين. ريح الشرق ما الذي حدث فعلاً خلال هذا العقد (وخلال الأعوام الثلاثة التي تبعته، أي حتى الصدمة البترولية الأولى في أواخر سنة 1973؟) ما الذي جعله في نظر بعض المؤرخين منعطفاً في تاريخ العصور الحديثة؟ ليس السبب إنجازاً سياسياً حاسماً، إذ لم تُسفر الأحداث، إذا ما قورنت بما سبقها وبما تلاها، عن غلبة لمعسكر على آخر، أو انتصار لمذهب فكري على آخر. نعم، كان ثمة من يؤمن بأن «ريح الشرق تغلبت على ريح الغرب»، على نحو ما كان يروّج له القادة الصينيون، لكن هذا الشعار الثوري بقي شعاراً ثورياً ليس إلاّ. لننظر بادئ ذي بدء إلى ستينيات العالم العربي، ولنعترف بأنها كانت، سياسياً على الأقل، سنيناً عجافاً. بدأ العقد في سنة 1961 بهزيمة نكراء للحركة القومية العربية؛ هزيمة لم ندرك فداحتها إلاّ بعد أن دهمتنا نتائجها البعيدة، وأعني هنا الانفصال، أي انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة. وفي سنة 1962، انتزعت الجزائر استقلالها بجدارة نادرة، لكن سرعان ما اختلف قادة الثورة على كل شيء واقتتلوا، وغرق البلد فيما يشبه الحرب الأهلية، إلى أن حسم هوّاري بومدين الصراع بانقلاب عسكري. وتزامنت مع ذلك، أو سبقته، أو تبعته بقليل، انقلابات عسكرية أخرى في اليمن والعراق وسوريا، ثم حرب باردة على صعيد الإقليم (وساخنة جداً في اليمن). وتعمدت المملكة العربية السعودية تسييس الإسلام ووضعته في خدمة الولايات المتحدة، في الوقت الذي كان سيد قطب ومحمد قطب ينظّران للحاكمية الإلهية وللجهاد ضد جاهلية القرن العشرين. وفي 5 حزيران 1967، قطفت إسرائيل ثمار أخطائنا المتراكمة وحروبنا الصغيرة وشعاراتنا الفضفاضة. وما إن انطلقت المقاومة الفلسطينية، رداً على النكبة الثانية، وحمّلتها الجماهير الشعبية العربية ما لم تكن تقوى على حمله، حتى طُردت من الأردن في أيلول/سبتمبر الأسود 1970، وأضاعت سندها الأقوى بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر. وفي أثناء تلك الأحداث المشرقية، نُكبت ليبيا بالقذّافي، والسودان بالنُّميري، وكانت أولى مآثر النظامين الجديدين تصفية الحزب الشيوعي السوداني الذي كان آنذاك أقوى حزب يساري في العالم العربي وفي أفريقيا على السواء. هل كانت «ريح الشرق» أسعدَ حالاً في مناطق أُخرى من العالم؟ أجيب: نعم، إذا لم يغبْ عنا، بسبب ما فُجعنا به منذ أواسط السبعينيات، فرضُ الصين الشعبية نفسها قوةً عظمى، وزخم الثورة الفييتنامية، وصمود كوبا، وبدء تصدّع نظام فرانكو في إسبانيا، وتصاعد نضال السود في الولايات المتحدة، والتحركات الشبابية التي عمّت أو كادت تعمّ بلاد العالم كافة. لكن هل يمكن أن ننسى، ونحن نسترجع وقائع الستينيات، ما فعلته الريح المعاكسة، من مأساة الكونغو سنة 1961، إلى تحجيم كوبا بعد أزمة الصواريخ سنة 1962، إلى الانقلابات العسكرية الفاشية في البرازيل سنة 1964، وفي أندونيسيا سنة 1965، وفي الأرجنتين سنة 1966، وفي اليونان سنة 1967، إلى مقتل باتريس لومومبا والمهدي بن بركة ومالكولم إكس وتشي غيفارا؟ وكيف لا نتذكر ما سبّبته الحرب الباردة من قطيعة فاجعة بين حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، وكانت آنذاك حليفة الاتحاد السوفياتي، وبين المنادين بالإصلاح في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية؟ أقول ذلك عرضاً، إذ ربما كان «ربيع براغ» سنة 1968 الذي سحقه 600 ألف جندي من قوات حلف وارسو، آخرَ محاولة جدّية في المعسكر السوفياتي، قبل انهيار جدار برلين، لإنقاذ كلمة «اشتراكية» من شرور النظام الذي كان يدّعي أنها تعنيه. رياح الغرب يجب إذاً، لفهم ما جرى، ألاّ يقتصر كلامنا على تعداد الانتصارات التي حققها أو الهزائم التي مُني بها هذا الطرف أو ذاك، بل أن نُحلّ الستينيات محلها في سياق تاريخ القرن العشرين، الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. ففي سنة 1945، بعد انتصار الحلفاء، بدأت الفترة التي يُطلق عليها في العالم الأنكلوساكسوني اسم «العصر الذهبي»، وتسمى في فرنسا «الثلاثين المجيدة»، وهي الفترة التي تمتد حتى سنة 1973، أي التي تشكل الستينيات نصفها الثاني. وأهم ما يميزها الانفجار السكاني في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأستراليا وبعض بلاد أميركا الجنوبية؛ فبين سنتي 1945 و1960، ازداد عدد سكان الولايات المتحدة من 140 إلى 180 مليون نسمة، بينما بلغ عدد الولادات في فرنسا بين هاتين السنتين نحو 800 ألف ولادة سنوياً. ويشدد المؤرخون في هذا الصدد على فكرة جوهرية، وهي أن أطفال ما بعد الحرب في الدول الصناعية المتقدمة كانوا يكبرون في مجتمعات تتغير كل يوم، وتضطلع فيها الدولة بمسؤولياتها الاجتماعية، وتتوسع المدينة ويزداد عدد سكانها على حساب الريف، ويتضخم قطاع الخدمات، وتبدو للعيان آثار الثورة الصناعية الثالثة. وما إن بلغت الدفعة الأولى من هؤلاء الأطفال سن المراهقة حتى كانت مرحلة إعادة بناء ما دمرته الحرب قد انقضت، وبدأت مرحلة جديدة تجاوز فيها معدل النمو الاقتصادي في بعض البلاد 8%، وانخفض معدل البطالة إلى 1,5% فقط. وكان لا بد من أن يؤدي هذا الرخاء الاقتصادي الاستثنائي إلى طفرة في الاستهلاك لوحظت منذ أواخر الخمسينيات، وإلى التسابق على اقتناء البرادات والغسالات الكهربائية والسيارات الخاصة (وأضيف: وتزويد المنازل بالحمامات)، وهو ما تبيّنه دراسات عديدة في علم الاجتماع، وتؤكده أغلب الروايات التي كُتبت والأفلام التي أُنتجت آنذاك، وتجري أحداثها في روما أو لندن أو باريس. حين دخلت المجتمعات الصناعية المتقدمة عقد الستينيات بجحافل مراهقيها لم يكن قد شاع بعد نعتُها بالمجتمعات الاستهلاكية، إلاّ إنها ستستحق هذا الوصف في سنة 1965 تقريباً، حين صار ما تصرفه أسرة من الطبقات الوسطى الأوروبية على المأكل والملبس والمسكن يبلغ نحو ثلثي مصروفها السنوي أو يزيد قليلاً، الأمر الذي يعني أنها صارت تخصص نحو 30% من هذا المصروف لما كان يُعتبر سابقاً من الكماليات التي يستعصي اقتناؤها على متوسطي الحال. ولا شك في أن جزءاً من هذا الفائض صار يُصرف على