المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
08/03/2010 06:00 AM GMT
كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا، إلا أنه أظهر "وكتمت"
أبو بكر ألشبلي
ربما تكون قصة العثور "المعرفي" على الحلاج قد بدأت من تنقيبات "ماسينيون" الذي زار بغداد في عام 1908 وكتب العديد من البحوث والدراسات عنه، ثم توج جهوده برسالته لنيل الدكتوراه "عذاب الحلاج". وبذلك الجرس الاستكشافي الذي قرعه يكون قد كشف الغطاء عن الحلاج المغيب، ونبه الى أهميته الفكرية والتاريخية والأدبية، تماما مثلما نبه "فيتزجراد" من قبله الى أهمية عمر الخيام وسحر رباعياته. كان الحلاج، قبل ذلك بقرون يذكر من قبل الصوفيين وغيرهم بكنى "مستعارة". وكثيرا ما ذيلت شطحاته وأقواله ب"أحد الكبراء أو قال القائل أو قال بعضهم"، ولم يجرأ أحد على المجاهرة بالحلاجية وذكر مناقبها من داخل ذلك الفضاء الارتكاسي المحكوم بسلطة الفتاوى وقداسة التراث، حتى ليبدو أن التنويهات المتأخرة عنه والإشادة بسعته وفضله من "بعضهم" هذه المرة تعد نوعا من الخروج غير المألوف. لكن هذه العين ـ عين السائد ـ ظلت بارعة في عمائها وتموضعاتها السلفية المقرونة بقراءة انقطاعية أحادية، لتواصل تماهيها في خطاب السلطة الذي اتكأ منذ قرون على هذه الثوابت للحفاظ على مغانم أصحابه. لقد ظل الحلاج "حلوليا وكافرا ومرتدا". وهوجم بعنف وصدرت بحقه العديد من الفتاوى والدعوات. كما ظل، ومازال قرار إعدامه صائبا بنظر الكثير. حتى ليبدو أن ما قاله الذهبي عنه بأن له "بداية جيدة وتأله وتصوف، ثم انسلخ من الدين" منصفا نوعا ما. عين السائد هذه المشهورة في اتهاماتها التبخيسية حجبت باقتدار موضوعة الحلاج مثلما غيبت العديد من أخواتها وفق التحكم بنظام الاجترار وتدوير الموروث طبقا لمصالحها. حتى غدا التراث وكأنه جثة ينبغي الحرص على تقليبها ببطء دون المساس بها أو معاينة أجزائها. لكن هذه العين المريضة تعرضت للغزو. وبدأنا نرى "بعيون المحررين" أن للحلاج تأثير كبير في الثقافة التركية والإيرانية والهندية. وهو يمتلك حضورا مؤثرا في الشعر الشرقي الإسلامي. وسرعان ما غدا الحلاج "المقصي والملعون" رمزا نضاليا لدى الشعراء الشرقيين وعلى مدى العصور، لاسيما حين تشتد حلكة الظلام ويهيمن الظلم والعنف والاستبداد على حد تعبير المستشرقة آني ماري شيمل التي قرأت الحلاج من شطحاته ونفت أن تكون صرخته "أنا الحق" بأنها تجذيف أو مس بالذات الإلهية السامية ـ وما أسهل اتهام كهذا قديما وحديثا ـ بل يجب قراءتها بعين "التنوير" من داخل العالم الروحي للصوفية وطرائقها ومرتباتها وتجلياتها وروافدها الغنوصية. وبإطلالة هذه العين "المتأخرة" نفض الغبار عن كوكبة من "الزنادقة والمرتدين"، والتحق بالحلاج ـ الذي أطلق سراحه مؤخرا ـ بشار بن برد وحماد عجرد وصالح عبدالقدوس وابن الراوندي والشلمغاني وأبي العتاهية وحماد الراوية ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد وعلي بن الجليل وابن المقفع وابن أبي العرجاء والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي إضافة الى جموع القرامطة والبابكية والزنج وغيرهم. ومنذ مطلع خمسينيات القرن الماضي بات الحلاج رمزا من رموز الأدب العالمي وشهيدا للحب الروحي. وراحت أطراف جسده المصلوب تتحد وحروف اسمه تطرق الأسماع.. غير أنه "انشطر" الى حلاجين في ينبغيات العرب بعدما تكامل وأتضح في ينبغيات الغرب. فبات لكل من الداعين إليه حلاجه "المصلح، المنقذ، الرمز، الثائر، الشهيد، الواعظ، الضحية"، الى جانب احتفاظ "عين السائد" بنعوتها الحجرية المعروفة. ويبدو أن مثل هذه المرتقيات التي صورها صلاح عبدالصبور وادونيس والبياتي وعدنان مردم وميشال فريد وعزالدين المدني وغيرهم كانت أقرب الى المراثي والتمجيد و"البحث في أركيولوجيا الغياب" لحلاج منشطر تتناغم كل صورة منه مع أجراس الصورة الداخلية المكبوتة لكل منهم. وقد اشتغل جميعهم بذات الرموز