وجهاً لوجه..احمد عبد الحسين ويوسف بزي يشتبكان بالشعرمع الحرب ودكاكين السياسة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات كان لا بد من تَلّقي الاشارات الانسانية التي تطلقها مدينتان تفيق كل منهما على ضجيج الأخرى، "تغمزان" لبعضهما بالشعر والتمرد والفعلة المحبة للحياة، المجابهة العنيدة لصوت البنادق. كان لا بد من ان يتواجه شاعران متمردان في الاجابة على سؤال المدينتين الراهن المشترك. ولتلك الاشارات الفضل في ان يشتبك الشاعران العراقي احمد عبد الحسين واللبناني يوسف بزي مع اسئلة اشعرتهما بشراكة الفكرة الكونية للشعر، التي جعلها اكثر لذة صنيعهما في الحياة. ثمة "عولمة" شعرية، ان صح استخدام المقولة، تحيط بفكرة هذا الحوار، على الاقل عربيا. الحرب .. الوطن الثكنة
* عن ثقافة ولدت في الحرب وتبحث عن نفسها بين تداعياتها. ترى كيف تصفان الفعل الابداعي؟ ما الجدوى منه؟ - أحمد عبد الحسين: يقال ان الحرب فعل طارئ على الحياة، لكنها ليست كذلك بالنسبة لنا نحن العراقيين "وربما للبنانيين أيضاً إذا سمح لي صديقي يوسف"، ليست ثقافتنا فقط هي ما ولدت في الحرب، حياتنا كلها ثكنة عسكرية، كنا على مقاعد الدراسة نتدرب على السلاح وعلى تربية الضغينة في نفوسنا ضدّ أعداء تاريخين لا ندري لِمَ هم كذلك، ودّعنا طفولتنا بأصوات غليظة بُحّت لكثرة هتافنا بالموت على إسرائيل وإيران وأميركا والامبريالية، وفي بيوتنا كنا نتدرب على الحقد، على كراهية الدولة، ونتغذى بخبز الطائفية المرّ الذي أصبح يوزع الآن مجاناً مع الحصة التموينية بفضل أباطرة الساسة العراقيين المتخمين سحتاً.لا أتخيّل الحياة بلا حرب، حين عدتُ إلى العراق من غربة عشرين عاماً كنت كجنديّ قضى إجازته الدورية وها هو يعود لأداء خدمة العلم في هذا الوطن ـ الثكنة.الثقافة عُسكرتْ في العراق طويلاً، كثير من المثقفين العراقيين، من الشعراء خصوصاً، لم يستطيعوا الحضور في مواعيد أخلاقية كبرى، أخلفوا موعدهم مع إنسانيتهم. آثارُ همجية الديكتاتور وما فعله بالثقافة لم تزل ماثلة إلى اليوم، أهونها العودة للشعر العموديّ الذي كان يشعل حماس طغاة الأمس ويتناغم مع الذائقة الفقيرة لساسة اليوم، هذا الشكل الشعريّ قد يبدو في أي مكان آخر من العالم العربيّ حيادياً، لكنه في العراق خيار سياسيّ أولاً. مثله مثل الشعر الشعبيّ الذي أصبح بفضل بعض الفضائيات المملوكة من قبل الجهلة، سيّد ايامنا وليالينا. نعم .. للأميين ـ من ساسة وشعراء ـ ثقافتهم أيضاً، لا بأس في ذلك، لكنّ الفعل الإبداعيّ ينحسر أمام هذه الشعبوية في الدين والثقافة والسياسة، كلّ شيء يتشعبن في العراق. والأخلاقية التي زرعها صدام في نفوس مثقفيه، تلك الأخلاقية التي جعلت المثقف شحاذاً على أبواب السياسيّ، أصبح يمارسها كثير من المثقفين اليوم بطلاقة وانشراح، قبل فترة هاجمني أحدهم وسماني ديكتاتوراً لأني حررتُ ملفاً كاملاً في ملحق الصباح الثقافيّ عن (المثقف الشحاذ)، وربما أسهم ذلك الملحق في جعل بعض الساسة يخجلون ويحجمون عن منح العطايا والهبات للشعراء، ربما أكون قطعت رزق هذا الشاعر الشابّ، ولا أعتذر عن ذلك طبعاً.الفضاء خانق، لكنْ في فضاء كهذا فقط يظهر بجلاء جدوى العمق والجرأة، كعنوانين لثقافة عراقية قادمة.