شعراء ما بعد 2003 في العراق : الشعر غارقاً في عتمة مكانه!

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
19/05/2010 06:00 AM
GMT



ليس تجديفا القول ان شعراء هذا الوقت غير محظوظين: شعراء عراق ما بعد 2003 او الذين سطعت اسماؤهم بعده. أقصد أن هؤلاء في محنة كبيرة، محنة تشبه محنة البلاد نفسها. بلاد لا شيء واضحاً فيها حتى الآن، لا بسببهم كلهم، ففيهم شعراء لافتون بكل تأكيد، لكن بسبب هذه الفوضى غير المسبوقة التي تلف البلاد، ومنها فوضى تنظيم الثقافة وتقديمها، وأول هذه وابرزها، صورة تقديم الشعر نفسه. مع ذلك صار بعض هؤلاء الشعراء، شاؤوا ام أبوا، جزءا من هذه الصورة الكالحة، صورة الشعر غير السارة على الاطلاق في هذا المكان. فلطالما يشار الى أنهم سبب البلوى، أو أنهم مشاركون بشكل أو بآخر في هذه الفوضى الثقافية العارمة. بل لعلهم احيانا أساسها وسبب ديمومتها كلما كانوا في مركز الصورة تماما، في لب هذا المشهد الواسع والمربك، حتى غدت صورة الشعر بالتالي صورة مشوهة مكشوفة، يتنازعها الشك، وتنهشها الاهواء والتقديمات والامزجة اللاثقافية (المؤسساتية) ربما (من جديد!). صورة يمزقها اليوم عبث سؤال ماضوي خبيث، نفته حداثة الشعر العراقي قبل اكثر من نصف قرن.هل أذكّر بفرادة تلك التجربة؟ لكن هذا الكلام لا يهم كثيرا في هذه الساعة، كأنه لم يعد مجديا حين لا يجد إصغاء، أو يبدو مكررا، مملا، وبلا فائدة.
لكن، وفي محاولة لدفع الالتباس فقط، فإنه لا يمكننا في الوقت ذاته العبور على كل شيء، في مكان مكتظ ومزدحم، كالمكان العراقي الآن، أذ أن هؤلاء القلة الذين نقصدهم فيه، فاعلون على طريقتهم، وربما آخرون هناك لم تقع عليهم العين عميقا (وهذا افضل لهم كما أرى)، شعرهم لافت بوضوح، لمن يريد، إذا كان الاهم من الشعر هو ذلك الخفي، الذي يرى نفسه بعيدا غائرا، ووحيدا. فالقارئ الفاحص لا تنطلي عليه إلا لعبة النص الجيد والمفارق، اذا كان بالفعل باحثا عن تلك المفارقة الدالة في هذه الخريطة المحملة كل شيء.
أقول دفعا للالتباس وأفكر أن من غير المعقول الجزم ايضا، بأن هذا الوقت كله، وقت جدب فيه الشعر تماماً، وانحسر، مع اننا اعترفنا في السياق، وقبل كل شيء، بأن هذا الوقت وقت ملتبس تماما من حيث الشعر، ولا يشبه غيره، بل هو الوقت الذي يمكن وصفه في الاقل (انضباطا)، الزمن الذي لم يعد خاضعا لأعراف مستمرة، او تفاهمات ثقافية معروفة، حتّمتها اشتغالات الشعرية العراقية الحديثة منذ بواكيرها. سواء على صعيد الجوهر الشعري وكثافته، والذي ظل متسقا ونوعيا طوال عقود مرت، أم على صعيد احتفاظ الشعراء العراقيين انفسهم بجذوات تمردهم الخاص، وعنفوان لغتهم وكثافة حضورهم.
ملامح هذا الشعر عموما، فردية، كأنها لا تخضع لنسق او نظام او أبوة، إلا لنظامها وولدنتها، ونسقها هي، وما تريده وما تتلمسه منه. متشظية، ويصعب الامعان في ملامحها او التفرس فيها. فليست ثمة ظاهرة عامة تظللها، كما في الازمنة الهادئة التي كانت تتعاقب بهدوء أو رتابة، كما ليس في الامكان الارتكان الى سياق يحتويها أو يبرر غاياتها ويحدد ملامحها. إنها بالضبط صورة ما زالت مكتظة، اكتظاظ المكان وعناءه مما فيه، وهو كثير: خبث، واستسهال، وسوء نية، ومزاج ماضوي. ولكن، كذلك تأمل وإمعان وكتابة تقبض على الجمر، كتابة تعي حراجة المشهد المحلي وتحدق عميقا الى تحولاته، كتابة تحاول استدراج الواقعي المستحيل، لما هو أكثر من ذلك، في لغة تجهد ان توائم بين الشعر وكل ما لا يصدق هنا، في هذا المكان العجيب!