المراهقين، إمّا لتسديد تكاليف دراستهم الثانوية أو الجامعية ـ ولعل ازدحام الجامعات بالطلاب من الجنسين إحدى الظواهر الاجتماعية الأساسية في الستينيات ـ وإمّا لمنحهم مرتباً أسبوعياً أو شهرياً ينفقون منه لشراء حاجاتهم الخاصة، ويتحولون بفضله إلى مستهلكين على غرار آبائهم وأمهاتهم (والمجتمعات الاستهلاكية، بالتعريف، هي التي لا تكتفي فيها الرأسمالية بإنتاج بضائع للمستهلكين، وإنما تُنتج مستهلكين للبضائع أيضاً). وهنا يكمن التناقض الذي جعل من الستينيات منعطفاً اجتماعياً وثقافياً ظهرت معالمه الأولى في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ثم انتشرت بعد عقد أو عقدين أو ثلاثة، وعلى درجات متفاوتة، في العالم أجمع. وسأحاول أن ألخص هذا التناقض بسؤالين بسيطين هما: هل يمكن، من جهة أولى، التوفيق بين إغراءات المجتمع الاستهلاكي، وأولها الإقبال على الحياة والاستمتاع بكل ما توفره الحضارة الحديثة من ملذات، وبين ما يقتضيه الإنتاج الرأسمالي من التزام صارم بالنظام، واحترام للسلطة، وتقديس للعمل مهما يكن مُضنياً؟ وهل يُمكن، من جهة ثانية، ألاّ يؤدي رفض هذه القيم إلى رفض المجتمع الاستهلاكي نفسه باعتباره يدين لها بوجوده؟ لقد أجاب المراهقون والشبان قبل غيرهم، عن هذين السؤالين، وتنوعت إجاباتهم بحسب انتماءاتهم الطبقية وتربيتهم المدرسية وثقافتهم الموروثة، إلاّ أن الاستطلاعات والدراسات الجدية كلها بشأن عقلية الجيل الجديد وسلوكه اليومي كانت تشير إلى تحول جذري في علاقة الفرد بنفسه وبالآخر وبالحياة بصورة عامة، وإلى بزوغ ثقافة عالمية شابة، بطلها المراهق المتمرد على التقاليد الدينية والنفاق الاجتماعي والسلطة الأبوية، والساعي للتميز من الأجيال السابقة بمظهره ولباسه ولغته وذوقه الموسيقي. لن أستفيض في الكلام على هذه الثقافة، لكن يجدر التذكير بأن الفضل في انتقالها من مصادرها الأنكلوساكسونية إلى بقية أنحاء العالم لا يرجع إلى التلفزيون الذي لم يكن يتصدر بعد غرف الجلوس في العالم أجمع، وإنما إلى اختراع علمي جديد هو الترانزستور. وقد تبيّن أن أكثر مستهلكي هذه الأداة الخفيفة الوزن والصغيرة الحجم ـ والرخيصة الثمن نسبياً ـ كانوا من المراهقين والشبان، إذ أتاحت لهم الاستقلال بموسيقاهم عن أهلهم، وإشباع نهمهم إلى أغاني الروك أو البوب ذات الكلمات الجريئة أحياناً والألحان الحسية الراقصة في أغلب الأحيان. هذه الملاحظة الأخيرة تقودني إلى الكلام على الظاهرة التي اعتُبرت في كثير من الكتب والمقالات جوهر ما سُمّي روح الستينيات، وأعني التحرر الجنسي. والحقيقة أن أي مقارنة بين ما كانت عليه الحريات الجنسية بأشكالها كلها حتى أواخر «الأعوام الذهبية العجيبة»، وبين ما هي عليه في أيامنا، تكفي لدحض هذا الرأي، أو بالأحرى للحدّ من غلوائه، لكنها لو قيست بالحال في الأربعينيات والخمسينيات لأمكن الحديث عن تحول نوعي بطيء بعض الشيء في النصف الأول من الستينيات، وسريع جداً في نصفها الثاني. لقد فتح الجيل الجديد ثغرة نفذ منها بعض شركات النشر