هجرة الطيور |
المقاله تحت باب قصة قصيرة إلى الأديب الفقيد سمير النقاش آنذاك...... عندما حان لي أن أطأ ارض مدينتي عبر بوابتها المحصنة بالحراس المدججين . التي فارقتها مبعداً منذ أمد بعيد . كان عليّ أن أقف أمام الرجل ذو الرداء الزيتوني المتجهّم، ليدقق أوراقي الثبوتية ، وأنا في خشية مما هو أسوأ، ففاجأني مقطباً:
ــ هل لديك معارف هنا؟ فأبرزت له نسخة من المعاملة التي جئت من أجل إنجازها . كنت راضياً أن ابدو مجهولاً لديه ، فذلك ما ينفعني، لكي أدخل دون منغصات ، وأنجز مهمتي، وأعود أدراجي إلى منفاي بسلام . عندما وصلت اتجهت إلى مدرستي الابتدائية للحصول على وثيقة . دخلت المدرسة ووجدت الملاك التعليمي . وبعد الترحيب و الاستفسار عن الأحوال فتحوا سجلّي و أطلعوني على صورتي . كنت طفلا آنذاك ، لم أفكر أنني سأعاني ذات يوم من متاعب الغربة. بعد إنجاز مهمتي تصفحت السجل و عثرت على صورة لصديقي سمير ، الذي أقصي من المدينة قبلي . و بعد حديث سمر و التطرق إلى الذكريات ، ما جعلني أتحسس أنهم على بيّنة من دقائق أموري . وبعد أن انجزت مهمتي،خرجنا إلى الممر الذي يتوسط الحديقة . لم تكن الحديقة آنذاك قاحلة كحالها الآن ، حيث مارسنا سرّاً أنا و صديقي قطف أزهار العطر و الشبوي و الاقحوان و تبادلناها ، لائذين تحت ظلال شجرة اليوكالبتوز العملاقة . هي الوحيدة التي ظلت تقاوم زمن الإلغاء والإقصاء. عندما رفعت رأسي إلى جلال قمّتها المرتفعة إلى السماء ،كان يوكّر في الأعالي ، كحالها بعد غيابنا ، بقايا من طيورٍ صدّاحة ، ذات أصوات لا تعرف الخشية . طيور استمرّت على إطلاق أصواتها دون وجل . أتذكّر أني و صديقي سمير لهونا تحت ظلالها.بقيت هي رمزا و شاهدا على كل ما مر ويمر . يوم ذاك كتبنا اسمينا على لحائها ونتأ الإسمان كأنهما من صنع الخالق . لكني الآن لم أشاهد لهما أثرا . أعتقد أن الزمن محا كثيرا من الأشياء الغالية . وتطلعت لجذعها الذي بان عليه آثار الزمن الغابر ، فبدا مثل جسد خزين بالسنين و أحداثها. بعد حديث مستفيض رافقني الملاك حتى باب المدرسة وودّعوني . وكعادتي في كل مناسبة اجتاحتني رغبةٌ أن أمر على الشارع الذي تتواجد فيه دار صديقي سمير لكي ألقي نظرة عليها . فقد مضت في طريقها لأن تكون ليس إلاّ أطلال خربة . وإلى شجرة اليوكالبتوز الهائلة التي لعبنا حولها في دار سمير . هي قرينة لشجرة المدرسة في كل شيء. بدت مزرية الحال ، تقاوم الفناء و النسيان بعسر . ومنذ رحيلهم، يطالعني الباب الخارجي بعبارته (موطني..موطني)التي حفرها صديقي ( سمير) على واجهة الباب و اقتبسها من عنوان النشيد والوطني: ( موطني ) * * * تعمقت علاقتي مع صديق طفولتي سمير وأنا في الثالث من الدراسة الابتدائية ،لاقتراب رحلتي ألتي تقدمت رحلته مباشرة . ذات يوم وأنا أغادر المدرسة ، تابعت سيري خلفه ، كان يلتفت نحوي مّرات عديدة وهو يمضي إلى البيت ، وكرر ذلك وهو يدلف إلى الداخل.غير أن أحد الأطفال قذف بابهم بالحجارة واختفى . فلم تجد أم سمير سواي وهي تهرع إلى الخارج ، فمسكتني بعنف و اقتادتني إلى الداخل و هي تعنفني ، و أنا أبكي خائفا. لا أدري بالذي يحدث ، رغم أني أقسمت ببراءتي فوجئ سمير وأنا أبكي بين يدي أمه ، فقال صارخا : ـ أطلقيه ...