يأتي هذا اللاتنظيم الذي غلّف حركة الشعر هنا منذ ما بعد 2003، عام الغزو، مترافقا مع التغييرات الدراماتيكية التي حصلت، أو بسببها. يستدعي ذلك حتما الاصغاء الى صوت الشعر منذ الان بطريقة مغايرة تماما لتلك التي سادت في العراق منذ زمن طويل، حتى في مثل تلك الظروف القاسية التي مر بها قبل هذا التاريخ، وأعني تسلط حكومة الحزب الواحد على البلاد وما خلفته في الحياة والثقافة من كوارث. لا يتعلق الامر بالقدرة على فرز الصالح والطالح من الشعر، واستكناه قدرات النص الشعري الخالص بمعزل عن ارادة الخطاب العام في تلك الفترة، وقد كانت قدرة الفرز هذه متاحة، ايامها، على الرغم من كل شيء، اتساقا مع رغائب الشاعر نفسه في أن ينفرد بلغته، يوم كان يمكن الاستماع اليه بوضوح إن أراد هو ذلك. لكن القصد أن قدرة الاصغاء باتت اليوم ضئيلة أو مشوشة بسبب هذا الضجيج العالي الذي تسببت به النوازع اللاثقافية، فضلا عن انعدام خريطة طريق واضحة للإمساك بما هو متفرد من شعر مختلف أو شعراء جدد. بمعنى آخر، اننا ازاء عناء حقيقي يستثني عمومية الصورة، طمعا في تأمل عميق في التفاصيل، وبحثا عن ملامح مختلفة الى حد أو لها علاقة ما بتجربة الشعر العراقي المديدة. خصوصا في العلاقة مع تجربة شعراء الثمانينات والتسعينات مثلا، الذين بدت اصواتهم أكثر تماسا مع تحولات الواقع العراقي وأكثر قربا من وهج المأساة الطويلة التي عاشوها أو عانوا منها بشكل مباشر، فكتبوا شعرا لافتاً، تمرّد على كثير من نظم الكتابة السابقة عليه، على الرغم من حراجة الواقع اليومي الذي كانوا يعيشونه في بلادهم، وعلى الرغم من سطوة الرسمي السلطوي فيها، والذي بدأ يتأكل رويدا رويدا خصوصا مع اشتداد قسوة الحصار ونذر الحرب المقبلة. أقول ذلك، على اعتبار ان تجربة هؤلاء الذين أشرنا اليهم، هي الاقرب الى ميول بعض الشعراء اليوم وانحيازاتهم، الذين لا يزال كثرٌ منهم يجدون في الطريقة الشعرية التي سادت قبل ذلك، مثالا مناسبا للتعبير عن نوازعهم أو ما يريدون. هذا على الرغم من قلة ما يمكن ان يلفت النظر اليوم بوضوح، للاسباب الطبيعية التي قدمناها، فضلا عن السهولة الشديدة التي تخرج بها العديد من النصوص، او حتى سهولة طبع المجاميع الشعرية نفسها، التي لا تخضع في كثير من الاحوال لمراقبة نقدية جدية، ولا حتى مراقبة قانونية تخص ثوابت نشر الكتب كما هو معروف ومعمول به في غير مكان، اكثر هدوءا واستقرارا.