والإعلان وتصميم الأزياء النسائية، فقامت مجلات أنيقة «خاصة بالرجال العصريين» بتعرية نجمات السينما والطامحات إلى النجومية، واخترع مصمم فرنسي الميني جوب، وآخرُ نمساوي المونوكيني، وتضاءل بصورة عامة، حتى في الأقطار الكاثوليكية العريقة، تأثيرُ الكنيسة في السلوك الجنسي وقدرتُها على تقييد حرية التعبير في الأمور الجنسية. غير أن المؤسسات الحكومية لم تكن قد تخلت بعدُ عن تزمتها الأخلاقي، ففي فرنسا مثلاً، وحتى سنة 1968، كان الفصل بين الجنسين هو القاعدة المعمول بها في المدن الجامعية، وفي سنة 1966 منعت الرقابة الفرنسية عرض فيلم «الراهبة» المأخوذ عن رواية لديديرو، أحد كبار فلاسفة عصر الأنوار، وحظرت توزيع عشرات الكتب الماجنة، بما فيها المؤلفات الكلاسيكية. ولم تتخلص هوليوود رسمياً من توصيات هايس المشهورة بصدد ما يُسمح وما لا يُسمح بتصويره في الأفلام السينمائية إلاّ في سنة 1966. وكان القانون في جميع دول أوروبا الغربية، يمنع الدعاية للوسائل المانعة للحمل، ويعاقب الإجهاض بقسوة بالغة، ويُلاحق المثليين بلا هوادة. لنقلْ إذاً، توخياً للدقة، إن الصراع بين المنادين بالتحرر الجنسي والمحافظين بلغ أشده في الستينيات إلى أن حسمه التيار الأول لمصلحته بعد انتفاضة أيار 1968 في فرنسا (وفي الولايات المتحدة، على الأغلب، بعد مهرجان وودستوك في آب 1969). وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أفلام غودار وتروفو وغيرهما من سينمائيي الموجة الجديدة في فرنسا، وأنطونيوني وفيلليني في إيطاليا، وبرغمان في السويد، وبيلي وايلدر وستانلي كوبريك ومايك نيكولز في الولايات المتحدة، لا تُطلعنا على التطور الذي طرأ على العلاقات الجنسية في عصرها وعلى حدود هذا التطور فحسب، بل تتيح لنا أيضاً معرفة ما كان مقبولاً من الرقيب ومن الجمهور ومن المخرج نفسه، وما كان محرّماً. ومهما يكن الأمر، فإنه يجب النظر إلى ظاهرة التحرر الجنسي من مختلف زواياها الاجتماعية، وليس فقط من زاوية الطفرة الشبابية التي تجلّت فيما بعد، منذ بداية السبعينيات، في الممارسات الجنسية المبكرة، وفي تنويع الشركاء، وتجريد العلاقة الجنسية من أي اعتبار يتعدى اللذة الآنية. لنطرح مثلاً الأسئلة الجوهرية التالية: متى بدأت ومتى استفحلت أزمة المؤسسة العائلية التقليدية، ومن علاماتها انتشار المعاشرة غير الزوجية على نطاق واسع، وارتفاع عدد الأمهات العازبات، وازدياد عدد الزيجات التي تنتهي سريعاً بطلاق قضائي أو بالانفصال العرفي بين الزوجين؟ هل عمّت ظاهرة التحرر الجنسي منذ الستينيات جميع الطبقات والفئات الاجتماعية المدينية أم أنها انحصرت حينها بفئة عُمرية محدودة يمثلها جيل الهيبيز خير تمثيل؟ وأخيراً، هل بدّل التحرر الجنسي، ومتى كان ذلك وكيف، طبيعة العلاقة غير المتكافئة بين الذكور والإناث في البيت والمدرسة والمصنع والمكتب والشارع؟ أعتقد أن حركات تحرير المرأة التي ازدهرت في السبعينيات، وفرضت على الحكومات سنّ قوانين ليبرالية جديدة، هي التي ستجيب عن هذه الأسئلة. تمرد الشباب شهد العالم الغربي إذاً، في الستينيات ثورتين: الأولى اجتماعية والثانية ثقافية. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن أي مراقب يتوقع أن تنمو، في موازاة هاتين الثورتين، حركات يسارية جذرية على النحو الذي عرفته بعض الدول في أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية والشمالية، ولا أن تخفق قلوب المراهقين والشبان لتروتسكي وماو وغيفارا بعد أن أغرمت بالبيتلز والبيتش بويز. ففي ليلة من ليالي حزيران 1963، حضر ما يقرب من مئة وخمسين ألف مراهق ومراهقة الحفل الغنائي الذي نظمته في ميدان بباريس مجلة تُعنى بالموسيقى الشبابية الرائجة، البعيدة كل البعد عن السياسة وهمومها، وفي أيار 1968، سار في شوارع باريس مئات الألوف من الشبان والشابات في تظاهرات صاخبة تطالب بتغيير اجتماعي وسياسي جذري. ما هي العلاقة بين هذين الحدثين اللذين لا يفصل بينهما إلاّ خمس سنوات؟ كيف تحول مراهقو 1963 المحايدون إلى شبان 1968 الملتزمين؟ إن السر، في رأيي، يكمن في المناخ العالمي الذي أثارته الحرب الأميركية في فييتنام. ففي بداية الحرب، كان العداء للولايات المتحدة من طرف جماهير الشبيبة الأوروبية أخلاقياً بالدرجة الأولى، وهو لا يختلف في ذلك عن احتجاج الشبيبة الأميركية نفسها، وكان مزاجياً أيضاً، إذا صح التعبير، لأن الجيل الذي ترعرع في مجتمعات تنعم برخاء اقتصادي مستمر وتتوفر فيها الحريات الديموقراطية، لا يمكن إلاّ أن يكره الحرب ويجنح إلى السلم. لكن تصعيد العمليات العسكرية الأميركية بعد اشتباك خليج تونكين في سنة 1964، قوبل في العالم بأسره باستهجان جماهيري عارم يُشبه ما رأيناه في سنة 2003 في إبان التحضير لغزو العراق، فأسست في كل مكان لجان لدعم الفييتناميين شارك فيها كبار الكتّاب والفنانين، وقد استطاعت القوى اليسارية الجذرية في أوروبا تعبئة الطلاب والتلامذة تحت شعارات هجومية لا تقتصر على المطالبة بوقف الحرب، بل تنتصر أيضاً للجبهة الوطنية لتحرير فييتنام الجنوبية وتدعم الحكومة الشيوعية في فييتنام الشمالية. وهكذا صارت الشبيبة المتأمركة ثقافياً، والمتشبهة في لباسها وهندامها وذوقها الأدبي والفني بأبناء جيلها من الأميركيين، أعدى أعداء الإمبريالية الأميركية، واقتربت سياسياً من فييتنام وكوبا والصين بقدر ابتعادها عن الولايات المتحدة. ولا شك في أن هذا المناخ منح المنظمات الماركسية الثورية صدقية جديدة، وخصوصاً ما كان منها يدافع بحماسة عن حركة التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ويرى فيها حليفاً طبيعياً للطبقة العاملة في الدول الصناعية؛ لكنْ ثمة سبب آخر لانتعاش هذه المنظمات واتساع دائرة نفوذها قلما يذكره المؤرخون، وهو احتدام الصراع الصيني ـ السوفياتي. لقد كان الاتحاد السوفياتي، وما زال، يعاني في أوروبا جرّاء نتائج قمع الثورة الهنغارية بالحديد والنار في سنة 1956، وكانت سياسته الداخلية والخارجية على السواء، لا تُقنع إلاّ المؤمنين إيماناً أعمى بحكمة قرارات القادة السوفيات أياً