رائحة السينما لنزار عبد الستار

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
13/12/2009 06:00 AM
GMT



1

صدرت (رائحة السينما) عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد في منتصف عام 2002، فعانت مما عانت أمورا كثيرة في حياتنا الثقافية حينما اكتسحتها رياح التغيير التي اجتاحت قوتها المنفلتة أمور حياتنا كلها؛ فظلت (رائحة السينما) مكدسة في مخازن دار الشؤون الثقافية العامة حتى الوقت الحاضر،ربما بسبب اعتبار القادة الحاليين للثقافة بأنها من مخلفات العهد السابق؛ "فبدت العديد من الكتب التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية في تلك السنة الحاسمة وكأنها لم تصدر، واستفاق المثقفون، بعد سقوط الديكتاتورية، على كتب جديدة، وتغير مزاج القراءة نفسه. ولم يبد غياب كتب معينة من واجهات المكتبات أو أسواق الكتب المعتادة مشكلة إلا لأصحابها، لأصحاب هذه الكتب التي صدرت ولم تصدر"، ثم صدرت مجموعة (رائحة السينما) عن دار أزمنة في عمان/ الأردن، وضمت سبع قصص هي: (أبونا، رائحة السينما، صندوق الأماني، بيت الخالات، تماثيل، شمورامات وقبل ان يذهب إلى مصيره)...
 2 
ينتمي القاص والروائي نزار عبد الستار جيليا إلى جيل التسعينيات من القصاصين العراقيين، ولكنه ينتمي، فيما يخص استراتيجه السرديّ الذي يتبعه، إلى نهج اتبعته، في السرد العراقي، مجموعة من القصاصين الستينيين حاولوا تطوير السرد العراقي مستعينين بآخر كشوفات القصاصين العالميين المحدثين: كتابات بورخس وايكو، والواقعية السحرية لماركيز وغيره من كتاب أمريكا اللاتينية، فجاء اهتمام نزار عبد الستار بالمثيولوجيا الرافدينية والأسطورة، والموروث بأشكاله المتحققة في النص القصصي والروائي، فكانت زحزحة الثوابت وقواعد المنطق من خلال الانتقالات المكانية والزمانية، غير المبررة منطقيا أو سببيا، مما يعطي القص طابعا فنطازيا سحريا، تجعل القاص متتبعا لخطى مجموعة من هؤلاء القصاصين الذين استدرجوا التاريخ إلى أحضان السرد بطريقة سحرية ومنهم: محمد خضير ومحمود جنداري، ولطفية الدليمي، ومحسن الخفاجي..
 3
يقول الراحل شاكر حسن آل سعيد، في كتابه (أنا النقطة فوق فاء الحرف، بغداد، 1998): "ان تأليفي يتم على وفق تصميم مسبق يعتمد على مبدأ (التوليف) بين عدة محاور، متنوعة الهوية، وان كانت إلى حد ما موحدة التوقيت، ذلك أنها لا تضم (جنسا) واحدا من التأليف من حيث الموضوع ولغة التعبير وأنا اعتمدت على مبدأ (التجميع) ".
4
كانت الوحدات السردية المكونة للقصة، عند نزار عبد الستار، تتجمع أحيانا بطريقة كولاجية تتوفر على شيء من الحداثة السردية، بهدف استكمال وحدة التأثير، كجزء من الخلخلة، أو الزحزحة التي يجريها نزار عبد الستار في قواعد وتقنيات السرد التقليدية، وهذه الكولاجات تبدو واضحة في الحلول محل الجوهر الحكائي لقصة نزار عبد الستار، كحكاية قصة (رائحة السينما) التي تم تمزيق أوصالها من خلال مجموعة من اللقطات التي تتجمع تأثيراتها كالينابيع الصغيرة، ونحن نعتقد ان بنيتها السردية غير التقليدية هي التي دفعت القاص إلى اختيارها عنوانا لمجموعته القصصية بسبب تقنيتها الكولاجية التي تفارق بشكل اكبر من بقية القصص، للنسق التقليدي للقص. 5
غالبا ما يضع نزار عبد الستار شخصياته تحت رحمة سارد عليم بدواخل الشخصيات، وقادر على الحديث عن كل الأزمنة والأمكنة والأحداث، فهو يستمد معرفته تلك أما: من كونه مشاركا عارفا بدقائق الأحداث، أو شاهدا عليها بعدما حدثت أمام عينيه فهو بالنسبة لها الشاهد الثقة، أو من قدرته على إجراء حفرياته متعددة المستويات التي يجريها سواء داخل الشخصيات المسرود عنها، أو من ذاكرة الشخصية الساردة ذاتها، أو من حفرياته داخل النصيات (السرديات)، الشفوية أو المدونة: تاريخ الحوادث، والأماكن والشخوص، فهو باختصار كما يصفه الكاتب حميد حسن جعفر "شخص قادر على ان يضع يده على جغرافيات واسعة وعميقة وعلى تاريخ يعود لأشخاص وجماعات وأفراد وسلالات" (تاتو، 15 أيار 2009).