رغبة المألوف وقسوة الواقع
ليس امرا عابرا تقريبا، ان لا يتم الحديث عن "الشرعية" الشعرية اليوم، من دون أن يكون اتحاد الادباء العريق طرفاً من اطرافها! أي ان يُنظَر الى هذا المكان الذي يتمركز منذ عقود في ساحة عتيدة معروفة من ساحات بغداد، كونه أحد ابرز الامكنة الرئيسية التي تصدرت واجهات الشغل الثقافي وإعلانه، إن لم يكن هو الابرز بالفعل، بعد انفلاش الجماعات وانحسار دور المقاهي الثقافية وتراجعها، والتي ظلت علامة بارزة من علامات بغداد، يوم كانت هي الاكثر حميمية في جذب الشعراء وتكوين رؤاهم ومواقفهم او التعريف بهم وإعلان "صخبهم". فعلى مصاطبها الخشبية تآلفت طرائقهم وانبعث كثير من تمرداتهم وتم الاستماع اول مرة الى العديد من تلك التجارب التي ظلت بشكل أو آخر متصلة مع بعضها في ما يشبه البوح الحر. انقرضت اليوم أكثر هذه المقاهي وظلت الامكنة البغدادية تلك فارغة من روادها وجلاّسها الذين اصطفتهم اليها ظروف كثيرة. غابت تلك الطقوس الملائمة لرغبات الشاعر الفرد، فيما ظل المكان الشهير في ساحة الاندلس بؤرة وحيدة تقريبا يواصل من خلالها شاعر اليوم أغراضه أو بعض نشاطاته وحواراته مع الآخرين. لكن هذه البؤرة الثقافية، هي إشكالية أيضا في نظر البعض، لجهة التباس خريطة العمل الثقافي نفسه، ومنه في طبيعة الحال المشهد الشعري. صحيح ان القائمين على أمر الاتحاد في سعي لإخراجه من لبوسه السائد، ليغدو بمثابة طرف ثقافي اساسي يراقب الوضع العام او يسعى الى بلورة صيغ تتلاءم مع متطلبات المثقف واهدافه، الا ان صعوبة الظروف المحيطة في ما يبدو، وعدم وجود رؤية سياسية حكومية في شأن الثقافة وعملها، إن لم نقل أهمالها الواضح لهذا المجال، جعل اتحاد الادباء يواجه مأزقا لا فكاك منه حتى الآن، وهو ان يقف امام المثقف معزولا وبلا حيلة، غير نيات الدفاع عن مشروعه الذي لم يستطع أن يقدم من خلاله أكثر من بيانات استنكار تشجب موقف السياسيين الواضح من الثقافة واحوالها، واقامته ندوات ثقافية معتادة او الدعوة الى مهرجانات او نشاطات محلية، او تنظيمه جلسات شعرية أسبوعية تحتفي بهذا الشاعر، أو بصدور مجموعة لذاك. هكذا مثلا انبثق نادي الشعر في الاتحاد، وبدعم منه قبل سنوات قليلة، ليكون ملاذا يلتقي عنده بعض الشعراء الشباب ممن جمعتهم مشتركات عديدة تتعلق بضرورة إيجاد فضاء يناقشون فيه قضايا الشعر وشؤونه، وخصوصاً ما يفكرون فيه هم، وما يرونه مناسبا لطرائقهم الكتابية وتأملاتهم، ويعقدون جلسات اسبوعية منتظمة لقراءة الشعر والاستماع اليه من خلال استضافة شاعر، او الاحتفاء بتجربة أحد الشعراء المعروفين، فضلا عن دأب النادي على تبني إصدار مجاميع شعرية لبعض الشعراء الجدد. كما كانت لعلاقة الاتحاد نفسه مع فروعه في المحافظات، فرص عديدة لتنظيم جلسات مشابهة احتفت ايضا بالشعراء في هذه المحافظات على الرغم من ان هذه الفرص ظل يعوزها الكثير من الشروط التي تلبّي حقيقة نداءات الحراك الثقافي المطلوب وحاجات الشعر في الخصوص، وكذلك التماهي مع متطلبات الشاعر الشخصية والاصغاء بعمق الى تجربته ونقدها. غير هذا، كان لمهرجانات المربد السنوية المعروفة، حضورها في اذهان القائمين عليها، اقصد حضورا أكثر لدى اتحاد الادباء نفسه ووزارة الثقافة اللذين يشتركان فعليا في الدعوة الى المهرجان والاشراف على نشاطاته. لكن حضور المهرجان في الحقيقة، لم ينعكس بقوة في الواقع، خصوصاً على مستوى الإنتاج الخاص والنوعي الذي يلبي حاجات القصيدة ويماثل جوهرها، وذلك حسب كثير من الشعراء والمتابعين. فالمهرجان السنوي الذي ينعقد كما هو معروف في البصرة كل عام، ويدعى اليه شعراء من مختلف المدن العراقية وقلة من شعراء المهجر ممن تسنح لهم ظروفهم الشخصية بالمجيء، وعلى الرغم من كل النيات الجادة لإنجاحه، ظل يتعرض باستمرار لانتقادات حادة، تتعلق بالتنظيم والاستضافة، وتتجاوز ذلك الى ما يقدم في جلساته من نصوص ومن قراءات للشعر، يراها كثيرون لا ترقى الى حقيقة النص الشعري العراقي وأهميته المعروفة. ولعل طريقة الترتيبات المسبقة، فضلا عن الظروف العامة التي تشغل الجميع، هي ابرز اسباب تلك الاخفاقات التي يعاني منها المهرجان حتى الان.