سمى نيتشه الثقافة حرباً على البلاهة، هي كذلك فعلاً، لكنها في مثالنا العراقيّ حرب على بلاهة النخبة والعامة على السواء، حضورك فعالية واحدة في اتحاد الأدباء أو في محفل ثقافيّ آخر سيدلّك على مقدار البلاهة التي تتمتع بها "نخبتنا"، هناك صفّ من الشعراء يحضرون لملء فراغ غالباً ما يحدث لأن الفعالية مرتجلة، وصفّ آخر من النقاد المستعدين لتحليل نصوص شعراء لم يسمعوا بهم ولم يقرأوا لهم. رضي بعض مثقفينا أن يكونوا مهرجين طواعية، لكنّ كثيرين ممن يحترمون أسماءهم ونتاجهم يحرصون أن يكونوا بعيدين عن هذا السيرك المسمى وسطاً أدبياً. - يوسف بزي: في العام 1998، كنت أشرف على الملحق الثقافي لجريدة "الإتحاد" في أبو ظبي. حينها، كنت أتلقى على نحو متواتر نصوصاً شعرية وقصصية آتية من بغداد عبر البريد، لأسماء أجهلها لكتّاب وشعراء شبان. وانتبهت إلى أن ثمة جيل جديد من المبدعين العراقيين، يختلف في أساليبه ونبرته ولغته وأسئلته وهواجسه ... عن الأجيال السابقة.إنتبهت أن الجيل الجديد "المعزول" في العراق، الواقع تحت الحصار آنذاك، هو الذي تفتح وعيه في خنادق الحرب العراقية – الإيرانية، وهو المولود في زمن الدكتاتورية والعسكريتاريا، وهو الذي سيذهب مجدداً إلى محرقة حرب الكويت والإنتفاضة المسحوقة، وهو الذي سيجد نفسه محطماً بالقمع والفقر والخوف واليأس. وسيجد نفسه ضائعاً في المنافي أو مسجوناً في بلده، المحاصر من الطغيان الداخلي ومن العقوبات الدولية. بل سيجد نفسه ليس بعيداً فقط عن العالم بل هو بعيد حتى عن أسلافه، وأن عراقه الذي يعيشه لا يشبه أبداً عراق آبائه.وهذا الجيل أيضاً سيتلقى صدمة الحرب الثالثة (وفي طياتها صدمة "الحرب الرابعة" – الحرب الأهلية المستترة).بهذا المعنى، حدثت "قطيعة" كاملة بين ثقافة هذا الجيل والأجيال السابقة. إنها ليست قطيعة نظرية بل واقعة تاريخية، وتجربة معيوشة باللحم الحي وبالحواس الخمس وبالوعي المباشر. ولذلك فإن ما تسميه بسؤالك "الفعل الإبداعي" لا يمكن أن يستحوذ على شرعيته إن لم يكن ـ بأي طريقة كانت ـ متصلاً بتلك الذاكرة وأفاعيلها.أقول ذلك إنطلاقاً من تجربة جيلي، الذي إختبر الحروب المتناسلة في لبنان طوال 15 عاماً والاضطرابات المتوالية التي ما زالت مستمرة في لبنان والمنطقة كلها. هذا الجيل لم يكن في استطاعته الإستمرار بالتقاليد الفنية والثقافية التي كانت سائدة قبله. كان علينا أن نجد المعادل اللغوي للدمار، المعادل التعبيري لتشظي البنى الإجتماعية والسياسية. كان علينا لا أن "نشبه" الواقع ولا أن "ننقل" الوقائع، بل أن "نتصل" بهما، أن نكون تلك المخطوطة الإفتراضية لذاكرة تاريخية كاملة.لذا، لم يكن علينا أن نروي مجريات الحرب وأهوال تجاربها فحسب، بل كان علينا "إستثمار" التجربة لإبتكار الأسلوب واللغة والنبرة الخاصة لقول أدب جديد، ومن أجل "تجديد" الأدب والفن... والخطاب الثقافي. فالحرب تودي أيضاً بالقناعات الفكرية وبالقيم وبالأشكال الفنية السائدة وبالذائقة الرائجة. ذاك ما يجعل "الفعل الإبداعي" مشروطاً بالبحث عن أدوات جديدة وعن نظرة جديدة وعن موقف مستجد وإختباري بطبيعته، لأنه يبتدىء من حطام كل ما سبق. الاشتباك مع الواقع * وبينما يصعب التصالح مع الواقع (لو صح قول ذلك) .. هل نكتب شعرا أقرب الى ان يكون خرافة، أو أسطورة حتى؟ - يوسف بزي: الأدب تعريفاً هو الإحتمالات اللامتناهية، لذا المهم في هذا السياق هو "الإشتباك مع الواقع" تصالحاً أو إغتراباً أو أسلبة ...