 6
لا يبحث نزار عبد الستار عن بطل نمطي يتشدق بنقل (ثقافة) المؤلف، وينطق بلغة ذلك المؤلف بل يختار أبطاله من الهامش الذي قصمت الحرب ظهره، فكان بطلا يتحدث بلغته الشخصية، وهمومه، بعد ان رفع المؤلف يده عنه، وتركه يعيش مصيره، ويعبر عن ذلك المصير من خلال سرده هو، أو من خلال سرد الآخر عنه، فمثلا "في قصة (صندوق الأماني) يقترح القاص بطلا نموذجيا، قادرا على تجسيد الخصائص الفنية في قص نزار عبد الستار، وهي الشخصية المهمشة، المسحوقة، ولكن (المتميزة) في الوقت نفسه...... والذي يتركه القاص ليحكي بأفعاله كل الأفكار التي يريد ان يوصلها إلى المتلقي، وتلك واحدة من أهم صفات القاص الجيد الذي لا يتحدث بلسان أبطاله، ولا يقوّله ما يريد قوله، بل يترك ردود أفعالهم تكشف عما يريد هو، ان يقول".
 7
يتلاعب نزار عبد الستار بزمن السرد في القصة الواحدة طارحا أحيانا أنماطا من الزمن من الصعب تصنيفها في اللغة العربية، فقد كانت قصة (أبونا) نموذجا لهذا التلاعب الذي كان ناتجا عن وعي مأزوم لعائلة تعيش على ذكريات، ربما تكون ذكريات موهومة، أو ناتج اضطراب عصبي واضح، وربما وراثي على ما يبدو، فجاء السرد مصابا هو الآخر باضطراب يعطي صورة دقيقة عن الخلل في وعي تلك العائلة التي اختلطت الحقائق عليها، فاضطرت إلى نقل احد أبنائها إلى المصح العقلي دونما عودة: "عرفنا بعدها ان الشرطة قبضت عليه لقيامه بفعل فاضح، فقد تعرى تماماً وتسلق تمثال إبريق شجاع بن منعة الذي أمام مبنى البلدية وراح يرقص بجنون. تم ترحيله إلى مستشفى العاصمة. رافقته أمنا في تلك الرحلة لكي تتعرف على الطريق الذي ستسلكه بعد ذلك في يوم الاثنين من كل أسبوع ولمدة تسع سنوات، وفي محطة القطار بدا مقمط الجسد، محبوس الروح، تسبح الأسئلة في بياض عينيه وهو ينظر إلينا باتساع يريد ان يشبع وكأنه يعرف بأنه لن يعود". ففيما يبدو ابتداء القصة وكأنما يوحي بالزمن الحاضر "أقفلت أمنا الباب لأننا لا نعرف كيف نعود إذا خرجنا. أدارت المفتاح في القفل الأسود وأخرجته بالخفة نفسها التي تعيد بها للمطبخ بهاء ما قبل الأكل، وبالتدبير الذي يليق بأم بيت مثلها"، يتحرك الزمن إلى الخلف شيئا فشيئا حينما "فعلت هذا بنية لم نكتشف قسوتها إلا بعد ان نسينا وزنه والمكان الذي كان يوضع فيه. احتفظت به إلى زمن أجبرنا على ان نألفه كما ألفناها، وان نبر بتبعيته لها كعضو تأنث بالتوصيل، أو كشيء كنا نلاعبه في مرحلة القماط، نعضه، ونحك به لثتنا في موسم الأسنان. علمنا حرصها على ان ننظر إليه وهو في يدها كأصبع سادس نبت لها لكي تمسكنا بقوة حتى لا نضيع منها كإخوتنا الذين ذهبوا، وكأبينا الذي لم يعد" حيث يتبين القارئ شيئا فشيئا ان زمن السرد يجري بعد سنوات من الحدث، وربما يمتد إلى أمد عقدين من الزمن " كنا نحاول إخلاء أجواء تحركاتها الصباحية. نتركها تمسح وتكنس وتقترب من صورته (الأب) التي في صدر الإيوان. كانت تلعن الشيطان ومخاطه، والعناكب ولعابها وهي تدنو من ضوئه القديم وأناقته المحنطة. تضبب الزجاج ببخار أنفاسها القلبية لتعيد لأنفه وشفتيه وحاجبيه وشعره المدهون بريقهم الطبيعي وهو أمام عدسة مراد الداغستاني وكنا نساعدها فنفرغ ذاكرتها في طقوس حلاقة ذقوننا وبقياسات عظمنا الخشن. نتقاسم ثيابه الخارجية والداخلية وأحذيته وأربطة عنقه ومقادح الكاز والخواتم والأحزمة والدشاديش ولم نترك لها غير تلك الاستذكارات السرية التي كانت تجعلها تنثر ابتساماتها المترملة في فراغها الواسع.