المقاله تحت باب في السياسة في
12/01/2010 06:00 AM GMT
كل الثورات الكبرى في التاريخ اندلعت في لحظة انسداد: القديم لا يريد التكيف، والجديد يطالب بالوجود. حصل هذا في انكلترا القرن السابع عشر (الثورة المجيدة)، وفرنسا القرن الثامن عشر، وروسيا مطلع القرن العشرين وآخره، وإيران آخره. كل الثورات الكبرى حملت نزعة تدميرية، كراهية الدولة، فحطمت رموزها وبناها السلطوية تحطيماً. لكن كل الثورات الكبرى ايضاً، بعد ان فرغت من التدمير، راحت تقيم مؤسسات ورموزاً ومؤسسات دولية سلطوية اقوى وأمتن، الى درجة دفعت عالم الاجتماع الألماني فيبر، ليلاحظ ان الدولة سرعان ما تبتلع الثورة. كل الثورات الكبرى فتحت حواس المخيلة، وشهية التمني على يوتوبيات كبرى، عالم الحرية والقانون (انكلترا) عالم الحرية والإخاء والمساواة (فرنسا)، فردوس اللاطبقات (روسيا)، ونعيم الحكم الإسلامي (ايران). كل الثورات خلقت ابطالاً مقدسين، محاطين بهالة من السحر (كاريزما)، سرعان ما اخلت مكانها لروتين موظفين، ومؤدلجين رسميين، محاطين بالعسس. تكاد هذه الأقانيم الأبرز في مآل الثورات، تتكرر امام انظارنا اليوم في ايران. فبعد الفراغ من تدمير الدولة القديمة، وتفريغ شحنة الكراهية للماضي، اقيمت دولة سلطوية رهيبة، قدر ما هي غريبة، فهي تنشطر الى مؤسسات حديثة شأن كل جمهورية، سلطة تنفيذية، وتشريعية، وقضائية، متمايزة ومستقلة عن بعضها، مع نظام انتخابي حديث. وهي دولة مؤسسات تقليدية وبمجلس صيانة دستور (لتعطيل البرلمان)، ومجلس تشخيص المصلحة (لتعطيل الجهاز التنفيذي)، وفقيه ولي لتعطيل الجميع. وهناك طبقة واسعة مغلقة من رجال الدين تقدر بنحو 200 الف معمم، تحتل زوايا مؤسسات الدولة (مقابل 16 الف رجل دين شيعي خارج ايران). والدولة الإيرانية، على اسلامها، ريعية، اي تملك جل الثروة الوطنية، التي باتت حكراً بالدرجة الأولى على الطبقة الإكليروسية المغلقة، وشبكات المحاسيب والأقرباء التابعة لها. وباختصار الدولة بلعت الثروة. بعد رحيل الخميني، انطوت صفحة الكاريزما، ليحل محلها الروتين. قائد الثورة حظي بهالة السحر لدوره، وعمّد كاريزماه باستفتاء شعبي شاركت فيه الأمة. خليفته جاء بتعيين من مجلس خبراء (مئة عضو)، جلهم من الفقهاء، وفق تدابير لضمان سلاسة الانتقال الحكومي، اي بدوافع اجرائية، نخبوية، لا هالة فيها ولا قدسية، ليحل الروتين الإداري محل الكاريزما المقدسة، التي اسقطت اهم مبدأ في علم الكلام الشيعي وهو سيادة مبدأ الأعلمية (الفقيه الأكثر علماً). وما ان اعتلت الدولة ظهر الثورة، والروتين ظهر الكاريزما، حتى جاء دور تآكل اليوتوبيا. الدولة دشنت خطاً تنموياً، والدولة التنموية لا هي اسلامية ولا مسيحية، بل دنيوية - تجريبية، اعتمدت خطط تنمية خمسية (كما فعل الشاه وستالين وصدام وسواهم من قبل) لإنماء القطاع الخاص، وتحويل المؤسسات السلطوية (الحرس الثوري)، او المؤسسات الدينية (مؤسسة الشهداء، او الجهاد لأجل البناء) الى مالك جمعي لأصول صناعية وتجارية وعقارية ومالية تقدر بالمليارات. وأكل التضخم التحسن الكبير في مستويات عيش الفئات الدنيا، وباتت الدولة تقترض لتحافظ على العقد الاجتماعي العالمثالثي المعروف: خدمات مجانية مقابل الرضى. ولم يستطع كثرة من فقهاء الأمس التكيف