المقاله تحت باب قصة قصيرة في
04/12/2009 06:00 AM GMT
الذباب والزمرد/ فصل من رواية احتضار
ـ 1 ـ باعد صبي بين أنامل كفه اليمنى وهو يركع قبالة أكثر من عشرة أطفال. لمس بخنصره أولا أصابع قدمه اليسرى، ثم شرع بقياس طول قامته بأشبار قصيرة متعاقبة من أسفل قدمه المعاق حتى قمة رأسه. كان يردد، مع كل شبر وبصوت مسموع: "شرطي/ حرامي، شرطي/ حرامي"، وحين وصل إلى قمة رأسه هتف بأعلى صوته: حرااااامي!. فرح الصبية ألمعصوبي الرؤوس والمسلحين بمسدسات وبنادق بعضها كان أطول من قاماتهم وراح كل منهم يمارس ذات الطقوس تباعا. يركع أمام أنظار الصبية لقياس طول قامته بأشبار قصيرة متعاقبة، يرافقها ترديده لمفردتي: حرامي/ شرطي، حرامي/ شرطي، وحين يصل إلى قمة رأسه يهتف بإحدى المفردتين ويشاركه الأطفال فرحه. في نهاية آخر عملية قياس قام بها طفل حليق الرأس أمام أعين الصبية وصل عدد اللصوص الصغار إلى أحد عشر طفلا مقابل شرطيان، أحدهما كان صبيا بدينا حافي القدمين، أما الآخر فكان أعورا!. لم يدهشني صخب هذه اللعبة ولا عنفها، لكنني تريثت كثيرا قبل أن أعرض على أحدهم مليء كيس كبير بعلب الصفيح الفارغة مقابل ربع دينار. أبدى الصبي حماسا واضحا وهو يخطف الكيس من يدي ويهرول باتجاه المزابل في أقصى الزقاق، وهذا ما شجعني على مفاتحة صبية آخرين فرحوا جميعا بهذا العرض المفاجئ وأعلنوا انسحابهم من لعبة "شرطي/ حرامي" والتحول سريعا إلى أطفال "دواره" مقابل مائتين وخمسين فلسا. بعد أقل من نصف ساعة، كنت أجلس حائرا أمام عشرة أكياس مليئة بالعلب الفارغة، وضعت بعناية واضحة قرب باب الحديقة. كنت حتى تلك اللحظة مازلت مترددا إزاء مواصلة تنفيذ هذا المشروع البائس وما سيجلبه لي من متاعب وسخرية وخسائر مادية مرهقة رغم بساطة رأس مالي المتواضع الذي جمعته بصعوبة. لم أكن بحاجة إلى هزيمة أخرى يا "أزيريه". يكفيني مسلسل هزائمي الطويل منذ عقود. ثم أنني اعتدت على التسكع والعبث اللامجدي، وباتت رائحة الإفلاس عطري المفضل. لكن أزيريه، الشقيق الأكبر لصديقي أوسم كان بوجهه الأبيض الوديع وببشاشته المحببة حاضرا معي دائما، وكانت كلماته اللاهوتية الساحرة تبهرني حقا: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأنه إما أن يبغض الواحد و يحب الآخر، أو يلازم الواحد و يحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله و المال. انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع و لا تحصد و لا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم انتم بالحري أفضل منها. فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس. فان هذه كلها تطلبها الأمم لان أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولا ملكوت الله و بره، وهذه كلها تزاد لكم". ليكن الصليب سلاحكم الوحيد، استمدوا قوتكم منه. اسمع يا أخي في الله، حولك المال كله ولكنك لا تراه. اجمع العلب الفارغة من المزابل وأملأها بالتراب، ضع بذرة ورد واحدة في كل علبة، واسقها في الصباح والمساء. بعد عشرة أيام ستغدو وردا. بع كل أصيص بربع دينار وستحصل على مالا وفيرا. "المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة". سحرني حديث أزيريه، لكنه لم يسحر أوسم بل بدا متضايقا ومحرجا لسبب لا أفهمه، خرجت من بيتهم حالما