إنه لم يفعل شيئا .. إنه لم يفعل شيئا . بقيت نظراتي تستنجد به وهو يحاول أن يخلصني . ويبدو أن الأم أدركت أنها تعجلت في الأمر، فلاطفتني و مسحت دموعي. غادرت بيتهم وأنا التفت بذعر إلى الخلف . في اليوم التالي شاهدت سمير في المدرسة يقف أمامي مبتسما بحياء ، كأنه يعتذر عمّا حدث . كنت قد ابتسمت له ، فشجعته أن يضع يده على كتفي و يكلمني بحنان . قال: ــ هل أنت غــاضب؟ فحرّكت رأسي نافيا . عندما غادرنا المدرسة معا ، مشينا عائدين إلى البيت ، ازدادت علاقتنا تماسكا . وفي كل يوم نستغل الفرص الدراسية ، نركض سوية ونتصارع ضاحكين.كان يرخي جسده لكي أطرحه أرضا . ربما أراد أن يحسسني بأنني الأقوى ، رغم أن جسده يفوقني متانة . كنّا قد وصلنا بيتهم فقال لي بحياء : ــ أن أمّي راغبة أن تعتذر منك . قادني طاويا ذراعه على كتفي . فوجئت بابتسامة الأم الريّانة وهي تقودني داخل البيت و تحتضنني . جلست على الأريكة وطوّقتني بذراعيها وهي تقول كأنها تناغي طفلا مدللا : ــ أيها الصبـــــــــي الرقيـــــــــق... ضغطت جسدي الصغير على صدرها .كان صدري يتوسد ثدييها بحنان الأم ، و خدّي يتوسّد تلك البقعة العارية من صدرها . ووجهها ـ الذي يذكّرني بصور السيّدات المرموقات ـ يطل على وجهي . ذكّرني ذلك ـ آنذاك ـ بأخي الصغير ، غير الشقيق ، وهو يرضع أمّه . قالت أم سمير : ــ ماذا قلت لأمك عني ؟ قلت بصوت واطئ: ــ إنها ميّتة منذ صغري و أنا لا أتذكّرها. شدّدت بضغطي على صدرها ، كأنها تواسيني ، ومسحت برفق على رأسي ، وهي تلصق خدّها على شعري . كانت تبدو مثل الأم ، هكذا تخيّلتها و تمنّيتها . ربما أحسست بحاجتي إلى أُم . ثمّ وهي تحاول أن تعثر على شيء يحسسني بتعاطفها معي . كنت أحس أنها تمتلئ بمشاعر تجيش في صدرها قالت : ــ أتريد أن أشذب شعرك؟ وافقتها . أتت بالمشط و مقص الخياطة . بعد أن شذّبت شعري الذي كاد يسترسل على كتفي ،جمعته بيدي ووضعته في كيس الورق ، و خبّأته في ذلك الشق الجداري . أزداد تعلّقنا ببعض . واظبت على اصطحابه إلى بيته، وبقيت أتعرّف على كل صغيرة وكبيرة ممكنة . أوّل ما شغلني وأثار فضولي : ذلك القفص المزدحم بالطيور . وقفت حذاءه وأنا منشدا لتلك الحركة . ذكّرتني تلك الطيور بعائلة ينحصر صخبها في بيتها . وفجأة يعلن صوت إحداهن الذي بدا لائذا في آخر القفص . كان يبدو ذا ولع بإصدار تحذيره للجميع ، ثم يتزحزح نحو الزاوية و يصمت . وكّرت أعداد كبيرة من العصافير بين الأغصان العالية ، ملقية بنظراتها العجولة على القفص. لاحت مناقيرها ذات بأس . ثم حلّق الجميع كأن أجنحتها تستعرض سطوة اندفاعها . عادت بعضها قافزة بتكاسل . أحيانا .. يستثمرن غياب الجميع فيهبط البعض بحذر ، ويلتقطن الطعام الذي تناثر قريبا من القفص ثم يحلقــــــــن. فيما يواصل الطير المنزوي في الداخل زعيقه محذّرا طيوره التي بدت كما لو أنـــــها تبتعد عن واجهة القفص . لاحظ سمير ما يجري . أراد أن يفاجئني بقوله : ــ أتعلم شيئا عن أسماء هذه الطيور ؟ قلت: ــ أي اسمــــاء؟ ركض باتجاه الغرفة وعاد بدفتر فتصفحه و توقف عند أحد الصفحات وقـــــــال : ـــ أتشـــاهد ذلك المنزوي ؟ أنه يشبه جدّي سلمان . فأسميته باسمه . فهو الأب للجميــــع . أمّا هؤلاء .. فهمأ وديع وسليم . وذلك مراد . وظلّ ّيعدد الأسماء و أنا أضحك. قال : ــ لماذا تضحك ؟ أنا لا أكذب . إنّهم شبيهون بذلك. إنهم يخشون .الإختلاط بعصافير الشجرة. قلت: ــ ألا يطمحون بالتحليق بعيدا مع العصافير ؟ ألا يبتعدون إلى الحقول و الأهوار ؟ نظر إلى وجهي كأنها نظرة مستريب و قال: ــ يحلّقون؟ أي تحليق تريدهم أن يحلّقوا؟ إنهم لا يلائمهم سوى مكوثهم في القفص . وإلاّ ماتوا هلعا . فأمي تقول :
ـ أن ألقفص قد اختير لهم مصيرا . اقتربت أم سمير . فتحت نافذة القفص ، ودفعت بإناء الماء و الطعام و أغلقتها . قالت الأم بصوت آمر : ــ ألا تودّان أن تذاكرا دروسكما في المقصورة ؟ تسلقنا ألسلّم إلى هناك ، فوجئت بأخت سمير وقد هيّأت الدمى ،ودعتني للعب . وضعت الدمى الصغيرة أمام دميتي الأم والأب ولعبنا . لم يدم ذلك طويلا ،لأن سمير سحبني و أطلق تحذيره لإخته . بدأت الإخت تعنّفه وهو صامت. بعد أن انهينا تحضيرنا هبطنا إلى فناء البيت وشاهدنا صخب العصافير فوق الشجرة كأنّها تناكد طير القفص .شاهدنا عصفورة طليقة تعس لفراخها فوق الشجرة بالطريقة نفسها التي تعسّها الأم في القفص . شاهدنا صغار عصفورة الشجرة تصخب و تفتح أشداقها الخضراء . كن ّيمددن برقابهن ذات الرؤوس المسطحة و يصخبن . في حين مكثت طيور القفص كأنها تتجاهل المناكدة بصمت. بدت الحياة تنشط فوق الشجرة وأصـــحاب البيــــــت منصرفون إلى شأنهم . كأنّهم اعتادوا على هذا الصخب و آلفوه .غير أن طــــــــير القفص العجوز ظلّ يطلق تلك الأصوات المحذرة . * * * أتذكر في الصباح تجوّلنا أنا و صديقي العزيز ، بقلبين لا ريب في نقائهما. لعبنا في المدرسة ، خلف شجرة اليو كالبتوس العملاقة . شابكنا أصابعنا بقوة ، وحاولنا بإصرار و دون جدوى احتواء الجذع الهائل والإبقاء عليه بين ذراعينا. كانت الطيور توكّر في الأعالي ،وقد تواصل زفيف و رفيف أجنحة أنواع ألطيور . بدا الملاذ الآمن ملكا للكل . لاح لنا أنهم جميعا يتفاهمون كأنهم أصحاب لغة واحدة ويتحاورون حوارا ودودا لا ندرك مغزاه. ركضنا حول الشجرة العملاقة . تصارعنا ضاحكين. امتلأت فرص الدروس بالضحك و الممازحة . والعثرات التي أدمت ركبتينا . وضع يده على قلبي المضطرب . ووضعت يدي على قلبه المضطرب .أحسسنا أنهما في اضطرابهما متجانسان . ضحكنا بلا سبب، وتلاكمنا ، ونثرنا مياه الساقية على وجهينا . ذلك اليوم ..هو الوحيد الذي لم أذهب به إلى بيت ســـمير . وفي الليل كنت أتذكر لهونا وأضحك تحت غطائي . وأعددت في ذهني ما سنلهو به في اليوم التالي . وفي اليوم التالي تغيب صديقي ســـمير . في ساحة الاصطفاف صباحاً أنشدنا نشيد ( موطني ). وصعقت بالخبر المبكي بترحيل عائلتهم إلى الخارج . ومنذ ذلك اليوم بدأت أتابع باهتمام تلاحق أخبار تلك الهجرة و التهجير واسعة النطاق والتي لم يتوقف تواصلها. * * * أحد الأيام التي أعقبت رحيلهم ، بعد مضي فترة غير قصيرة ،تسللت مع الصغار في مثل عمري ، كنت متهيبا وأشعر بالرهبة ، وقلبي يضطرب . فلا أصحاب الدار ، ولا صوت الطيور الحبيسة . ولا حتى العصافير الصاخبة . كأن هذه الأشياء قد أكملت مأتما للغائبين. دخلت البيت المهجور الذي آلفته عامرا. وجدنا المقعد الذي طالما شغلته أم سمير ، وهي تدير آلة الخياطة . فوجئت برائحة العتق تفوح من ساحة البيت ، وقد تسربت الرطوبة لكل مكان ، وتبعثرت حاجيات مهشمة ، فتراكم الغبار و الزجاج المحطم فوق المقعد. وشاهدت قفص الطيور المهجور ، وقد تدحرجت آنيته . وتناثرت دمى سميرة ، التي خبت ألوانها وألوان ثيابها الزاهية . هيمن الصمت و الخراب على كل شيْ . وفوجئنا بالخفافيش تتدلّى من سقوف الغرف التي تناثرت محتوياتها. وفي المقصورة التي طالما شغلناها بالفرح ، تبعثرت الصور التي صنعناها من ورق (الآبرو)،لخارطة العراق الخضراء، و العلم العراقي ، والأطفال والديكة والدجاج و القطط والفراشات . كما تبعثرت مزق من صور المطربين العراقيين : منيرة الهوزوز وحضيري أبو عزيز و زكية جورج وعزيز عمر علي و القبنجي. تتردد أغانيهم من الحاكي في رواق البيت (علام الدهر شتتنا وطرنا ...) لا أدري لماذا تستحضرني تلك الأغنية كلّما دخلت الخربة وتمس قلبي الصغير بالحنين؟ انفرد ت عن الصغار ، باحثا عن ذلك الثقب في الجدار، أخفيت فيه شعر رأسي ، الذي حلقته لي ــ آنذاك ــ أم سمير وطويته في كيس وأخفيته هناك . هو الوحيد الذي سلم من بقايا ذكرياتنا التي اندثرت . وجدته يلوذ بذلك الشق ، كان طريا مثل قلب طفل ينبض توّا . أيّة ذكريات بريئة أبكاها الضياع؟ هرعت إلى شجرة اليوكالبتوز ، بدت عصافيرها كأنها لم تألف هذا الصمت.عثرنا على مزق من كتاب يقرأ به الأب باستمرار. عندما تكررت زيارتي لتلك ألدار ،على مر الأعوام ، التي آل حالها إلى الخراب ،اختفت معالم ذكرياتنا ، وانتهكت معالم كلمات النشيد على واجهة الباب ، لاحت باحة الدار تنشغل بضيف دائم من الطحالب، وبنات وردان ، و أفواج البعوض و البرغش و الضفادع في المنخفضات . وقد هيمن اليأس و الضمور على الشجرة * * * بعد الغياب و قبل زيارتي هذه كنت أُواصل ترددي ، بين الحين و الحين . ظلّ البيت يهرم و ينهار عبر السنين ، وتظل ذكرياته تثير الآلام و الحسرة . في كل مرة أشاهد تغير الأمور نحو الأسوأ . أمور الخراب و افتقاد الحياة . حيث تتراكم القمامة و الأتربة ، وحجارة البناء المتداعية ، فتختفي معالم الباب الخشبي المتقن الصنع . ومن خلفه تفقد الشجرة نضارتها وتكلح . و العصافير و الحمام توكّر بصمت . كأنها محطة استراحة مقفرة ، بعد أن كانت أيّامها تعج بالنشا ط ، يتلاشى تواجدها و تهجرها سنة بعد سنة . شََخََصََ فقط عمود قائم ميّت .مكث بإصرار واقفا كأنه يتطلّع عبر الشارع الطويل . قبعت فوقه حمامة دوح ، تخفي رأسها بصمت كما لو كانت امرأة أجهدها الانتظار لحبيب طال غيابه. لاح لي الباب الخارجي الذي حفر عليه سمير كلماته ، يرقد تحت القمامة و ركام الحجارة، وأسراب الذباب فوق القمامة. وبعد أن ابتلع الزمن كل شيء لم يبق عدا لوح الإطار العلوي ، حيث بدت شاخصة للعيان طيف كلمتين ليس إلاّ : ( موطني ، موطني) . وكأني عبر ذلك الأمد السحيق ، أسمع صوت سمير الجميل يردد النشيد بحماس: ( هل أراك هل أراك سالما منعما وغانما مكرما هل أراك في علاك تبلغ السما موطني موطني ) 31 /آب/ 2005 |