مع متطلبات العصر الحديث، فدارت معارك كبرى حول قوانين العمل، وقوانين الأرض، وما شاكل وتعطلت الإصلاحات بدعوى متكررة: «لا يوجد مثل هذا في الإسلام»، فردّ المحدثون: يوجد اكثر من هذا في الفكر المعاصر. اما الأممية الإسلامية، وليدة يوتوبيا الثورة، فسرعان ما استسلمت للقومية الإسلامية، المصالح الجيوسياسية للدولة (اية دولة وكل دولة). لم يكن من قبيل المصادفة ان يتمرد قطاع من ابناء الثورة عليها. التمرد الأول فقهي: منتظري الذي نقل عنه قوله: الجمهورية الإسلامية في ايران ليست جمهورية ولا اسلامية. والتمرد الثاني فلسفي: ابرز ممثليه كريم سوروش الذي فصل الدين عن وعي او فهم الدين، وحوّل الفقه الى مسعى دنيوي محكوم بالمعارف البشرية، ومتغير بتغيرها، ليقضي بذلك على ادعاء الفقيه بالقدسية، وليفتح الباب امام الحرية. والتمرد الثالث مؤسساتي: يمثله محمد خاتمي، الرئيس الشجاع، الذي فتح ابواب الحريات الثقافية بلا مواربة. هذه الموتيفات الثلاثة (منتظري، خاتمي، سروش) سمحت بنشوء ما اصطلح عليه بـ «علم الكلام الجديد»، المتفاعل مع الفلسفات والعلوم الحديثة، الطبيعية والاجتماعية، معلياً شأن العقل (على غرار معتزلة العصر الكلاسيكي) والحرية (على غرار كانط)، ولعل الرئيس البراغماتي (رفسنجاني) ساهم، بوعي او دونه، في هذا المآل، بسياسة الانفتاح الاقتصادي، التي وسعت القطاع الخاص، فضاعفت حجم وقدرة وحضور الطبقات الوسطى الحديثة التي يقود ابناؤها الاحتجاجات، على رغم انه سياسياً يضع قدماً في معسكر الإصلاح، وأخرى في معسكر الدولة. ازاء هذا التطور لم تجد الدولة ما ترد به على تحولاتها هي، على دنيويتها، وطابعها الاحتكاري، وبوار يوتوبياها في بازار الفكر، سوى احياء الشعبوية القديمة على يد الرئيس الجديد، احمدي نجاد، الذي وعد بتوزيع جديد للثروات، وإحياء المهدوية، التي لا يكف الرئيس الجديد عن التذكير بها حتى في اروقة الأمم المتحدة (القول بقرب عودة الإمام الغائب)، بالتلاعب بالانتخابات، وأخيراً باستخدام ادوات العاجز: القمع السافر. في الأسبوع الماضي هددت وزارة الداخلية بإنزال عقوبة الإعدام بكل من يجاهر بالاعتراض على نتائج الانتخابات. والقانون. في طول العالم وعرضه (عدا حضارتنا البائسة) القانون يعاقب على الأفعال لا الآراء. الدولة، في هذه اللحظة، في محنة. فالتحالف الاجتماعي العريض الذي صنع ثورة 1979 انفك تماماً، وطبقة رجال الدين منقسمة بين علم كلام جديد ديموقراطي الاتجاه، وفقه قديم سلطوي المحتوى، ونخب سياسية منقسمة من داخل المؤسسة. من جديد تبرهن ايران انها الدولة المسلمة الوحيدة التي تملك مجتمعاً حيوياً قادراً على قول كلمته، دون انقلابات عسكرية ودون غزو او احتلال خارجي. قد تخمد الحركة الآن، او تهدأ. وقد ينال مير موسوي مطالبه كلاً او جزءاً، وقد لا ينال شيئاً. كل هذا جائز. لكن الثابت ان ايران منقسمة، وأن الإسلام السياسي الذي أنجب ولاية الفقيه في ازمة، وأنه لن يعمر كثيراً. هل تتعظ ايران بدروس التاريخ، دروس الثورة الإنكليزية التي انتهت بحلول وسط حافظت على العرش، وطبقة اللوردات، وطبقة العوام، في مؤسسات متوازنة، ام تلتمس الطريق الفرنسي والروسي، بغلق منافذ الإصلاح والمشاركة (كما فعل الشاه من قبل)، فتفتح بذلك بوابات الجحيم؟
|