نظرات أخرى
تمثلت مشاريع آخرين ايضا، حايثت هذا المشهد او انبثقت من خلاله، في مراقبة ما يجري. ففي صدد تقويم كل شيء، تكون الحاجة ماسة لإعادة تفحص ما يُكتب، بل تفحص كل تجربة وعلاقتها بالمناخ العام، وكذلك بما تم إنجازه في مراحل سابقة رسختها الشعرية العراقية عبر تأريخها، وبالطبع النظر بجدية الى التجارب الجديدة وعلاقتها بهذا التاريخ.
كان طبيعيا مثلا أن يفكر البعض بفتح منافذ جديدة أخرى تتناسب مع حراجة هذا الواقع، نوع من كوة جديدة يطل منها الشاعر. لهذا ربما تأسس بيت الشعر العراقي في نيسان من العام الماضي ليكون رديفا لنيات أخرى تسعى الى فضاء مطلوب في ظروف كتلك، وجده مؤسسوه، وهم عدد من الشعراء ، يتلاءم مع جوهر التحولات الشعرية المنشودة، او التي في حاجة الى ترسيخ، فقدّم هذا البيت نشاطات حاولت تجسير العلاقة بين تاريخين شعريين كادت احداث البلاد منذ الغزو ان توجد شكلاً لقطيعة بينهما، وخصوصا بسبب الفوضى الثقافية التي تسببت بها هذه الاحداث، وايضا ربما بسبب بعض النيات المؤسساتية وجهلها، التي تحكم العمل الثقافي. فعقد بيت الشعر في اول جلساته في بغداد وفي الهواء الطلق على شاطئ دجلة، بالقرب من شارع المتنبي الشهير، لقاء شعريا ونقديا شرح فيه القصد من وراء تشكيل البيت الشعري والتوجهات التي ستحكم عمله في المستقبل، كما جمع هذا اللقاء عدداً من الشعراء العراقيين من أجيال مختلفة، وهي فكرة النشاط الاول له، حيث قرأ هؤلاء نصوصهم، وقدّم عدد من النقاد المعروفين أوراقا نقدية حول فحوى الخطاب الشعري السائد وتحولاته، ووجد هذا اللقاء صدى في الاوساط الثقافية والاعلامية، كما دأبت الجماعة في نشاطات أخرى على الاحتفاء بتجارب شعراء عراقيين آخرين من المنفى، او التنويه بتجارب جديدة، كما حصل مثلا في تقديم عدد من شعراء المشهد الشعري العراقي ما بعد 2003 وأبرز شعرائه، وتقديم قراءات نقدية في تجاربهم وتطوراتها. وفي محاولة للانفتاح خارج المكان العراقي، وبالتنسيق مع عدد من الشعراء اللبنانيين، أقام البيت جلسة خصصت للاطلالة على الشعر اللبناني، اتساقا مع فكرة "ب: بيروت/بغداد" الشعرية التي جاءت عنوانا لتلك الاحتفالية، بوصف المدينتين نموذجا للحداثة الشعرية العربية، وايضا كنوع من المغايرة في العمل الثقافي في الداخل، كما رأى المنظمون ذلك.
على الرغم من كل ما تنطوي عليه التجربة العراقية اليوم، من عمومية، حيث تجري الامور عادة على هذا النحو، ببطء وتثاقل أحيانا، يجد كثير من المثقفين أن ما يجب إنجازه يفوق كثيرا ما هو حاصل بالفعل، بل أن هذا الحاصل لا يلبي كل حاجات الثقافة العراقية ونداءاتها العميقة، بل لا يتواءم مع ضرورات مرحلة هي الاحلك على صعيد فوضوية المشهد العام. لا يتعلق الوضع هنا بالثقافة التي هي جزء من شمولية هذا الحراك، بل بكل النيات التي لا تتوفر على علاقة واضحة بين الشعر ومشكلاته على سبيل المثال، وبين ما يحدث على ارض الواقع من ارباكات مأسوية اجتماعية وسياسية لا يلحظها حتى النقد الذي بدا هو الآخر معزولا، غائبا، أو حاضرا فاقد الاهمية او الجدوى. وهو الأمر الذي يحتاج في رأيي الى نظرة شاملة جديدة، عميقة ومتأملة تعيد فحص كل شيء على حدة. يتعلق الامر بكل شيء تماما، بالواقع وبالثقافة، وجهَي الوجود المتلازمين هنا.