بملكوت الله وبمشروع الأصص وبذلك المال الوفير من حولي، المال المدفون في أكوام النفايات العديدة ولم أكن أراه. ذهبت إلى أحد المكاتب الزراعية وابتعت بالجملة بذور ورود القرنفل والكاردينيا والجوري والقديفة والجعفري والرازقي ودم العاشق، ثم بدأت على مضض بتنفيذ مشروع أزيريه. كنت أسقي الأصص صباحا ومساءا وأرقب الشروخ الصغيرة التي ندت منها الفلقات الخضراء. وكنت أتابع بشغف وانبهار تحولاتها المدهشة التي استحالت بعد عشرة أيام إلى أزهار وردية وحمراء وصفراء وبرتقالية، وبعد أسبوعين لا غير، كنت أجلس على كرسي قديم في الرصيف المحاذي لبيتنا، أطالع إحدى روايات فرجينيا وولف، غير مكترث بصفوف الأصص المتراصة من أمامي. قرأت أكثر من خمس روايات في غضون عشرة أيام، لكن صفوف الأصص ظلت متراصة على حالها. كان بعض الصبية يتفرج عليها قليلا ثم يبتعد، أما المارة فقد اكتفوا بنصف التفاتة قصيرة أثناء مرورهم السريع، لم يتوقف أحد منهم قط، ولم أسلم طبعا من تندرهم وابتساماتهم الساخرة، جارتنا الصابئية الطيبة أم رند وحدها التي كسرت ذلك الحصار قبيل ذبول الأزهار، فحصت أكثر من عشرين وردة في أحد الصباحات قبل أن يهديها الله إلى شراء وردة جوري واحدة فقط. في المساء، وبعد خمسة عشر نهارا بليدا ركلت الكرسي القديم بقدمي وتوجهت نحو الصبية الذين ملئوا الأكياس العشر بالعلب الفارغة قبل أكثر من أسبوعين. شاهدت صبيا أعور يباعد بين أنامل كفه اليمنى وهو يركع قبالة أكثر من عشرة أطفال. كان يلمس بخنصره أصابع قدمه اليسرى قبل أن يشرع بقياس طول قامته بأشبار قصيرة متعاقبة من أسفل قدمه حتى قمة رأسه، وكان يردد، مع كل شبر وبصوت مسموع: "شرطي/ حرامي، شرطي/ حرامي"، وحين وصل إلى قمة رأسه هتف بأعلى صوته: شرطي!. فرح الصبية ألمعصوبي الرؤوس والمسلحين بمسدسات وبنادق بعضها كان أطول من قاماتهم وراح كل منهم يمارس ذات الطقوس تباعا. لم يدهشني صخب تلك اللعبة ولا عنفها، ولم أتريث كثيرا في دعوة الصبية المسلحين جميعا، من لصوص وشرطة، معاقين أو حالقي رؤوسهم أو عوران إلى تقاسم غنيمة الأصص، مشروع أزيريه التعبان، التي تركتها معروضة للسخرية والتندر، في صفوف متراصة وجذابة على الرصيف المحاذي لبيتنا!.
ـ 2 ـ نسيان موجة جديدة من الفشل قد يبدو صعبا، وهذا ما كنت أخشاه يا أزيريه، قد يقولون، ولهم الحق: إن الصعوبة لا أثر لها في سجل رجل دائم الهزائم مثلي، رجل بائس، بارع في النكسات والمحن وفي أشواط خاسرة عديدة. ولكن حديثك السحري يا صاح خدعني فعلا. أنا لا أعاني الآن من صعوبة النسيان فقط، بل من سرعة هذا التمرد المدهش على جاذبية حديثك. يقلقني هذا الانقلاب السريع في بعثرة مشروع الأصص بعيد الانجذاب المسحور إليك ومن ثم التخلي عنك الآن، كيف تفسر ذلك يا أزيريه!؟. هل تصنع فواصل الاهتزاز الكبرى وسط الهزائم والنكسات مزاجا متقلبا كهذا؟. أنا، كنت وما زلت من أشد الساخرين من فاصلة "انهيار جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق". تلك القارة الليلينية الساحرة وتوابعها التي تفككت واختفت، قارة من أجمل القارات السبع تنهار فجأة، تبعثر كل النظريات والبحوث والندوات والاجتماعات السرية منذ عقود، تركل أغلالها الحمر وتتجدد. تطوي كل دفاتر تضامنها المثقوبة مع الشعوب العربية وأحزابها الشيوعية وحركات التحرر