إلخ. ليس لدي "وصفة طبية" هنا، ولا أدري حقاً هل تحقيق الشعرية (في التجربة العراقية) يكون في "التصعيد" الخرافي، أم في "التسفيل" الواقعي. علينا النظر في الإقتراحات المتحققة في النماذج الشعرية المتداولة.لكن في الحالة اللبنانية مثلاً، كنا نرى في أدب ما قبل الحرب تلك اللغة السكّرية، ذاك الإبتهاج بمفاتن الطبيعة، ودائماً اللغة المنمقة المتعالية البالغة الأناقة. كنا نرى ذاك الأدب المترف المحتفل بنفسه وبحداثويته وبتفننه بالأسلبة والتذويق والخيال الجامح والألاعيب اللفظية والشكلية وبتجريبيته. كان أدب "الأفونغارد" (الطليعي)، بالغ الحلاوة و"الجمال".مع جيل الحرب... لو استمر ذاك التقليد لتحول إلى مسخرة. لكن حتى نصوص هذا الجيل، المغايرة تماماً لأدب ما قبل الحرب، لم تكن مصابة بفقدان الذاكرة، وإنما عملت على الإستفادة من ذاك الإرث من أجل "تجديد" الأدب بلغة جديدة، لا تقليده. فالمعضلة دوماً تكون في كيفية تحاشي التقليد وفي تحاشي فقدان الذاكرة في آن معاً. ويخيل إليّ أن السؤال في بغداد هو كيف "أخون" بدر شاكر السياب وسركون بولص بلا أن أنساهما في الوقت نفسه. وضمناً يكون السؤال "كيف نكتب المقابر الجماعية"، "كيف أترجم السيارة المفخخة"، "كيف أقول أناي".لا شرط هنا ...الحرية فقط. وإذا من كلمة أقولها للشعراء العراقيين الجدد : إكتبوا ما يخطر ببالكم، ما يطلع من دمكم، من شارعكم، من أمام نظركم. وأكرهوا المكتبة التي قرأتموها جيداً. إياكم والأدب الطالع من الكتب ومن الذاكرة المكتبية. "إقتلوا" آباءكم، ولا تدعوهم يدجنون فيكم التلقائي والعفوي والحقيقي والواضح. - أحمد عبد الحسين: بالعكس، الشعر ضدّ الخرافة، لأنه ضدّ الفطرة والسليقة والوجدان المحض، كلّ ما يُترك للفطرة يأتي بالكوارث، وإذا كان يصعب علينا التصالح مع الواقع، فلأن الواقع أصبح ملكاً للجهل الذي هو اسم آخر للفطرة. أنت ترى إلى سلطان الخرافة على الناس، الأموات أكثر حياةً من الأحياء، هذه هي خرافتنا، الشاعر التقليديّ لا مشكلة له في التصالح مع هذه الخرافة، بالعكس إنه يغذيها ويسترزق منها، كما كان يغذي ويسترزق من خرافة صدام الأوحد الذي حرر القدس وأسكننا الذرى وسقانا ماء السؤدد وأطعمنا خبز المجد في قصائد شعبية وعمودية نجحتْ في استثمار البلاهة.الشكل الشعريّ ليس بريئاً، يمكن لشكل شعريّ أن يكون ثغرة تطلّ منها الخرافةُ. لا أستطيع أن أبرئ الشعر من تكريسه العنفَ آنذاك والجهلَ الآن، ورهاننا على قصيدة النثر ليس ترفاً، كما ان الحاحي على موائمة الشعريّ بالمعرفيّ نتاج تأمل بما تأتي به السليقة والفطرة من وحوش يحلو لها أن تسكن الشعر. صعب أن تكون قصيدة النثر على منبر يجمع السياسيّ بالشاعر، صعب عليها أن تكون وقود نار حربٍ أو نار جهالةٍ، السياسيّ لحسن الحظّ، اليوم كما في السابق، شبه أميّ، لا تستهويه قصيدة النثر، ربما على الشاعر أن يلقّن هؤلاء درساً في المعرفة من خلال شعره، هذا هو رهان الشعر الأكبر. رماد السياسة * هل تخشيان رماد دكاكين السياسة، ام انكما لا تمانعان من ان ينخرط شعركما في دهاليزها؟ - أحمد عبد الحسين: أخشى السياسيّ، نعم، فمن ذاق حلاوة السلطة والتحكم بالناس واستعبادهم، ومن وهبته السياسةُ مسكوكات مادية ورمزية لم يكن يحلم بها، مستعدّ أن يفعل أيّ شيء، مشهد الدم العراقيّ المسفوح يومياً وبالمجان من صنع سياسيين عراقيين، ثم إن هناك تقليداً عراقياً شائعاً مؤداه الاحتقار المتبادل بين السياسيّ والمثقف مهما قيل عكس هذا، نحن نحتقرهم كما يحتقروننا، اليوم يتبدى ذلك بوضوح، بعض المثقفين الذين يستحقون اسمهم يزاحمون سلطان السياسيّ ويفضحون خرافته التي يؤسس عليها هذا السلطان.قال الشاعر زاهر الجيزاني في حوار أجريته معه "شعري كله سياسة"، وكان محقاً، شعرنا كله سياسة، لكن شكل قصيدة النثر، والحمولة المعرفية العالية التي فيها، يصرفان انتباه الساسة عنها، وأغلب الساسة العراقيين ذوو ذائقة فقيرة فنياً، ولا يقرأوننا، لكنّ لي نشاطاً آخر أراه مكملاً للشعر ومتناغماً معه؛ في عمودي الصحفيّ طالما أقلقتهم حدّ انني كنت مادة لبعض خطب الجمعة ... ما حدث لي بسبب ما أثارته كتاباتي كان فرصة ليظهر المثقفون مدى قوتهم في مشهد قال عنه الشاعر صلاح حسن انه أخطر مشهد في الثقافة العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية، إذ لأول مرة يتظاهر آلاف المثقفين نصرة لمثقفٍ يتعرض للتهديد من عدوّه التقليدي: السياسيّ. - يوسف بزي: أظن أن "فعل" الكتابة هو عمل سياسي بامتياز، أي أنه يضمر وعياً وخياراً سياسياً، يضمر سؤالاً أخلاقياً (وأشدد على كلمة إضمار). الكتابة التي أنشدها هي التي تحمل في طياتها إنحيازاً سياسياً (نظرة في : الحق والخير والجمال). وبديهي القول إنني أنحاز في الأدب والفن إلى "الإدراك" السياسي، لا إلى "الإلتزام" السياسي. فنحن لا نتكلم في الحزبية ولا في العقائدية ولا في التبشير الأيديولوجي ولا في الأدب الدعائي ولا في أي نظرية خلاصية أو "حتمية". السياسة هنا هو ذاك القلق الوجودي وهو ذاك التدبير للأسئلة. وأحسب فيما أشتغله أنه لا يقترح سياسة أبداً وغير قابل للتوظيف السياسي إلا بوصفه إنحيازاً ثقافياً. جدل *اين تقفان من جدل الثقافي السياسي؟ - يوسف بزي: لست "حيادياً" في ما تسميه "جدل الثقافي السياسي"، الحياد هنا قرين البلاهة. - أحمد عبد الحسين: لأتحدث عن الشعر وعلاقته بالسياسة لأقول ان كثيراً من شعرائنا وقفوا بإزاء السياسة أحد موقفين:إما انهم لم يدخلوا السياسة إلا من باب الحزب، ولهذا كانت "رؤاهم" السياسية رجع صدى لآخر اجتماع حزبيّ لهم، يستوي في ذلك الشيوعي بالبعثيّ بالاسلاميّ.وإما انهم يتقذرون من السياسة ويجدون الخوض فيها قتلاً لإبداعهم. وفي الحالين سمح المثقف للسياسيّ أن يكون مرجعاً له أو أن يتكلم نيابة عنه، ويقترح حلولاً لمشاكل هي في جوهرها ثقافية، خذ مثلاً الطائفية عندنا في العراق كما في لبنان، هذا مشكل طائفيّ، هو معضلة بالنسبة للمجتمع لأنه وصفة لحرب أهلية، لكنه كنز بالنسبة للسياسيّ لأن الطائفية هي من اوصلتْ هؤلاء الساسة إلى كراسيهم بوصفهم ممثلي طوائف، أنت تلاحظ مع بدء كل انتخابات في العراق يحرص الساسة من كل الملل والنحل على استعادة الجوّ الطائفيّ وتكريسه لأنهم لم يجدوا للآن مدخلاً سهلاً يديم سلطتهم سواه، نسي المثقف انه مؤهل أكثر من غيره للحديث عن هذا المشكل وتركه للسياسيّ الجهول يستثمره كيفما شاء.