والإشارات الصوفية لتجنب مشاكسة المؤسسة الدينية ـ السلطة ـ التراث أو ما يعرف بالتوريث البيلوجي للتسلط. الذي لا يجوز الاقتراب منه مطلقا. هكذا تعرض الحلاج الى الصلب ثانية بوصفات التنهيض الحضاري الذاتية المنغلقة، التي عجزت عن مناقدة العقل الديني/ السلطوي متخذة من قناع الحلاج فضاءا مرمزا لتفكيك خريطة الكبت والقمع بإعادة رتيبة لصراع الحلاج "الرمز والضحية والقربان". لكن الحلاج توسط في المخيال الثقافي الجمعي رمزين آخرين هما سقراط وغاليليو غاليليه. وبات ذلك الثالوث يؤسس لينبغية تنويرية تقود العقل غير المؤدلج الى مرتقيات استكشافية ناتجة عن قراءة اتصالية لتموضعات حركة التاريخ والتراث والدين ، ولتصبح لبوسا استحداثيا يعري تشوهات قزمية العقل السلطوي ألظلامي الاستبدادي بدلا عن تزويقها.أو المحافظة عليها. كان سقراط قد أصر على قتله للحفاظ على فلسفته. بينما تراجع غاليليه عن اكتشافاته للحفاظ على حياته. في حين لم يكن أمام الحلاج سوى الصبر وتجرع آلام قطع يديه وساقيه وحز رأسه. هذه المحاكمات الثلاث أظهرت أن الضحايا يحاكمون وفق القانون والشرع. في حين كان جوهر تلك المحاكمات يعلن بوضوح أن الضحايا هم الطرف الأضعف والخاسر في المناظرات أمام الطرف الحاكم /المتسلط، صاحب الفتاوى القاضية بمقتلهم وإنزال أقسى العقاب بحقهم. ويبدو لي أن الحلاج خلافا لقرينيه قد نال الجزاء الذي يستحقه "لأنه باح بالحب، ومن يبوح بسر الحب ويكشف ستر المحبوب ينال العقاب، حتى وان كان فيض الحب الذي دفعه للصراخ وكشف المستور أكبر منه" على حد تعبير الشاعر الهندي المسلم غالب!.. فالحلاج بترت ساقيه ويديه وحز رأسه واحرق جسده وذر رماده في نهر دجلة وعلق رأسه على أحد جسورها لأنه حاول "في شطحاته إحياء معاصريه الموتى روحيا وفكريا، وتحريرهم من الاجترار والمتوارث الخالي من الروح" كما يقول محمد إقبال.. والحلاج قتل وأحرق لأنه "مخالف". والمخالف هو بدعة تساوي الضلالة ومن ثم الكفر. وتصبح مجرد مصافحته هي "نقض الإسلام عروة عروة".. ألم يقل الحلاج أن من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبادة التجريد؟.. بل من أسكرته أنوار التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؟.. لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم!. لقد كان الحلاج يدرك الحقيقة ويصفها بالدقيقة، طرفها مضيقة، فيها نيران شهيقة، ودونها مفازة عميقة. كما أن الإدراك الى علم الحقيقة صعب. فكيف الى حق الحقيقة!؟. وهذا ما جعله يقتنع باستحالة التواصل مع أهل زمانه، أمثال الوزير علي بن عيسى والقاضي أبو عمر المالكي وغيرهم، حتى وصل به الأمر ذات يوم الى مناداة الناس الى قتله.."اقتلوني تكتبوا عند الله "مجاهدين" وأكتب أنا "شهيد". لم يكن الحلاج سوى ثورة في قلب شيخ عارف ورجل مثقف انتقادي حاول جهرة أن يبصر ويغير ويصلح ويصر على مبادئه في مواجهة سلطة متحجرة أحالت التراث المعرفي الى فكر يسوغ بقائها بديماغوجية وعنجهية. بعدما رأت في هذه الظاهرة تحد لها وتهديدا لبقائها، ولذلك سرعان ما اتهمته بالمعارض والمشبوه والخائن الذي يتحالف مع الحركات المعارضة لها ويهدد أمنها ويثير الاضطرابات السارية في بنيتها، مما دفعها الى الإسراع في تصفيته بوحشية في مشهد دموي سيبقى شاهدا على جهالة وتخلف ذلك المهاد الثيولوجي الذي قارعته صرخة الحلاج وأفزعته. لقد غدا الحلاج في نسيج الوعي الشعبي وكأنه أحد أبطال السير المتوارثة التي حافظت على كتم صورته المحرمة الظهور علنا، كونها كانت ومازالت تعلن عن وجود صراع معرفي ثقافي انتقادي بين طرف متعقل حر وجاهل متسلط قميء. لكن العقل الثقافي الجمعي الذي قرأ الحلاج بعد قرون من التغييب والإقصاء يدرك الآن أن ينبغيات الحلاج هي مؤثرات ثقافية وفكرية بارعة، عارضت منذ وقت مبكر خطاب الطبقات السلطوية المتوارثة التي علمنا طغيانها عبر كل العصور أن نحتفل بهزيمة جيوشنا على حد تعبير الأديب الليبي أحمد الفقيه!
|