والسلم والتضامن ومعاهدات الصداقة البائسة!. نحن نعوم يا أزيريه في منهول مستهلك، نعيش على تلك المساحة المغبرة الضيقة من الزجاج، تلك التي لا تطالها ماسحات زجاج السيارات في تأرجحها المكوكي يمينا وشمالا. وبينما تتوالى الاهتزازات التاريخية من حولنا، نمضي نحن بخفة نحو ظلمات العصور الوسطى. الآن، أيها المبشر المستجد دعني أسخر من تفاؤلك، من ذلك الترقيع الأخرق الذي ورطتني به. شهور عصية يا مولاي وابن مولاي مرت على غصة الغزو، ثم تبعتها سكرات الهزيمة الخانقة وأنفاس الانتفاضة ونهارات القمع، وها أنا يا أزيريه في أتون الحصار وانهيار "الدب السوفيتي السابق" أعاصر السموم واليورانيوم والسرطانات والتشوهات الخلقية وأول وأشهر هجرة عراقية إلى بلاد المهجر، أنا الآن ابن مفردات الحصة التموينية الشحيحة ودقيقها الأسود المطحون بنوى التمر، ابن القحط والاحتضار وقليل من رائحة التمرد. يسعفني فعلا أن أضع قبضتي الواهنتين في جيبي المثقوبتين، وأن أسير مثل متشردي الأفلام السينمائية، أركل بحذائي علبة فارغة أو حجرا صغيرا في أي شارع أسلكه وأنا أتسكع في كل نهار بحثا عن فرصة عمل مستحيلة، أو وجه ضيعته منذ أعوام، أو سكرة مجانية تعيد لي توازني المؤقت في المساءات الكئيبة. أنا "خطية" يا أزيريه، مزقتني الحروب والسواتر وعيون القتلى. لم تفلح أي إجازة بلهاء في ترقيع ثقوبي، ولم يفتح لي تسرحي المكرر من الجيش أي نافذة في تلك الأسوار الشاهقة. كنت وما زلت أعبر من دمعة إلى غصة ومن شهقة إلى أسى على مدى أكثر من عقد دون أن يهدأ ذلك الأنين الممطوط في دمي. كوارثي، مثل كوارث وطني، تعددت ونمت، صارت نكهتي وهواي، وعبقا مشئوما لخارطة وطن تعددت أشكالها مرارا حتى باتت تشبه رأس الكبش!. هل أنت جاد في الإصغاء لي يا أزيريه؟. عشرون يوما وزهور القرنفل والكاردينيا ودم العاشق والجوري تتفتح وسط الغبار والأتربة على الرصيف المحاذي لبيتنا دون أن يلتفت لها أحد. من يشتري الورد من أهالي "الومبي" الميتين في زمن الحصار والقحط والذبول!؟. أنت مجنون يا أزيريه، وحماقتي وحدها صدقتك. دعني أذكرك...، أذكرك بماذا!؟. كل قوارب نجاتنا ما زالت مشغولة بالصدمة، والنهر يجري سريعا يا أزيريه، والضفة الأخرى تبدو بعيدة، بعيدة جدا ".
ـ 3 ـ ألقى أوسم باللائمة على شقيقه ألكنائسي ودعاه إلى الكف عن الثرثرة والهذيان. كان كمن يشم رائحة ما من وراء ذلك الوعظ المكرر ويخشى من عواقبه، ولذلك أبعده عن لقاءاتنا المكررة في بيتهم ولم أعد أراه منذ موعظته الأخيرة. كان أوسم، على النقيض من شقيقه الشماس رومانسيا شديد الحساسية، يحلم بالضياع في أوروبا والتسكع في ثلوجها وبردها، وكان مصابا بمرض أل "أنتي نوستالجيا"، الذي من أشهر أعراضه عدم حب الوطن أو مسقط الرأس. كان على استعداد أن يتحول إلى شعرة في مؤخرة زنجي شديد القذارة مقابل الخلاص من شرنقة "الوطن"، وكنت أراه، طيلة ضياعنا في الحروب والمعارك كمن قدم من أقصى الحياة إلى أقصى الموت، دفعته الماسحات المطاطية إلى تلك المنطقة الضيقة والمغبرة التي لا تطالها، فلم يعد هناك بنظره شيء يستحق التقديس أو العبادة، أما التضحية والوطن والمبادئ والكرامة والقومية فكلها بنظره فقاعات فارغة ومزرية في مستنقع اللا وطن، أو كما وصفها مرارا في لحظات غضبه "بالضراط ألما ينفه". كان جندي