يكونوا، وأياً تكن. ولا يعني هذا أن الأحزاب الشيوعية الأورثوذكسية كانت قد فقدت منذ الستينيات مناصريها ـ وكانوا يُعدّون بالملايين ـ لكن يُمكن أن نجزم أن السبب في بقاء هؤلاء المناضلين والأنصار على ولائهم لأحزابهم هو أنهم كانوا يتماهون معها طبقياً، ويعتقدون اعتقاداً راسخاً أنها تدافع عن مصالحهم إزاء الحكومة وإزاء أرباب العمل، وأنه ليس الإعجاب بالأنموذج السوفياتي، ولا الولع بخروتشوف أو بريجنيف. وكانت التنظيمات الطالبية التابعة لهذه الأحزاب منقسمة على نفسها، يتطلع أعضاؤها إلى وضع حد نهائي للجمود العقائدي السائد، وإلى ممارسة ديموقراطية تفسح المجال أمام التعددية الفكرية. وحين هزّ ماو جذع الشجرة الهرمة، ثم أطلق ثورته الثقافية (ولم تكن أسبابها وأهدافها وفظائعها معروفة كما نعرفها اليوم)، نشأت في كل مكان منظمات صينية الهوى، وانفتح من جديد أمام التيارات الماركسية المهمشة، كالتروتسكية والمجالسية بمختلف فروعهما، باب النقاش بشأن طبيعة الاتحاد السوفياتي، ومضمون الاشتراكية، والعلاقة بين الطبقة العاملة والحزب الثوري، ودور المثقفين في الثورة... وكانت المساجلات بين التيارات اليسارية تنهل من الأعمال الفكرية الجديدة، الماركسية غير الماركسية، التي صدرت تباعاً في أوروبا منذ بداية الستينيات، وأثارت معارك فكرية ضارية انتقلت أصداؤها بسرعة من بلد إلى بلد. وربما كان ما يفسر الطابع الفريد لانتفاضة أيار 1968 في فرنسا، هو الغليان الثقافي الاستثنائي الذي سبقها، متمثلاً في الثورة البنيوية في العلوم الاجتماعية (كلود ليفي ستروس؛ رولان بارت؛ جاك لاكان؛ ميشيل فوكو)، وفي القراءات الجديدة لماركس (سارتر؛ هنري لوفيفر؛ مكسيمليان روبل؛ لويس ألتوسر)، وفي الدراسات الاجتماعية بشأن تطور الطبقة العاملة في المجتمعات الاستهلاكية (أندريه غورز؛ سيرج مالي)، وفي البحوث الاقتصادية فيما يتعلق بأسباب التخلف في العالم الثالث (شارل بتلهايم؛ سمير أمين؛ أندريه غوندر فرانك)، وفي نشر أو إعادة نشر مؤلفات الماركسيين المغيّبين مثل روزا لوكسمبورغ وغرامشي وتروتسكي وبوخارين ولوكاتش وبانيكوك، إلخ... ومَن يتصفح اليوم مجموعات المجلات التي كانت تصدر آنذاك، قديمها وجديدها، لا بد من أن يستنتج أن الشغل الشاغل للمثقفين إنما كان التغيير، تغيير البنى الاجتماعية والمسلمات الأيديولوجية والحياة اليومية، وأنهم كانوا، في أغلبيتهم، على ثقة بصحة عبارة سارتر المشهورة التي يصف فيها الماركسية بأنها «الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في عصرنا.» قلت في البداية إن انتفاضة أيار 1968 في فرنسا كانت أفصح تعبير عن روح الستينيات، لكنها لم تكن التمرد الشبابي الوحيد في تلك السنة، ولا حتى في ذلك الشهر. ففي كانون الثاني من السنة نفسها، انطلقت في تشيكوسلوفاكيا، تحت شعار «من أجل اشتراكية ذات وجه إنساني» وبمساهمة طالبية حاسمة، التحركاتُ الشعبية التي تحولت في نيسان إلى ما عُرف بـ «ربيع براغ». وفي شباط، تظاهرت الجامعات الأميركية بعد مقتل ثلاثة