* ما الذي يقف في وجه قصيدتكما؟ أي الهواجس تقلقكما اكثر: اللغة ام مواجهة الشأن اليومي المعيش؟ - أحمد عبد الحسين: لا أعرف كيف يمكن الفصل بين الاثنين، القصيدة عندي رسالة استغاثة أوجهها لأحد لا أعرفه على وجه الدقة، لكنه وحده القادر على انقاذي، من الضروريّ أن يكون فاهماً للغتي، لن أهادن وأتكلم بلغة الجميع لأن منقذي ليس حشداً، إنه فرد، فرديته هي السمة الأبرز فيه، لهذا عليّ أن أتوجه إليه بلغة مفردة، وهو ذكيّ ولمّاح، يزعجه الصراخ والصوت العالي الذي في الشعر السائد العمودي المقفى الموقّع بأصوات شبيهة بوقع خطى أناس غاضبين. إلى أيّ حدّ يلتقي شأني الخاص في هذا الشعر مع شأن يوميّ معيش كما سميته أنت؟ لا أدري .. حقاً لا أدري. - يوسف بزي: ما يقف بوجه قصيدتي هو استعصاء تحققها باستمرار. شخصياً أكره الشعر وسرعان ما أضجر منه، ولا أحب "صورة" الشاعر. وأعتقد دوماً أن علاقتي مع الشعر هي مشكلة بيولوجية، نوع من الإدمان، * اين انتهى جدل قصيدة النثر في بلديكما؟ - أحمد عبد الحسين: قد يبدو هذا السؤال ساذجاً بالنسبة لصديقي يوسف بزي، لأننا نتكلم عن أمر قيل فيه الكثير حتى لم يعد مطرح لقول جديد، لكن المسألة في العراق مختلفة، قلت قبل قليل ان الشكل الشعري له في العراق جنبة سياسية على نحو ما. تأريخياً كُتبت قصيدة النثر في العراق منذ العشرينيات (للمفارقة فان الرصافيّ يمكن أن يكون أول من كتبها) وسماها هو وروفائيل بطي بالشعر المنثور، لكن علينا أن ننتظر نهاية الستينيات لنجد شاعراً يكرس شروعه لقصيدة النثر، وحتى الثمانينات كان سركون بولص وجان دمو وعقيل علي أبرز من كتبها، لم تُتقبَل قصيدة النثر في العراق بسهولة، في منتصف الثمانينات ظهر جيل شعريّ حسم التردد نهائياً لصالح قصيدة النثر، اللافت ان الجيل الثمانينيّ هو من حرّض من سبقوه على خيار قصيدة النثر لا العكس كما يشاع، وظهورها في هذه الفترة له طابع احتجاجيّ على رغبة السلطة في عسكرة الشعر، جئنا متأخرين إلى قصيدة النثر إذن، ولا أظنّ أن شاعراً لبنانياً سيتعاطف ٍمع أحد يريد استعادة معركة الوزن ـ النثر، لكن الوضع في العراق مختلف، هناك ما يدعو إلى الإلحاح على خيار قصيدة النثر، يظهر اليوم جيل شعري جديد يكتب شعراؤه القصيدة العمودية بامتياز، بعض من كان يكتب قصيدة النثر عاد إلى عاموديته، ليس هذا صدفة، في نهاية السبعينيات، حسم شاعران شهيران أمرهما وتركا قصيدة التفعيلة التي برزا في كتابتها آنذاك وأوقفا نفسيهما على القصيدة العمودية، هذان الشاعران هما شفيق الكمالي وعبد الرزاق عبد الواحد، اللذان أصبحا بعد ذلك وبفضل "قرارهما" هذا قطبين يتنافسان على خطب ودّ السلطة بلا هوادة. أخشى ان العودة للشعر العموديّ اليوم ابتسامة مرتشٍ يقدمها الشعر للسلطة، ليست السلطة السياسية بالضرورة، ربما للسلطة الدينية أيضاً أو للقوى المهيمنة في المجتمع التي تمتلك الرأسمال الرمزيّ والماديّ معاً. - يوسف بزي: ما من جدل حول قصيدة النثر في لبنان. هذا الجدل إنتهى واقعياً منذ أواخر الخمسينات. وشعراء التفعيلة أنهوا معركتهم مع قصيدة النثر منذ السبعينات.ولا مبالغة في القول أن لا "حزبية" شعرية في بيروت. رموز قصيدة التفعيلة كتبوا أفضل المقالات عن نتاج قصيدة النثر والعكس صحيح.وقصيدة النثر التي تكتب في بيروت راهناً لا علاقة لها بـ "النموذج" الأول لقصيدة النثر التي بشّر بها الرواد. إنها اليوم مفتوحة بلا حدود، وأستطيع وصفها بأنها "شعر مضاد للشاعرية". إنها خارج "القصيدة" شكلاً، وخارج "الشعرية" لغة. |