حرب فاشل بنظر ضباط ومراتب الفوج في حرب الثمانينيات وما تلاها من حروب مثلما كان طالبا جامعيا فاشلا. ففي كل إجازة دورية كنت أبالغ في تودعيه، أحضنه وأشمه وأقبله، لأنني، رغم وعوده المفضوحة لي كنت على يقين أنه لن يعود، وهو لن يعود فعلا. أكتشف بعد شهور أنه موقوف في سجون الفيلق أو اللواء أو الفوج أو السرية، أزوره حاملا كل الأكلات التي يحبذها فيبتسم لي ابتسامة وديعة وشفافة، لا تختلف كثيرا عن ابتسامة شقيقه الأكبر أزيريه، وكانت عيناه القلقتان تشي ببريقها المأخوذ عن صحبة فريدة جمعتنا معا في شهقات الخوف والفزع، في لحاض ملؤها التردد من ملامسة الموت، أو من التحول إلى ضحية رسمية بنظر النظام، جثة "شهيد" تلف بالعلم العراقي المشئوم، علم النجمات العربية الثلاث، ثم ترسل إلى أقرب مركز للشرطة في مدينة القتيل!. كان أوسم فتى مسحورا بالأساطير والعبث والتمرد والبحث عن المجهول، حتى قصة حبه الوحيدة، قصة عشقه العذرية غير الكاملة كانت عبثية وغير مجدية فعلا. فقد ظل يواظب بعد تسرحه من الجيش على حضور قداس كنائسي يقام في كنيسة الصخرة. ثم يتعقب بعد انتهاء القداس بحذر عودة فتاة مسيحية جميلة إلى بيتها في حي الأندلس. كان على مدى عامين يكتب لها، أو لأوهامه رسائل حب رومانسية كي يقرأها لي مرارا أو يمزقها أو يحتفظ بها أحيانا، ولكن حين خذله العشق، رضخ صاغرا لنصائحي، فكتب ذات ليلة رسالة عاطفية مطولة، وتملكته شجاعة غريبة للمرة الأولى وربما الأخيرة. ذهب إلى "ليديا"، الطالبة الجامعية الحسناء، قال لها بارتباك: أنا أحبك، ورمى رسالته بين يديها. بعد يوم واحد اتصلت به ليديا وأجهشت بالبكاء، اعتذرت له عن كل ما كابده بسببها سرا، وظلت تواصل لقاءاتها الحميمة معه، لكنها بعد ثلاثة أشهر لا غير هجرته، والواقع أنها أنكرت حبها له وكرهته، قالت لي في لقائي الوحيد بها بعد القطيعة والنكران: كيف لي أن أقترن بشاعر بوهيمي صعلوك لا وطن له عدا الجملة الشعرية!؟، انه غير متدين، بل ملحد أصلا. كما انه لا يعنيه التعرف على فضائحنا الثمانينية والتسعينية من حروب وغزوات وهزائم وانتفاضة ومعارك شوارع وحصار وبؤس وحرمان وحصة تموينية ودوائية، كل هذا لا يأبه به قدر أن يبقى مشدودا في كل لقاءاته معي بحكايات وأساطير غرائبية هي أشبه إلى الخيال؟. لقد تحررت منه، أقسم لك بحق السماء أنني كنت في ورطة وها أنا أتخلص منها. سأدع صاحبك يواصل السباحة في عبادة الجمال المطلق واللامنتمي، وسأرمي خلفه وخلف هلوساته الحمقاء سبعة أحجار!. في صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى بيت أوسم فلم أجده. وحين سألت عنه لم أر من يكترث بسؤالي، والحق أنني لم ألمس من أفراد أسرته ما يوازي ربع قلقي عليه!. قالت أمه التي على ما أظن كانت إحدى شخصيات روايات أجاثا كريستي انه غالبا ما كان يختفي ثم يعود، ذلك هو ديدنه منذ عقود. تذكرت صومعته الساحلية التي طالما ذكرها لي فذهبت إلى العشار، سرت بموازاة نهر العشار حتى وصلت إلى نقطة التقائه بشط العرب. نزلت بحذر إلى الشاطئ الطيني فوجدته يجلس بين الصخور قبالة سفينة صغيرة جاثية ونصف مقلوبة منذ أعوام. سلمت عليه وجلست إلى جانبه. لم يفاجأ بي ولم يبد أي رد. ظلت ملامح وجهه جامدة، لكنه رمقني بنظرة فاحصة وتأكد له أنني لم أجلب له شيئا. كان يدير ببطء بكرة