طلاب سود على يد الشرطة في كارولينا الجنوبية، واستمرت الاحتجاجات إلى أن انتزعت من الرئيس ليندون جونسون اعترافاً بالحقوق المدنية. وفي آذار وقعت اشتباكات عنيفة في روما ووارسو ـ وفي القاهرة أيضاً ـ بين الطلاب وقوى الأمن، وربما كانت القسوة البالغة التي قُمع بها الطلبة الإيطاليون من أسباب ظهور نزعة إرهابية في صفوفهم طغت على الحياة السياسية في السبعينيات. وفي نيسان، بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ، جابه الشبان السود عناصر الحرس الوطني في طول الولايات المتحدة وعرضها. وفي الشهر نفسه سارت تظاهرات صاخبة في ألمانيا احتجاجاً على محاولة اغتيال الزعيم الطلابي رودي دوتشكه. أما في أيار، فلم تتوقف المسيرات والتجمعات الطلابية في برلين وطوكيو وبيركلي ومكسيكو وكثير من المدن الإيطالية، وكان بعضها يردد الشعارات التي غطت جدران الجامعات الفرنسية، ويعرب عن تضامنه مع الشبيبة الفرنسية. ما هي إذاً، الإنجازات الخارقة التي استحق أيار الفرنسي بفضلها أن يُدرج مع الحركات الشعبية الكبرى في القرن العشرين؟ الأول، هو أنه كان التحرك الشبابي الوحيد في العالم الذي عبّر عن تمرد جيل بأسره على التقاليد السلطوية، والذي أبدى، في وقت معاً، تضامنه مع شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ضد السيطرة الاستعمارية، ومع الحركة العمالية في الدول الصناعية الغربية ضد الرأسمالية، ومع المعارضة الديموقراطية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية ضد الستالينية؛ الثاني، هو أنه نجح في تحريض العمال على الجهر بمطالبهم وعلى احتلال المصانع، وهكذا تحول تمرد الشبيبة منذ أواسط أيار 1968، ومن دون قرار مركزي من القيادات النقابية، إلى إضراب عام شمل المؤسسات الصناعية وقطاع الخدمات والأجهزة الثقافية والإعلامية حتى بلغ عدد المضربين في الأسبوع الأخير من الشهر نحو تسعة ملايين شخص. وقد ترنحت، خلال هذا الأسبوع، حكومة جورج بومبيدو، فاقترح فرانسوا ميتران تأليف حكومة موقتة، وارتبكت قيادة الحزب الشيوعي، واضطر الجنرال ديغول، وهو مَن هو، إلى السفر سراً إلى ألمانيا للتأكد من وفاء الجيش في حال دعت الحاجة إلى استدعائه؛ الثالث، وهو، في نظري، أهم من هذين الإنجازين، هو ذلك الشعور الغريب النادر الذي عمّ الأوساط الشعبية خلال أيام معدودات، والذي يصعب وصفه إلاّ بالقول إنه كان مزيجاً من البهجة العارمة والثقة بالنفس والرغبة في الخروج على المألوف وكسر العزلة الفردية والتواصل مع الآخرين ومشاطرتهم أفراحهم وأحزانهم. وربما كانت هذه الأيام المعدودات هي التي أملت عليّ، وقبل أي شيء آخر، الكلمة الأولى في عنوان هذه المقالة، وهي: «الحنين»، وأضيف إليها جدية المساجلات الفكرية، وتفصيلات صغيرة من الحياة اليومية، وبعض الكتب والأفلام والمسرحيات والأغنيات، وذكرى صديقين تعرفت إليهما في أواسط الستينيات، وهما سعد الله ونّوس وياسين الحافظ، ولم تتغير قناعتنا المشتركة، وإن اختلفنا في أمور كثيرة، بأن النظام الرأسمالي لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. أمّا أوهامنا وتوقعاتنا المتفائلة والجرائم الفظيعة التي ارتكبت باسم ما كنا نؤمن به، فهي التي حفّزتني على إضافة الكلمة الثانية: «الحذر»، ففي هذه الكلمة معنى التحفظ من النزعة إلى تعميم مصطلح الستينيات، إذ لم تكن تلك الأعوام أرفق بنا نحن العرب من العقود السابقة واللاحقة، وقد عانت فيها شعوب كثيرة ما عانت، حتى إن أغلبية الحركات الطالبية التي تألقت في ربيع سنة 1968 لقيت مصيراً فاجعاً قبل نهايتها. لنتذكّر كيف قُمعت في آب، في أثناء عقد مؤتمر الحزب الديموقراطي في شيكاغو، تظاهرات الطلاب المناهضين لحرب فييتنام وللتمييز العنصري، وكيف قضت قوات حلف وارسو في الشهر نفسه على «ربيع براغ»، وكيف خضّب الجيش في الثاني من تشرين الأول شوارع مكسيكو بدماء المئات من الطلبة بحجة حماية الألعاب الأولمبية من الشغب، ولم تعترض يومها على المذبحة دولة واحدة من الدول المشاركة. مرّ أربعون عاماً على هذه الأحداث ارتد فيها كثيرون من المحاربين القدماء على أعقابهم، وشاعت منذ الثمانينيات أيديولوجيا نهاية الأيديولوجيات (ما عدا تلك القائلة إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان!). لقد دُفن كارل ماركس للمرة العاشرة أو العشرين بعد موته، وصارت الرأسمالية في تصور الأغلبية الغالبة من المثقفين هي «الأفق الذي لا يمكن تجاوزه» لا في عصرنا ولا في العصور الآتية، وأقنعت الشبيبة أو أريد إقناعُها بأن معيار النجاح في الحياة، كما قال أحد المطبّلين لساركوزي، هو أن يتمكن المرء من اقتناء ساعة رولكس قبل بلوغه الخمسين، وسخر الساخرون من أوهام الستينيات وأعلنوا أن لا مبرر في عصرنا السعيد للرفض والتمرد والمقاومة والثورة ما دامت يد السوق الخفية تتدخل دائماً في الوقت الملائم لتوفر لنا الرفاهية والهناء، وكثر التغني بفضائل الاستعمار والتأسّي على ثقل «أعباء الرجل الأبيض». وماذا بعد؟ يدّعي المنتصرون في كل زمان ومكان أنهم لم ينتصروا إلاّ لأنهم كانوا على حق، وكان أعداؤهم على خطأ، لكن الطلبة الأميركيين والتشيكيين والمكسيكيين الذين قُتلوا في سنة 1968 لم يُخطئوا وإن هُزموا، ولم يُخطئ المفكرون الذين تعلّمنا منهم أن مطمح الإنسانية الأسمى هو أن تُقرَن الحرية بالمساواة والمساواة بالحرية. أعرف حق المعرفة أن مطمحهم هذا لا يلخص ستينيات القرن العشرين كلها، ولا سنة 1968 كلها، وأنه يوتوبيا بعيدة المنال، غير أنه اليوتوبيا الوحيدة التي تستحق أن نتطلع إليها وأن نسعى ما استطعنا لتحقيقها، ولعل هذا ما دعانا إليه شعار غامض خطّته يد مجهولة على جدار من جدران السوربون في باريس في أوائل أيار من تلك السنة المجيدة: «كونوا واقعيين، اطلبوا المستحيل».
* فاروق مردم بك كاتب وناشر سوري مقيم بباريس. محاضرة ألقاها في مهرجان «أشكال وألوان» الثقافي في «مسرح مونو» ـ بيروت، في 23/4/2010. نشرت في السفير.
* كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل، أحد شعارات انتفاضة الشبيبة الفرنسية في أيار 1968.
|