الشص ويرقب اهتزازات القطعة الفلينية الطافية، وحالما شاهدها تغطس وتظهر بسرعة مبتعدة عنه سحب خيط النايلون بمهارة فظهرت صنارتان معلقة بإحداهما سمكة صغيرة. قربها منه ومسكها بتؤدة ثم خلصها من قوس الصنارة ورماها إلى جانبه في بركة صغيرة كانت تحوي أكثر من خمسة أسماك. لم أحاوره في ذلك النهار الشتوي المشمس، ظللت صامتا أرقب موجات النهر والقوارب ونخيل التنومة. وفي الغروب اقترح علي أن نتناول "لفتي سمبوسة" من محل أبي عباس ثم لملم أغراضه وأعاد الأسماك التي اصطادها إلى النهر، وحين سألته عن جدوى تلك الساعات الطويلة التي قضاها في ذلك النهار أجابني بهدوء أنه كان يمارس اليوغا. ولكن أية يوغا يا الهي؟!، هل يدرك أوسم الآن قسوة هزيمته؟، أم أنه سعيد بهذا التدحرج الممل في مستنقع النكسات؟. سيهزم حتما أيضا، سيفشل ابن اللاوطن حين يتوهم أنه عثر على وطن بديل عن " وطنه" الأخاذ، اللامتناهي، الذي أغدق عليه بكل هذه الآلام والمخاطر والنكسات والهزائم. وطن جعله في حالة استنفار دائم أمام خطر ما قادم. استنفار وحشي ومدمر وشكاك إزاء شظية محروقة الحواف أو طلقة مجهولة الهوية تتقدم نحو جبهته بأقصى سرعة، تقطع المسافات اللامرئية وتقترب من شريانه الأبهر. هو لا يراها قطعا، لكن طنينها المدوي يتلبسه، يشعره دائما بخطرها القادم ويجعله في حالة استنفار. لكن أوسم ابن أل "أنتي نوستالجيا" كان على حق، فهو يدرك تماما أنه انفصل منذ عقود، فطريا وحياتيا عن وطنه، وتلك القطيعة الأبدية لا تسمح بعقد أوهن صلة بينهما حتى بعد قيام الساعة. إنهما انفصلا تماما مثلما ينفصل رأس الدجاجة عن جسدها وسط بقعة دم. لكنه يدرك أيضا استحالة العيش بلا "وطن"، فاختار "اللاوطن" الذي أباح له الضياع بلا قيود ولا أعراف، وأغدق عليه بالمزيد من الهزائم والخطر أل "ما، قادم" فصار ما يعنى لنفسه لا يشبه إطلاقا ما يعنى لجسده. هناك انفصال داخلي أيضا، انفصال بيولوجي يبيح للجسد ما لا يبحه للنفس، ويمنح النفس هالة من التجاذب المطلق، بينما يترك الجسد يرمم طعناته كيفما يشاء ولكن بلا هدنة مؤقتة لهذا الصراع المحموم في كل طرائقه ونوباته الحادة، وفي كل بحثه الدؤوب من دون جدوى عن وطن ما بديل يؤويه داخل صحارى اللا وطن، داخل أل أنتي نوستالجيا، ذلك المرض الجميل والمحبب الذي هام به وكثيرا ما أبدى فخره بالإصابة به!. لقد كتب على هذا الفتى الضال أن يحيى في موته أو يموت زاعما انه حي ولكن بلا وطن، عدا ذلك الجرح الخفي الذي طالما جاهد في نسيانه أو الاستخفاف به، لكنه كلما حاول التحرش به، سخر الجرح منه ومن هزائمه وبان في بريق عينيه هاتفا: لقد غلبت الحمير بحمل أسفارك العديدة يا أوسم، وها أنت تطرد من جنة الحبيبة ليديا، من أقصر قصة حب عاثر بدأت بدموع ليديا وانتهت بغضبها وسخطها وقطيعتها الدائمة أيضا من جنونك وعبثك الذي سيضمك بخشوع إلى مملكة الحفاة الصعاليك الباحثين عن عالم المثل الموجود فقط في حديث أزيريه، ذلك العالم السامي الذي لا يطاله التغير والفساد، المنفصل بإرادته مثلك عن الواقع المحسوس، عن ذلك الوطن الذي أحرقك بحروبه وهزائمه فانفصلت عنه ورحت تبحث في اللاوطن عن قلب يؤويك حاملا بيديك الواهنتين شعلة أل أنتي نوستالجيا وكأنك بروميثيوس البصرة. هل كنت تستحق من ليديا ما هو أكثر من ذلك؟. نعم، كنت تستحق بصقة.
|